الأربعاء، 16 ديسمبر 2009

حصريا على LBS

شـــوف تـــشـــوف
حصريا على LBS

سيارة فارهة مكسورة الواجهة الأمامية، زجاج نافذتها الأمامي والجانبي مهشم. رجال جرحى مرميين فوق الطريق يتضورون ألما. حراس أمن يتراكضون مذعورين ورجال أمن يحيطون بالسيارة المهاجمة. عندما شاهدت الشريط المصور بالهاتف لهذا المنظر، اعتقدت أول الأمر أنه مصور من قناة فضائية لمنظر في غزة، حيث تكثر مناظر الأجساد النازفة المرمية في الشوارع هذه الأيام. لكن صاحب الشريط نبهني إلى أن المنظر حدث عندنا في المغرب، وبالضبط أمام باب محطة القطار بالقنيطرة بعد زوال يوم الجمعة الماضي.
ففي الوقت الذي كان المحجوب بن الصديق، الأمين العام للاتحاد المغربي للشغل، يتابع في الصفوف الأمامية افتتاح مؤتمر حزب الاستقلال، مستمعا إلى عباس يؤلف قصيدة غزل في إنجازاته الحكومية وعلى رأسها الحوار الاجتماعي والاستجابة لمصالح الطبقة العاملة، كانت ليلى بن الصديق، ابنة الأمين العام للاتحاد المغربي للشغل، تطحن وتدوس بعجلات سيارتها «الجاغوار» أجساد ثمانية مستخدمين في شركة الحراسة التي تملكها، كانوا معتصمين في المحطة احتجاجا على عدم صرف أجور رواتبهم المتأخرة.
عندما رأت ليلى مستخدمي شركتها يقفون في طريقها طلبت من سائقها أن يخترق صفوفهم، وعندما رفض أخذت منه عجلة القيادة وصدمتهم وشتتت ثمانية منهم على الطريق (أنظر الصور في التحقيق بالصفحة 5)، أحدهم تمسك بمقدمة السيارة فطوحت به بعيدا إلى أن اصطدم جسده بالباب الحديدي للمحطة. بعدها خرجت حاملة سكينا وعبوة مسيلة للدموع، وكسرت زجاج سيارتها بضربة سكين وهي تسب وتلعن.
وعندما جاء رجال الأمن وأوقفوا السيارة وسائقتها الهوجاء، أدخلوها إلى مرآب السيارات الموجود بالمحطة ووضعوا أمام عجلاتها حجارة كبيرة حتى يمنعوا هروبها. ومع ذلك حاولت لبنى مغادرة المكان وارتطمت بالحجارة وكسرت خزان الوقود، ومعه سيارات كثيرة كانت مركونة بالمحطة.
وبعد ذلك نزلت «الكاسكادورة» من سيارتها، واشترت «كانيط» كوكاكولا من محلبة قريبة من المحطة، وبدأت تتفرج على المجزرة التي ارتكبتها وهي تحمل في ذراعها كلبها «الكانيش»، غير آبهة بما اقترفت في حق هؤلاء المواطنين البسطاء الذين ينتمون إلى الطبقة العاملة التي يتحدث عنها عباس في مؤتمره أمام الأمين العام للاتحاد المغربي للشغل، والد ليلى بن الصديق.
رجال الأمن قاموا بواجبهم واعتقلوا ليلى بن الصديق ووضعوها رهن الحراسة النظرية. وعوض أن تسأل عن حال المستخدمين الذين داستهم ظلت تسأل عن كلبها «الكانيش» وتوصي بحمايته من البرد. لكن مقام ليلى عند الأمن لن يطول. فقد تم الإفراج عنها فجر يوم السبت بعد أن وقع المستخدمون المصابون على تنازل يجنب لبنى المتابعة القضائية بتهمة الإيذاء العمدي للغير، مقابل حصولهم على مستحقاتهم وتعويضات عما لحقهم من أضرار وعدم طردهم من العمل.
ما وقع في القنيطرة يعيد طرح سؤال الإفلات من العقاب مجددا. ويعيد إلى الأذهان قصة «بنت الفشوش»، مارية بنجلون التي دهست في قلب الرباط شرطية مرور تجرأت وأوقفتها بعد مخالفة مرورية، وأطلق سراحها بعفو خاص. وقصة سائق «الجاكوار» الذي دهس حارسي فندق «الأونفتريت بالاص» بالصخيرات وزور الكولونيل التريكي محضره، ولم يقدم أمام المحكمة العسكرية بسبب ذلك. وقصة المهندس ابن والي طانطان الذي دهس بسيارته مواطنا بسيطا عائدا إلى بيته بطعام الإفطار خلال رمضان الماضي، وهاجم بسيارته «الزيبرا» رجال شرطة في الطريق، وفي الأخير حكمت المحكمة ببراءته من المنسوب إليه لكونه يعاني من مشاكل نفسية.
عندما تدوس ابنة زعيم نقابي أجساد ثمانية من مستخدميها لمجرد أنهم اعتصموا أمام محطة القطار مطالبين بصرف رواتبهم، ويتم إطلاق سراحها بعد التوصل إلى اتفاق بينها وبين ضحاياها، نتساءل عن دور النيابة العامة في هذه النازلة. لماذا لم تحرك المتابعة في حق ليلى بن الصديق بتهمة الإيذاء المتعمد للغير. فتنازل الضحايا لليلى بن الصديق عن مطالبهم المدنية لا يعفي النيابة العامة من تحريك الدعوى العمومية ضدها.
الخطير في ما قامت به ابنة المحجوب بن الصديق، هي أنها كشفت عن الوجه الحقيقي لبعض المقاولات والشركات التي تستغل مستخدميها وتسلبهم حقوقهم المشروعة. والأخطر هو أن تكون إحدى هذه الشركات مسيرة من طرف ابنة أقدم نقابي كالمحجوب بن الصديق شيد «مجده» على ظهر الطبقة العاملة التي ظل يمثلها منذ أكثر من خمسين سنة.
وعندما تعلق الأمر بابنته فقد حرك المحجوب كل الهواتف التي في مفكرته لكي يتم طي هذا الملف بدون «شوهة» في وسائل الإعلام. خصوصا مع توقف مسلسل الحوار الاجتماعي أمام الباب المسدود، واستعداد النقابات العمالية لتسخين الطرح مع عباس.
إن أول شيء يجب أن يقوم به كريم غلاب، وزير النقل الاستقلالي، والمسؤول عن قطاع السكك الحديدية الذي وقع عقد شراكة مع شركة الأمن التي تملكها ليلى بن الصديق لحراسة محطات قطارات الخليع، هي أن يفسخ هذا العقد فورا. لأن مالكة الشركة أعطت درسا سيئا في احترام مدونة السير التي يهلل لها غلاب في البرلمان. فأية مصداقية ستبقى لهذه المدونة ولدروس اللجنة الوطنية للوقاية من حوادث السير في التلفزيون والراديو، إذا بقيت شركة هذه السيدة مشرفة على أمن محطات القطارات في المغرب، وهي تقدم للمواطنين أقبح مثال في كيفية خرق قانون السير والاعتداء على سلامة الراجلين بسيارتها.
بل أية مصداقية ستبقى لوالدها الزعيم النقابي الخالد الذي ينتصر لابنته التي تهضم حقوق عمالها ومستخدميها وتعتدي عليهم وتقايض صمتهم وإعراضهم عن متابعتها قضائيا بحفنة من المال، عوض الانتصار لحقوق الطبقة العاملة التي استحلى الركوب على ظهرها منذ خمسين سنة ويرفض النزول إلى اليوم.
إن هذا المثال السيئ الذي قدمته ليلى بن الصديق لا يكشف فقط عن مدى احتقارها للطبقة العاملة، بل عن مدى احتقار من يسيرون بعض النقابات للطبقة العاملة التي أوصلتهم إلى ما هم فيه من سلطة وثراء.
وبالأمس سمع الجميع كيف فضح شباط غريمه بنجلون الأندلسي الكاتب العام السابق للاتحاد العام للشغالين للمغرب والمسؤول عن الجامعة الحرة للتعليم التابعة لحزب الاستقلال، بعد أن اتهمه بتبديد أموال النقابة في اقتناء السيارات، وعدم دفع النقابة لواجبات انخراط مستخدميها لصندوق الضمان الاجتماعي، رغم اقتطاع ذلك من رواتبهم الشهرية.
والكارثة أن بنجلون الأندلسي، الذي ظل يحرم مستخدمي نقابته من دفع أقساط الانخراط في صندوق الضمان الاجتماعي، هو رئيس الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني. وهذه أكبر إهانة لفلسطين ولكفاح الفلسطينيين، خصوصا في هذه الأزمنة الصعبة التي تجتازها القضية الفلسطينية.
هؤلاء إذن هم ممثلو الكفاح العمالي وناصرو الطبقات الشعبية المستضعفة في المغرب، والمدافعون عن الكفاح الفلسطيني.
يحرمون عمالهم من حقهم في التقاعد، ويحرم أبناؤهم مستخدميهم من رواتبهم، ويستعبدونهم في شركاتهم، وفي الأخير عندما يفتحون أفواههم ويطالبون بصرف رواتبهم يدوسونهم بسياراتهم الفارهة، قبل أن يقايضوهم دماءهم وجراحهم وكسورهم وكرامتهم بحفنة من المال.
ما وقع في محطة القطار بالقنيطرة يفتح أيضا ملفا شائكا وهو ملف شركات الحراسة التي تشغل عشرات الآلاف من المستخدمين بألف وخمسمائة درهم في الشهر، أغلبهم بدون عقود وبدون تعويضات عن ساعات العمل الطويلة وبدون ضمانات قانونية.
إن مأساة عمال شركة «LBS» لا تسائل فقط مديرتها ليلى بن الصديق، وإنما أيضا وزير النقل والتجهيز كريم غلاب الذي وافق على عقد شراكة معها على الرغم من قراءته لعشرات المقالات التي تتحدث عن تماطل هذه الشركة في صرف مستحقات مستخدميها.
هناك اليوم عشرات الوزارات والمؤسسات العمومية التي لديها عقود مع مثل هذه الشركات التي تستغل المستخدمين وتمتص دماءهم وتعاملهم كعبيد، ومع ذلك يتحدث وزراء ومديرو هذه المؤسسات بوجه أحمر عن الحوار الاجتماعي والدفاع عن مصالح الطبقة العاملة، وهم يرون كيف تداس حقوق الطبقة العاملة أمام أبواب وزاراتهم والمصالح التابعة لها.
طبيعي إذن أن يصل الحوار الاجتماعي إلى الباب المسدود. فالنقابات يسيرها زعماء يطحن أبناؤهم حقوق المستخدمين في شركاتهم، والحكومة التي تنادي بتطبيق الحد الأدنى للأجور عاجزة عن تطبيق هذا القرار حتى على الشركات التي تعهد إليها بحراسة أبواب مقراتها، و«المزود محاس بيه غير المخبوط بيه». خصوصا إذا كان هذا «المزود» بحجم سيارة «جاكوار».

صلاة الغائب

شـــوف تـــشـــوف
صلاة الغائب

طالب خالد السفياني بالقيام بصلاة الغائب بعد صلاة الجمعة في كامل مساجد المملكة ترحما على أرواح الشهداء الذين سقطوا في غزة. شخصيا أعتقد أن صلاة الغائب يجب أن تكون أيضا على ضمائر القادة والزعماء العرب، وليس فقط على أرواح الشهداء الفلسطينيين. لأنه من العار أن يغضب ويهدد ويصف ما تقترفه إسرائيل في غزة بالبقعة السوداء في تاريخ اليهود والإنسانية رئيس دولة علمانية كتركيا، ويطرد رئيس دولة مسيحية كفنزويلا سفير إسرائيل من بلاده، بينما قادة الدول العربية التي تنص دساتير بلدانها على كون الإسلام هو دينها الرسمي، لا يكلفون أنفسهم سوى المطالبة بوقف العنف في غزة، مطالبين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي والمنتظم الدولي بتحمل مسؤولياته. وكأن هؤلاء الزعماء والقادة متحررون من أية مسؤولية أخرى تجاه فلسطين غير التنديد والشجب والإدانة.
وكأنهم لم يستوعبوا جواب البيت الأبيض على رسائل احتجاجهم وبياناتهم الغاضبة، عندما أصدر ساكنه بمناسبة وصول شهداء القصف الهمجي الإسرائيلي إلى 700 شهيد وآلاف الجرحى برقية عزاء لروح القطة الأولى «ويلي» التي أسلمت الروح داخل البيت الأبيض مخلفة حزنا عميقا في نفوس أفراد عائلة بوش. ولو أن «ويلي» الحقيقية هي التي يجب أن نقولها نحن ونلطم معها خدودنا بسبب هذا العجز العربي المخزي، ونحن نرى كيف يخرج عرب إسرائيل في تل أبيب للتظاهر تضامنا مع إخوانهم في غزة، بينما تمنع شرطة عباس الفلسطينيين من التظاهر في بيت لحم وغيرها من المدن، ويعطي حسني مبارك الأوامر لحرس حدوده لكي يطلقوا النار على كل من يقتحم المعبر هربا من النيران الإسرائيلية.
والتبرير الغبي الذي يسوقه هؤلاء القادة الأشاوس لمشاركتهم في الجريمة، هو أن حماس تتحمل مسؤولية ما يقع في غزة. وهم في هذا التحليل يشتركون مع ما يسوقه الناطق الرسمي باسم حكومة إسرائيل، وهو بالضبط ما ردده هذا «الممثل» مثل ببغاء في نشرة أخبار أمس بقناة الجزيرة التي ربطت الاتصال به.
وهؤلاء القادة وجيشهم العرمرم من المحللين والصحافيين، الذين لدينا جزء منهم في صحافتنا بالمغرب، ينسون أن إسرائيل لا تريد رأس حماس من خلال كل التصفية العرقية والإعدام الجماعي الذي تمارسه منذ أسبوعين في غزة، وإنما تريد مسح القطاع من الوجود. أو كما تمنى شارون دائما، إلقاء غزة في البحر.
والدليل على ذلك أن إسرائيل عندما اقترفت مذابحها السابقة في دير ياسين وكفر قاسم وصبرا وشاتيلا لم تكن حماس ولا فصائلها موجودة أصلا في فلسطين. ولم تكن تهطل على الأراضي الفلسطينية التي تحتلها إسرائيل أية صواريخ. فما الذي دفع الجيش الإسرائيلي ومليشياته آنذاك لتذبيح الفلسطينيين وأطفالهم ونسائهم. إن ما دفع إسرائيل لاقتراف تلك المذابح هو بالضبط ما يدفعها اليوم لاقتراف مذابح غزة. وهو بالضبط ما قاله الدبلوماسي «ستيفان هيسيل» في الحلقة المتميزة التي بثتها القناة الثالثة الفرنسية مساء الخميس ضمن برنامج «سو سوار أو جامي» لصاحبه «طاديي»، عندما قال بأن إسرائيل لا تريد السلام مع العرب والفلسطينيين. فهل يفهم بعض المتحمسين «سكر زيادة» لأوهام السلام من جانب واحد، أن أخشى ما تخشاه إسرائيل هو السلام. لأنها تتوسع بالحرب، وكل المناطق التي توسعت فيها كانت بعد حروب همجية روعت وأرهبت سكانها الأصليين لكي يتركوها للمستوطنين الإسرائيليين.
وكل من تابع تلك الحلقة المتميزة، اكتشف الوجه الحقيقي للمؤرخ اليهودي الفرنسي «أليكسندر آدلر»، الذي استدعته إحدى المؤسسات البنكية المغربية قبل شهر لكي يقتسم طاولة المحاضرات إلى جانب صلاح الدين مزوار وزير المالية ويتحدث لها عن قوة ومناعة النظام البنكي المغربي ضد الأزمة الاقتصادية العالمية.
فقد سقط القناع عن وجه «آدلر» عندما عرض منشط البرنامج صور الأطفال الذين أحرقت نيران الجيش الإسرائيلي أجسادهم الصغيرة، وصور الخراب الوحشي الذي طال البيوت والمستشفيات والمدارس، فتوجه طارق رمضان نحو «آدلر» وسأله هل يدين هذه الأعمال الوحشية، فأجابه هذا الأخير بأنه لا يدينها.
بمعنى أنه يباركها ويشجع عليها. موقف «آدلر» العنصري والمؤازر لسياسة العدوان الإسرائيلي لا يختلف كثيرا عن موقف المغني «إنريكو ماسياس» الفرنسي من أصل يهودي جزائري، والذي تظاهر أمام السفارة الإسرائيلية في باريس مشجعا حملة التطهير العرقي التي يشنها الجيش الإسرائيلي في غزة. وهذان العنصريان ينزلان عندنا في المغرب كضيوف شرف معززين مكرمين. الأول سمعنا صوته من خلال قراءته لعموده الأسبوعي عبر مايكروفون «إذاعة ميدي 1» التي تبث من طنجة، بعد أن دبر له «كولومباني» مدير «لوموند» السابق في هذا «البريكول» عند ابن بلده «كازالطا» مدير الإذاعة. والثاني يزور المغرب لإحياء حفلات خاصة بالملايين لبعض الأثرياء المغاربة.
أعتقد أن ما يحدث في غزة، رغم شراسته وهمجيته، فيه جانب إيجابي. فداخل كل نقمة هناك نعمة لا يراها سوى أولي الأبصار. أهم شيء يمكن أن نستنتجه مما يحدث في غزة، هو أن صورة إسرائيل في العالم اليوم أصبحت ملطخة بدماء الأطفال. ورغم أن وزيرة خارجية إسرائيل تمارس سياسة «موت أحمار» عن طريق محاولة لعب دور ضحية صواريخ حماس، فإن العالم اكتشف المؤامرة وانتهت إسرائيل منبوذة في كل الأمكنة التي يذهب إليها رياضيوها. وقبل أمس ضربوا لاعبي فريق كرة السلة الإسرائيلي في تركيا بالأحذية، وبالأمس تعرضت لاعبة التنس الإسرائيلية «شاهار بير» في نيوزيلاندا لحملة احتجاجية أمام الملعب نظمها متعاطفون مع فلسطين. وهذا يعني أن الحضور الإسرائيلي في العالم سيلاقي حملات معادية بسبب ما يقترفه جيش الاحتلال من جرائم ضد الإنسانية في غزة.
وبالإضافة إلى تلطيخ صورة إسرائيل بدماء الأطفال الأبرياء وإدانة كل أحرار العالم للهمجية الإسرائيلية، ساهمت صور هؤلاء الأطفال المقتولين في إذكاء شعلة القضية الفلسطينية في قلوب الأجيال الجديدة من أطفال ومراهقي وشباب العرب والمسلمين عبر العالم، بعد أن خبت شراراتها في السنوات الأخيرة بسبب التطاحن الفلسطيني الداخلي. إذ لم تشهد قضية فلسطين منذ حرب 1967 حضورا قويا كالذي تشهده اليوم في الساحة العربية والدولية.
مسؤوليتنا نحن كصحافيين، ومسؤولية السياسيين والبرلمانيين والحقوقيين، هي أن يناضلوا جميعا من أجل الوقوف صفا واحدا ضد الهمجية الإسرائيلية لكي تتوقف المجزرة أولا، كما قال «إلياس صنبر» في حلقة الخميس من برنامج «طاديي»، وأن يضغطوا بكل ما في أيديهم من وسائل، سواء عن طريق الدعوة إلى محاربة التطبيع مع إسرائيل أو فضح كل الداعين إلى كسر جدار هذا التطبيع، سواء كان اقتصاديا أو سياسيا أو فنيا.
هناك اليوم بعض الأصوات التي تكتب معلقة على موجة الدعم غير المسبوقة لصالح غزة، منتقدين كون هذا الدعم كان أولى به أن يذهب إلى سكان «أنفكو». كما أن هناك من يكتب منتقدا استشهاد القيادي في حماس نزار ريان في بيته مع زوجاته الأربع وأطفاله، ساخرا من موته في منزله عوض حمله للسلاح في الميدان. وهناك من يكتب مرددا مثل ببغاء كلام وزيرة الخارجية الإسرائيلية وساركوزي، منتقدا وجود القيادات السياسية لحماس في سوريا ولبنان عوض وجودها في غزة، ويحمل هذه القيادات ما يقع اليوم من إعدام جماعي للأسر والعائلات.
هؤلاء يتحدثون عن وجود قادة حماس السياسيين في المنافي وكأن هؤلاء القادة يوجدون خارج أرضهم في رحلات سياحية، بحيث لم يكرههم أحد على مغادرة بيوتهم وأهلهم.
مثل هذه الكتابات والمواقف لا تسيء إلى حماس أو إلى القضية الفلسطينية، وإنما تسيء إلى أصحابها. لأن المطلوب الآن ليس محاكمة حماس أو صواريخها، وإنما محاكمة إسرائيل ومحاصرتها وتجفيف كل منابع التطبيع معها.
ولعل مسؤولية النواب البرلمانيين والأحزاب السياسية المغربية اليوم هي الإجماع على صياغة قانون جنائي يجرم التطبيع مع العدو الصهيوني في المغرب. فإسرائيل تقاتلت من أجل وضع قانون يجرم إنكار المحرقة اليهودية، وتحاكم بموجبه كل من يشكك في أرقام ضحايا «الهولوكوست». واليوم يعيش الكوميدي «ديودوني» حصارا خانقا من طرف اللوبي الإسرائيلي في الإعلام الفرنسي بسبب منحه لجائزة لأشهر أستاذ جامعي ينكر وجود المحرقة اليهودية، وألغت الشركة التي تتعهد حفلاته ثلاثة عروض كانت مبرمجة هذه الأيام في ثلاث مدن فرنسية.
على سياسيينا وممثلي الأمة أن يستفيدوا من الدرس، وأن يخرجوا قانونا جنائيا إلى الوجود يعاقب كل من تثبت في حقه تهمة التطبيع مع إسرائيل.
وهذا أضعف الإيمان.

الثعلب والنعامات

شـــوف تـــشـــوف
الثعلب والنعامات

هؤلاء الزعماء العرب ليسوا فقط عاجزين عن اتخاذ موقف واضح مما يحدث في غزة، بل أكثر من ذلك يحاولون تسويق جبنهم وتخاذلهم وتواطئهم على أنه شجاعة وحصافة وتضامن وبعد نظر. فلا هم قادرون على طرد سفراء إسرائيل من عواصمهم ولا هم قادرون على استعمال سلاح النفط الذي في أيديهم.
وإلى حدود اليوم بقي «الكنس» القادة العرب، كما ينطقها الأشقاء في مصر، وحدهم ثابتين على موقفهم الجبان والمتخاذل، بعد أن عبرت الأجناس البشرية الأخرى من فرس وترك ولاتينيين عن مواقف شجاعة وعملية، لعل أوضحها هو طرد الرئيس الفينيزويلي «هوغو تشافيز» للسفير الإسرائيلي من عاصمته، ولو طلب رأيي لقلت له أن يكمل خيره ويطرد كل سفراء الدول العربية المعتمدين لديه.
أما العربية السعودية التي دعتها إيران إلى استعمال سلاح النفط لوقف العدوان على غزة، فقد جاء جوابها واضحا على لسان وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل الذي قال بأن النفط ليس سلاحا وأن مصدريه بحاجة لعائداته.
والأمير الفيصل معه حق عندما يقول بأن الدول العربية المصدرة للنفط بحاجة إلى عائداته. فمعظم هذه الدول تعيش على اقتصاد الريع الذي أنتجته الطفرة النفطية، وصاروا يعيشون على ارتفاع أسعار براميل النفط في الأسواق العالمية، ولم يفكروا في بدائل اقتصادية أخرى يمكن أن يعيشوا منها خارج النفط والغاز ومشتقاتهما. الدول النفطية العربية ولا تستطيع أنظمتها أن تتخلى عن عائدات النفط، فالجزائر وليبيا والسعودية الكويت ومعها دول الخليج المصدر للنفط والغاز، يمكن أن يختنق اقتصادها بمجرد توقيف التصدير لشهر واحد. وإذا كان الأمير فيصل معه حق عندما يقول بأن مصدري النفط العرب بحاجة لعائداته، فإنه ليس محقا عندما يقول بأن النفط ليس سلاحا. إنه سلاح، بل أقوى سلاح في هذه الأزمنة الصعبة التي يعيشها الاقتصاد العالمي.
وما على الأمير سعود الفيصل سوى أن يتأمل أزمة الغاز بأوربا، وكيف تستعمله أوكرانيا اليوم كسلاح لإجبار روسيا على عدم رفع أسعار تموينها من الغاز الروسي. فقد وافقت أوكرانيا على رفع أسعار الغاز الروسي شريطة أن ترفع هي أيضا تسعيرة مرور الغاز الروسي نحو دول الاتحاد الأوربي. يعني هذه بتلك.
هؤلاء أحسنوا استعمال استخدام الغاز كسلاح. فقد انتظروا فترة الذروة التي يقبل فيها الأوربيون على استهلاك الغاز للتدفئة بسبب موجة البرد الشديدة التي تجتاح القارة العجوز، لكي يشهروا أسعارهم الجديدة، ويقطعوا إمدادات الغاز من أجل فرض شروطهم على المستهلكين الأوربيين.
أما الدول العربية التي تملك نصف احتياطي الغاز والبترول في العالم، إلى درجة أن مجرد التلويح بإمكانية توقيف إمدادات النفط والغاز لأوربا وأمريكا وإسرائيل من شأنه أن يزعزع أقوى البورصات العالمية، فإنهم يعترفون بعجزهم عن استخدام هذه الثروة كسلاح لمجرد إيقاف القصف على إخوانهم في غزة.
الوحيد الذي هدد هذه الأيام بإيقاف إمدادات النفط ضد دولة أوربية، كان هو العقيد معمر القذافي. لكن ليس احتجاجا على سقوط أكثر من 700 شهيد فلسطيني، ولكن بسبب عدم اعتذار سويسرا عن قيامها باعتقال ابنه حنيبعل وزوجته بعدما تورط الاثنان في تعذيب خادميهما في الفندق.
لو قرر الأمراء العرب الذين لديهم في المصارف الأمريكية حسابات مودعة بملايير الدولارات فيما يسمى بـ«الحسابات البنكية السيادية»، أن يسحبوا هذه الأموال، أو ما تبقى منها، احتجاجا على ما يحدث لإخوانهم في غزة بسبب القنابل الأمريكية الصنع، لفكر ساكن البيت الأبيض ألف مرة قبل أن يقول بأن إسرائيل من حقها أن تدافع عن نفسها ضد الإرهاب.
سيقول قائل أن «الحسابات السيادية» لهؤلاء الأمراء العرب الأثرياء في أمريكا كانت أول من تلقى الضربات الموجعة بعد انهيار البورصات والبنوك الأمريكية الكبرى. ولكي نفهم لماذا تم ضرب «الحسابات البنكية السيادية» للعرب بأمريكا، ولماذا قال وزير الخارجية السعودي بأن النفط ليس سلاحا، يجب أن نعيد قراءة مقال الثعلب الأمريكي «هنري كسنجر»، وزير الخارجية الأسبق، الذي لازالت «وصاياه» الاقتصادية والسياسية بمثابة الإنجيل الذي يطبق البيت الأبيض تعاليمه بالحرف.
كتب «كسنجر» في 19 من سبتمبر الماضي من سنة 2008 مقالا في صحيفة «الانترناشيونال هيرالد تربيون»، بالتعاون مع البروفيسور «مارتن فيلشتاين»، أستاذ الاقتصاد بجامعة «هارفارد» وأحد كبار المستشارين الاقتصاديين للرئيس «رونالد ريغان»، يحذران فيه من تكدس مليارات النفط في الخليج ومن صناديق الثروة الخليجية ويدعو الغرب لتقليص قدرة أوبك حتى لا يتحول التأثير من اقتصادي إلى سياسي. وقال أن ارتفاع أسعار النفط، أدى إلى انتقال الثروات من منطقة بالعالم إلى أخرى، حتى أن دول «أوبك» حصلت خلال 2008 فقط على ما يصل إلى تريليون دولار (ألف مليار). «كيسنجر» الذي تطبق الإدارة الأمريكية تعاليمه بالحرف سبق له أن طالب بوضع إستراتيجية أمريكية لتجويع العرب وفق مبدأ الغذاء مقابل النفط، خصوصا بعدما تجرأ العرب على استخدم النفط كسلاح في حرب أكتوبر 1973 . ومن هنا جاءت دعوة «كيسنجر» لتطوير إستراتيجية سياسية جديدة لمواجهة «الحسابات البنكية السيادية» الناجمة عن تراكم عائدات النفط خوفا من قيام منظمة «أوبك» باستعمال أرصدتها المالية الكبيرة للابتزاز السياسي والاقتصادي.
خوف ثعلب البيت الأبيض العجوز من أرصدة الأمراء والأثرياء العرب بالبنوك الأمريكية ليس فقط بسبب الخوف من استعمال هذه الثروات للابتزاز السياسي، وإنما لكون تلك الأرصدة أصبحت توظف لشراء شركات أمريكية بالكامل.
ولتجفيف هذه الثروات تفرض أمريكا على الدول البترولية، وعلى رأسها السعودية، «تبديد» ثرواتها في اقتناء أسلحة باهظة الثمن لا حاجة لها بها. وها نحن نرى كيف أن إسرائيل تحرق وتشوي أطفال غزة أمام أنظار العربية السعودية التي تملك أحدث الأساطيل الحربية وأكثر الأسلحة الأمريكية تطورا.
هكذا نفهم بشكل أحسن لماذا قال وزير الخارجية السعودي ردا على إيران، بأن النفط ليس سلاحا.
فالسعودية، ومعها الدول المصدرة للنفط المنضوية تحت لواء منظمة «أوبك» ليسوا مستعدين لتكرار تجربة 1973 عندما قطعوا النفط عن الأوربيين وأجبروهم على التحرك بالدراجات الهوائية للحاق بمقرات عملهم، فدفع العرب ثمن ذلك مضاعفا من بترولهم وسيادتهم.
ومنذ 1973 وإلى اليوم لم يستفد العرب من الدرس، ولم يستعملوا عائدات النفط لتطوير مناهج تعليمهم وتشجيع البحث العلمي وتكوين وتأهيل الموارد البشرية استعدادا للمستقبل بالعلم والمعرفة. كل ما صنعوه هو تعلم الكسل والخمول وفتح بلدانهم لليد العاملة الأجنبية الرخيصة التي استعبدوها في قصورهم وشركاتهم، بينما حولوا عائدات ثرواتهم النفطية للبنوك الأمريكية التي تبتزهم اليوم تحت ذريعة الأزمة الاقتصادية العالمية.
وفي هذا الوقت طورت إسرائيل قدراتها الحربية والعلمية وفرضت هيمنتها على العالم عبر إعلامها ولوبياتها القوية في التجارة والصناعة والسياسة. وعلى طول أرض فلسطين التي احتلتها واستوطنتها إسرائيل لا توجد مادة أخرى خام فوق أو تحت ترابها غير المادة الرمادية التي في الدماغ. وفي الوقت الذي كان العرب يقتلون هذه المادة ويجبرونها على الهجرة، كانت إسرائيل تستقطبها وتطورها وتراهن عليها من أجل الهيمنة.
لكي تفهموا أكثر لماذا تحاصر إسرائيل غزة وتجوع أهلها، ولماذا تخاف السعودية من استعمال النفط كسلاح، يجب أن تعودوا لقراءة وصايا الثعلب «هنري كسنجر». فما كتبه قبل ثلاثين سنة هو بالحرف ما تطبقه الإدارة الأمريكية ومعها إسرائيل.
هؤلاء يسيرون وفق مخطط محكم تتحالف فيه الصليبية التي رفع لواءها بوش يوم احتلاله للعراق مع إسرائيل ضد العرب والمسلمين. وعلى الذين يغمضون أعينهم اليوم عما يقع في غزة أن يعرفوا أن ذلك الخراب والشواء الآدمي يمكن أن يصل إلى أعتاب بيوتهم ذات يوم إذا ما استمروا في دفن رؤوسهم في الرمال مثل النعام.

كلنا فلسطينيون

كلنا فلسطينيون

بعد أحد عشر يوما من التطهير العرقي الإسرائيلي بغزة أصدر البيت الأبيض أخيرا تعزية. لكن ليس من أجل أرواح 680 شهيدا أزهقت الآلة العسكرية الإسرائيلية أرواحهم، بل من أجل روح القطة «ويلي» التي وافاها الأجل المحتوم عن سن يناهز 18 سنة.
والقطة «ويلي» هي القطة الأولى في أمريكا، على وزن السيدة الأولى «لورا بوش»، التي عبرت رفقة ابنتيها «باربارا» و«جينا» عن حزنهن البالغ لرحيل «ويلي». وقد غطى خبر رحيل القطة «ويلي» في بعض الجرائد الأمريكية على أخبار رحيل المئات من الفلسطينيين في غزة، حتى أن صحيفة «دالاس مورنينغ نيوز» حكت عن معاناة القطة السوداء «ويلي» في البيت الأبيض بسبب الغيرة بعد دخول الكلبين «بارني» و«بيزلي» إلى حياة الرئيس بوش وزوجته «لورا».
كم هم إنسانيون هؤلاء الساكنون في البيت الأبيض. ليسوا أقل إنسانية من «تزيبي ليفني» وزيرة الخارجية الإسرائيلية التي قالت أمس أمام ممثلي الدول الأوربية دفاعا عن جرائم حكومتها، بأن الجيش الإسرائيلي يحرص على حياة المدنيين في غزة، ولذلك يرمي عليهم (بين قذيفة وأخرى) بلاغات تدعوهم لمغادرة بيوتهم. ومع أن السيدة «ليفني» كانت تتغابى أمام هؤلاء السادة الأوربيين، فقد أمسكوا جميعهم عن سؤالها سؤالا واحدا بسيطا، وهو أين تريد الآنسة «ليفني» أن يذهب هؤلاء السكان المدنيون عندما يغادرون منازلهم، هل تريدهم أن يلجؤوا إلى المؤسسات التابعة لغوت اللاجئين مثلا، لقد قصف جيشها قبل أمس مدرسة تابعة لهذه الوكالة وقتلوا أكثر من 40 طفلا وامرأة وجرحوا 60 آخرين.
هذه الوزيرة الوقحة تطالب سكان غزة المدنيين بمغادرة بيوتهم حرصا على سلامتهم، لكن إلى أين تريدهم أن يذهبوا وجيش حكومتها يحاصرهم برا وجوا وبحرا داخل مساحة لا تتعدى أربعين كيلومترا مربعا ويمطرهم بالقذائف والصواريخ بلا توقف منذ أحد عشر يوما.
أمس قال طبيب نرويجي يشتغل في إحدى مستشفيات غزة أنه لم ير منذ بدء المحرقة الفلسطينية سوى ضحيتين عسكريتين من حركة حماس، بينما كل الضحايا الذين وصلوا إلى المستعجلات هم من المدنيين، أربعون بالمائة منهم أطفال، وثلاثون بالمائة منهم نساء. هذا ما يسمى بحرب الجبناء.
الحصار الذي تضربه إسرائيل على الفلسطينيين في غزة يجب أن تتم مواجهته بحصار مضاد تكون إسرائيل ومصالحها ضحيته هذه المرة. ولذلك فالنداء الذي أطلقه مثقفون ورجال أعمال مغاربة، منهم مغاربة يهود كإدمون عمران المليح وسيون أسيدون، يبقى نداء حضاريا ونضاليا على درجة كبيرة من الأهمية. وأهميته تأتي من موقعهم كمثقفين ورجال أعمال يطالبون الحكام، ورجال الأعمال، ورجال الصناعة، وأصحاب المصارف وأصحاب الضيعات الفلاحية والفندقيين والفاعلين الاقتصاديين وكل المواطنين المتشبعين بقيم العدالة والسلام، وجميع الضمائر الحية في هذه البلاد، من أجل الكف عن استيراد واستهلاك المنتجات الإسرائيلية، وتوقيف جميع المعاملات التجارية والتدفق السياحي للإسرائيليين نحو المغرب.
إن هذا البلاغ الذي وقعه هؤلاء المثقفون والاقتصاديون والصحافيون يجب أن يتم تعميمه حتى يوقع من طرف كل الأحرار في المغرب. وحتى يكون بلاغا للناس وللحكومة، لكي يتحمل كل منهما مسؤوليته أمام التاريخ. فالحكومة مطالبة منذ اليوم بوقف الرحلات السياحية التي تنظمها وكالات سياحية للإسرائيليين لمختلف مدن المغرب. كما أنها مطالبة بوقف جميع وارداتها من إسرائيل والتي تصل إلى المغرب بطرق ملتوية عبر شركات متنكرة بأسماء أوربية، والتي بلغ رقم معاملاتها بداية سنة 2008 مليارين و100 مليون سنتيم.
على بعض المخرجين السينمائيين المغاربة الذين تحمسوا لعرض أفلامهم حول هجرة اليهود المغاربة بقاعات سينمائية ومهرجانات بإسرائيل أن يراجعوا مواقفهم وأن يطفئوا حماسهم الزائد للسفر نحو تل أبيب.
كما على الذين تعودوا أن يبعثوا في طلب المغني «إنريكو ماسياس» لتنشيط سهراتهم وإعطاء الانطلاقة لبيع مشاريعهم العقارية، كما صنع مالك النخيل غولف بالاص بمراكش قبل شهرين، أن يتأملوا اليوم خروج «ماسياس» الأحد الماضي بدعوة جمعية يهودية للوقوف أمام سفارة إسرائيل بباريس للتعبير عن دعمه الكامل للمجزرة الرهيبة التي يقترفها الجيش الإسرائيلي في غزة.
أمثال هؤلاء الفنانين العنصريين يجب أن يمنعوا من القدوم إلى المغرب، تماما كما تمنعه الجزائر التي ولد فيها من وضع رجله على أرضها. لا أن يتم استقباله في المطار استقبال الأبطال وتتم استضافته في سهرات القناة الثانية والإشادة به كما صنع معه عمر سليم قبل مدة.
أمثال «ماسياس» كثيرون، وهم لا يخفون تعاطفهم ومباركتهم للهمجية الإسرائيلية في فلسطين، ومع ذلك يجدون في المغرب ومهرجاناته كرما لا يجدونه حتى في تل أبيب. أمثال هؤلاء يجب أن يفهموا أنهم غير مرغوب فيهم في المغرب منذ اليوم. وعلى وسائل الإعلام أن تفضح مواقفهم العنصرية المناهضة لحق الفلسطينيين في الوجود، حتى يعرف الجميع حقيقتهم التي يخفونها وراء قناع سميك من الطيبة والتسامح الخادع.
إن الدلالة العميقة لوجود مغاربة يهود ضمن الموقعين على هذا النداء من أجل مقاطعة كل أشكال التعامل والتطبيع مع إسرائيل هي أن المغاربة الأحرار سواء كانوا مسلمين أو يهودا هم الذين ربطوا مصيرهم بالمغرب كوطن أم لأن جذورهم الحقيقية توجد فيه وليس في مكان آخر.
على المغاربة بمثقفيهم ورجال أعمالهم وإعلامييهم وسياسييهم أن يجعلوا إسرائيل تفهم أن المغرب متفق تماما مع قرار محامييه بمتابعة إسرائيل أمام محكمة الجنايات الدولية بتهمة اقترافها لجرائم ضد الإنسانية.
وعلى المغاربة أن يأخذوا الدرس من الجمهور التركي الذي جاء خصيصا يوم الثلاثاء الماضي إلى ملعب كرة السلة بأنقرة حيث يلعب المنتخب الإسرائيلي ضد المنتخب التركي، لكي يقذف المنتخب الإسرائيلي بالأحذية رافعين لافتة كتبوا عليها «إسرائيل قتلة». وهو الأمر الذي جعل عناصر المنتخب الإسرائيلي يهربون من الملعب تحت حماية رجال الأمن ويخسرون المباراة لصالح المنتخب التركي بسبب جبنهم ورفضهم العودة إلى الملعب لاستئناف المباراة.
إن إحدى أوراق الضغط على إسرائيل لكي توقف تطهيرها العرقي بغزة هو أن تشعر بأن مصالحها الخارجية مهددة عبر العالم. وما الجهد الإعلامي والدبلوماسي الكبير الذي تقوم به وزيرة الخارجية الإسرائيلية «تزيبي ليفني» لتبرير عدوان جيشها على المدنيين العزل في غزة، سوى طريقة لتجميل الوجه البشع لهذا الكيان المتوحش الذي لا يرتوي إلا بدماء الأطفال، حتى يظهر أمام العالم بمظهر الضحية الذي تتهدده صواريخ حماس، والذي ينتفض دفاعا عن نفسه وعن مواطنيه ضد الإرهاب، كما تسميه ليفني وبوش وساركوزي.
على المثقفين والسياسيين والصحافيين والحقوقيين المغاربة أن يحظوا بشرف توقيع هذا البلاغ، وأن يحرصوا على تطبيق بنوده، وأن يكونوا يقظين إزاء كل من يحاول أن يكسر هذا الحصار على إسرائيل في المغرب. فإذا كان «كولومباني» مدير «لوموند» قد كتب بعد اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر «كلنا أمريكيون» وصمت اليوم وهو يرى الدم والدمار الفلسطيني في غزة عن كتابة «كلنا فلسطينيون»، فإننا كمغاربة سنتبنى هذا الشعار وسنقول للعالم «كلنا فلسطينيون»، ولا نامت أعين الجبناء.

غزة وما وراءها

شـــوف تـــشـــوف

غزة وما وراءها

كل المغاربة الذين لديهم جهاز تلفزيون في البيت يتابعون نشرات الأخبار في القنوات الفضائية وأعينهم مثبتة على الشريط الذي يمر أسفل الشاشة، منتظرين بلهفة مرور خبر سقوط قتلى أو أسرى من الجيش الإسرائيلي بين أيدي مجاهدي حماس.
كل خبر مهما كان صغيرا عن سقوط طائرة إسرائيلية بدون طيار بصاروخ أطلقته المقاومة، أو سقوط قتلى وجرحى في منزل مفخخ استدرجت المقاومة إليه كتيبة إسرائيلية، هو انتصار عظيم ليس فقط لحماس وفلسطين وإنما لكل الأمة العربية والإسلامية والعالم الحر.
إن الأنظمة العربية التي تطالب بإرسال الخبز والحليب لسكان غزة، يجب أن تخجل من نفسها وهي ترى الأطفال والرضع ملفوفين في الأكفان. فما يحتاجه سكان غزة اليوم ليس الخبز والحليب، وإنما السلاح لكي يدافعوا عن أنفسهم ضد هذا الجيش الهمجي الذي يريد مسحهم من الخريطة.
ما يحدث اليوم في غزة ليس حربا عادية، بل تصفية عرقية وإبادة عنصرية مثل تلك التي عاشها المسلمون في البلقان على يد الصرب. فإسرائيل التي عجزت حتى الآن عن إيقاف صواريخ المقاومة لا تفعل غير قصف المستشفيات عندما تمتلئ بالمسعفين والجرحى والمساجد عندما تمتلئ في أوقات الصلاة وبيوت الأسر التي يباد أفرادها عن آخرهم.
وما يغيب عن أذهان القادة العرب الذين يتابعون حرب الإبادة هذه ببرودة دم غريبة، هو أن إسرائيل إذا نجحت في إحكام طوقها على غزة وكسرت شوكة حماس وحركات المقاومة التي يقاتل مناضلوها في صفها، فإن التاريخ سيسجل نكبة العرب في نسختها الثانية. وستعود قضية فلسطين عشرين سنة إلى الوراء، وستفرض إسرائيل غطرستها على المنطقة بأسرها.
وللأسف الشديد فالمقاومون في غزة، الذين يخوضون اليوم حرب شوارع شرسة ضد القوات الإسرائيلية، ليس لديهم من دعم آخر سوى أكف مليار مسلم في العالم. فعليهم وحدهم تلقى مسؤولية تجنيب الأمة العربية هذه النكبة الجديدة، بإيمانهم وعزيمتهم وصواريخهم وأسلحتهم القليلة المتوفرة لديهم.
فالمقاومون في غزة وحدهم اليوم أكثر من أي وقت سابق. ساكن البيت الأبيض الذي يستعد للرحيل يقول بأن إسرائيل لديها الحق في الدفاع عن نفسها. حتى ولو قتلت نصف أطفال غزة. ساركوزي الذي يريد أن يملأ الفراغ الذي تركه بوش في المنطقة، يقول بأن حماس يجب أن توقف صواريخها ضد إسرائيل. وينسى أن الصواريخ الحقيقية هي تلك التي تتهاطل كالمطر منذ أيام على بيوت غزة ومساجدها ومستشفياتها. عمرو موسى، صاحب السيغار الكوبي، يصرخ ويعاتب الاتحاد الأوربي على موقفه السلبي مما يقع في غزة. وينسى أن جامعته العربية فشلت حتى اليوم في عقد قمة طارئة لاتخاذ موقف عربي موحد مما يحدث في غزة.
باختصار، نعيش اليوم التجسيد الحي للبيت الشعري الذي أنشده محمود درويش في قصيدته «مديح الظل العالي» عندما قال «كم كنت وحدك يا ابن أمي كم كنت وحدك». إن هذه الوحدة والعزلة في مواجهة الصراع المحتوم مع العدو الإسرائيلي هي التي ستصنع النصر في غزة، مثلما صنعته قبل سنتين في جنوب لبنان.
والأكيد أن العالم مثلما لم يعد هو نفسه بعد اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر، فإنه لن يكون هو نفسه بعد اعتداءات غزة. فحرب الإبادة الجماعية هذه سيكون لها ما بعدها إقليميا وعربيا ودوليا. وإسرائيل المشغولة والمزهوة اليوم بارتفاع شعبية حزب وزيرها في الدفاع على بعد أشهر من الانتخابات، بسبب كل الأطفال الذين قتلهم في غزة، تنسى أن شعبيتها تعرف هبوطا مهولا لدى الرأي العام العالمي. والفضل في ذلك يرجع للفضائيات العربية التي تتابع نتائج العدوان أولا بأول. وربما هذا ما دفع «جلعاد أردان» العضو في الكينيسيت الإسرائيلي عن حزب الليكود إلى مطالبة وزير الاتصال الإسرائيلي ورئيس الحكومة بالتشويش على القنوات الفضائية العربية من أجل منع مشاهدتها في الشرق الأوسط. فحسب «العضو» فإن هذه القنوات تدير حملة تحريض كاذبة ضد إسرائيل وتنشر صورا مزعزعة عن ضحايا الهجوم الإسرائيلي بشكل مخالف لآداب مهنة الصحافة. ولهذا السبب يجب التعتيم على هذه القنوات كشكل من أشكال مقاتلتها حتى تنخفض نسبة مشاهدتها وتنخفض مداخيل إشهاراتها.
إسرائيل التي لا تحترم اتفاقية جنيف التي وقعت عليها، والتي تنص على عدم التعرض للمدنيين في الحروب، تعطي العالم دروسا في أخلاقيات وآداب الصحافة. فالصحافة المهنية في نظرها هي عدم نقل الصور المزعزعة لما تقترفه أيادي جنودها في غزة. أما تقتيل الأطفال وشي لحومهم بنيران القذائف فيعتبر عملا مهنيا يندرج ضمن ما يسميه ساركوزي وبوش بالدفاع عن النفس.
إن إسرائيل تريد من الإعلام العربي أن يقوم بما تقوم به بعض القنوات العمومية الفرنسية مثلا، كقناة الخامسة التي بثت قبل أمس حلقة من حلقات برنامجها «سي دون لير» حيث عرضت روبورتاجا عن «مأساة» أحد المستوطنين مع صواريخ حماس التي أحدث أحدها ثقبا صغيرا في الرصيف المحادي لمنزله، والذي سارع عمال البلدية لإصلاحه. في الوقت الذي كان عدد ضحايا صواريخ الجيش الإسرائيلي قد وصل إلى 550 شهيدا و2700 جريح. هذه هي أخلاق المهنية الإعلامية كما تؤمن بها إسرائيل والإعلام الذي يدور في فلكها.
إسرائيل تعرف أهمية الإعلام وقدراته الحربية التي تفوق قدرات الجيوش الجرارة. ولذلك فهي تقوم بكل ما تستطيع القيام به للترويج عبر الإعلام لقصص مختلقة حول الصراع بين حماس وسكان غزة من جهة وبين حماس ومنظمة فتح من جهة أخرى. وقد عرضت القناة العاشرة الإسرائيلية اتصالا لأحد صحافييها بأحد قياديي حركة «فتح»، وبدأ يسأله عن معاناة المواطنين وبالخصوص رجال «فتح» الذين يروج حولهم أن حماس تفرض عليهم الإقامة الجبرية في بيوتهم إلا لأداء صلاة الجمعة في المسجد. وقبل أن يجيب القيادي في «فتح» أخذت أمه السماعة وصرخت في أذن الصحافي الإسرائيلي قائلة «لم يعد هناك فتح وحماس في قطاع غزة، الجرائم الإسرائيلية وحدتنا وصرنا كلنا حماس. قل لحكامك أنهم مجرمو حرب».
إذا كان هذا جواب أم أحد قياديي «فتح» التي تريد إسرائيل اللعب على تناقضاتها مع حركة «حماس»، فكيف يمكن أن نستوعب كلام بعض القادة والصحافيين العرب الذين يؤاخذون على حماس جرها للمنطقة وسكانها إلى الحرب الإبادة. إن هؤلاء بلا شك يريدون أن يبحثوا للعدوان الإسرائيلي عن مبررات عوض إدانته والوقوف إلى جانب حماس وحركات المقاومة بدون خجل أو خوف أو تردد. فالظرف الحالي يفرض الوقوف إلى جانب المقاومة، مهما كان اختلافنا الإيديولوجي معها، وعندما تنتهي هذه المجزرة يمكن أن ننتقد ونؤاخذ ونتفلسف على حماس كما نريد.
علينا ألا نكون ساذجين ونعتقد أن حرب الإبادة ضد غزة ليست سوى دفاع عن النفس لإيقاف صواريخ المقاومة ضد المستوطنات الإسرائيلية. إن الأهداف أبعد بكثير من ذلك. وأهمها جر إيران إلى رد فعل سياسي يكون بمثابة الخطأ الذي سيجعل إسرائيل تضغط على الرئيس الأسود الذي سيدخل البيت الأبيض لكي يشن حربا على إيران، خصوصا بعد أن لوحظ حماسه الفاتر لتكرار خطأ بغداد مع طهران. إن السيناريو الذي بسببه جرت إسرائيل صدام حسين لاجتياح الكويت وتسبب في حصار العراق تمهيدا لاجتياحه وإعدام رئيسه، هو نفسه السيناريو الذي يتكرر اليوم مع إيران عبر اجتياح الجيش الإسرائيلي لغزة وممارسته لكل هذه الوحشية ضد المدنيين العزل.
وهذا أيضا ما يفسر الصمت العربي الرسمي في منطقة الشرق الأوسط بالخصوص أمام ما تقترفه إسرائيل في غزة. فالأنظمة العربية هناك تعتبر أي شيء يضعف إيران عملا مباركا، حتى ولو مر على أشلاء آلاف الفلسطينيين. فما يهمهم أولا وأخيرا، وخصوصا العربية السعودية، هو أن يوضع حد للنفوذ الإيراني المتزايد في المنطقة.
لكل جانب من المشاركين في العدوان على غزة هدف معين. إسرائيل تريد إعادة هيبة جيشها المنهارة منذ سنتين في جنوب لبنان، والقادة الحربيون الإسرائيليون يريدون رفع شعبيتهم على جماجم الأطفال استعدادا لاكتساح الكنيسيت، والقادة العرب ينتظرون جني نتائج صمتهم مقابل إضعاف إيران، أما الولايات المتحدة الأمريكية فهي الرابح الأكبر إذا ما نجحت الخطة واستجابت إيران إلى «نداء الحوريات» وابتلعت الطعم. آنذاك سيفرك تجار السلاح الأمريكيون الذين يعولون على حرب جديدة ضد إيران أيديهم فرحا بالصفقات الجديدة التي سيبرمونها مع وزارة الدفاع الأمريكية.
فحرب العراق استنفدت صفقاتها، وحان الوقت لاكتشاف سوق جديد لتصريف الصناعة الحربية الأمريكية، التي بفضلها ستنتعش الخزينة للخروج من الأزمة الاقتصادية التي تهدد الوجود الأمريكي برمته.
عندما تندلع الحروب غالبا ما تتجه الأنظار نحو القادة العسكريين والسياسيين والصحافيين بحثا عن أجوبة لما يقع، ولا أحد يلتفت نحو الشركات العالمية لصناعة الأسلحة. رغم أن مدراء هذه الشركات هم من يملك الأجوبة الصحيحة لكل أسئلة الحروب الصعبة...
شـــوف تـــشـــوف
يا الطامع فالنقصان حضي راسك من الزيادة

إذا صدقنا أرقام المندوب السامي للتخطيط الذي «يهز الخط» للحكومة مرة في الشهر، فإن الفصل الأخير من سنة 2008 عرف نموا اقتصاديا في المغرب فاق خمسة بالمائة. وإذا صدقنا تكهنات وزير المالية فإن المغرب سيحقق نموا اقتصاديا سنة 2009 يعادل 5.8 (ولو أن البنك الدولي يقول 4)، وإذا صدقنا البورصات العالمية فإن أسعار البترول والمواد الأولية في الأسواق العالمية كلها عرفت تراجعا كبيرا في الأسعار بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية.
إذا صدقنا هذه الرؤية الوردية للوضعية الاقتصادية بالمغرب، فكيف تريدنا الحكومة أن نصدق الزيادات الأخيرة في الأسعار. بل كيف تريدنا الحكومة أن نثق بها مستقبلا بعد كل الأكاذيب التي أدمنتها. فقد وعدت بأنها ستخفض الأسعار إذا انخفضت في الأسواق العالمية ولم تف بوعدها. ووعدت أنها لن تزيد في الأسعار وأخلت بوعدها.
لقد أثبتت الحكومة من خلال افتتاح السنة الجديدة بزيادات في الأسعار أنها حكومة غير شعبية، وأنها لم تفهم جيدا خطاب الملك الأخير الذي تحدث فيه عن دعم الطبقة الوسطى.
كما أن اختيار بداية السنة لإطلاق صواريخ هذه الزيادات، تزامنا مع ما تعرفه كل مدن المغرب من غليان اجتماعي بسبب المحرقة الفلسطينية في غزة، يثبت لنا أن هذه الحكومة العباسية يجب أن يتم الحجر عليها، لأنها لا تزن جيدا قراراتها ولا توقيت إطلاق هذه القرارات.
إن ما لا يفهمه المغاربة اليوم، هو كيف تستمر أسعار المواد الأولية في النزول في الأسواق العالمية، بينما تستمر أسعارها في التصاعد عندنا في المغرب. وفي الوقت الذي كان فيه المواطنون ينتظرون خفض الأسعار انسجاما مع ما يحدث في كل بلدان العالم، رأينا كيف فاجأت الحكومة الجميع وعمدت إلى رفع أسعار المواد الأكثر استهلاكا. انسجاما مع المثل المغربي الذي يقول «يا الطامع فالنقصان حضي راسك من الزيادة».
ولعل الغريب في كل هذا الرخاء الاقتصادي الذي يعدنا به المندوب السامي للتخطيط ووزير الاقتصاد والمالية، أننا لا نجد له انعكاسا مباشرا على المعيش اليومي للطبقة الوسطى. بل ما نراه هو أن الطبقة الوسطى هي التي تتعرض للعقوبات الاقتصادية من طرف الحكومة بسبب ارتفاع الأسعار، بينما طبقة ضيقة وصغيرة جدا من المضاربين وأصحاب المصالح الاقتصادية والمتحكمين في الشركات الكبرى المنتجة والمستوردة للمواد الاستهلاكية هي التي تستفيد من نزول الأسعار في الأسواق العالمية وصعودها في الأسواق المغربية.
إن هؤلاء المضاربين وأصحاب المصالح الاقتصادية الكبرى يشبهون إلى حد كبير تجار الحروب الذين يستفيدون من مآسي المواطنين لكي يجمعوا الثروات على ظهورهم. والحكومة التي يقودها وزير سياسي منحدر من حزب يقول عن نفسه أنه حزب يدافع عن الشعب، كان عليها أن تختار الاصطفاف إلى جانب المواطن الفقير والكادح، لا إلى جانب «المحنكين» من أصحاب المصالح الاقتصادية الرأسمالية التي لا هم لها سوى الربح.
عندما نتأمل القوانين التي حاول بعض وزراء حزب الاستقلال «حشوها» ضمن قانون المالية وصوت عليها البرلمان قبل أن يوقفها المجلس الدستوري بعد طعن المعارضة في شرعيتها، نجد بند الكاميرات التي اشتراها غلاب بالملايير لكي تسجل «البروصيات» لمستعملي الطرقات وتبعث بها إلى غاية بيوتهم. غلاب يقول إن هذه الكاميرات ستقلل من حوادث السير. وهذا طبعا مجرد تبرير، لأن الهدف الرئيسي هو جمع أكبر قدر ممكن من «البروصيات». ولو أن «البروصي» الحقيقي هو هذه الحكومة التي منذ أن جاءت والغلاء يرافق خطواتها. وهذا ما يفسر مسارعة وزير المالية إلى تضمين هذه المبالغ ضمن موارد قانون مالية 2009. فالسي مزوار «شرا الحوت فالبحر» وعول على عائدات «بروصيات» كاميرات غلاب حتى قبل أن يوافق المجلس الدستوري على هذا البند. وفي تلاوة الراحل «بوكماخ» هناك نص جميل عنوانه «أعماه الطمع» ينطبق كثيرا على ما قام به مزوار مع «بروصيات» غلاب.
ولو كان غلاب يريد الحد فعلا من حوادث السير، التي بالمناسبة زادت بنسبة 10.62 بالمائة في الأشهر العشرة الأخيرة مقارنة بالسنة الماضية، لكان استغل تلك الملايير التي صرفها على الكاميرات في تمتين البنية التحتية للطرق القاتلة بالمغرب. وإذا لم يستطع تمتين هذه البنية التحتية للطرق فعلى الأقل يخصص بعض المال لسد حفرها وصبغها واقتناء علامات المرور حتى يتبين الراجلون والسائقون أين يسيرون.
وصباح يوم أمس فقط قتلت قطارات الخليع ثلاثة مواطنين، واحد صدمه القطار القادم من مراكش، تسبب في تأخير الرحلة نصف ساعة، والثاني صدمه القطار القادم من القنيطرة وتسبب في تأخير الرحلة نصف ساعة، وثالث صدمه القطار القادم من الرباط وتسبب في تأخير الرحلة لساعة كاملة.
ولكي تعرفوا أن قطاع السكك الحديدية الذي يتبع لغلاب بدأ السنة الجديدة على أحسن «وجه» فالرحلة التي انطلقت مساء الجمعة من الدار البيضاء الميناء نحو الرباط استغرقت ثلاث ساعات بالتمام والكمال، لم تكلف إدارة السكك الحديدية نفسها تقديم كلمة اعتذار واحدة عنها للمسافرين.
إن العنوان الأبرز للحكومة العباسية هو الفشل. فقد فشلت في الرقي بالخدمات التي توفرها للمواطنين في كل القطاعات الحكومية. المستشفيات العمومية أصبحت شبيهة بالمسالخ البلدية، والمحاكم أصبحت شبيهة بأسواق المزادات العلنية على الأحكام، والإدارات العمومية إذا دخلت إليها يجب أن تكون جيوبك «عامرة» بالنقود وقلبك عامرا بالصبر، أما التعليم فقد أوصلوه إلى الإفلاس، وليس هناك في الأفق ما يبشر بإمكانية انتشاله من القعر الذي نزل إليه. وحتى الطرق السيارة التي لا تقدم لمستعمليها خدمات أخرى غير الطريق اكتشف مديرها الفاسي الفهري أن الدرهم الأبيض ينفع في اليوم الأسود، فزاد درهما في الرحلة. وهو يستعد لبناء محطة أداء جديدة في مدخل الرباط، حتى «يحلب» جيوب مستعملي الكيلومترات الخمسة التي تفصل الرباط عن شاطئ «فال دور».
عندما نرى كيف يتشبث عباس الفاسي بمنصب الوزير الأول، مع أنه منصب كبير عليه بشهادة الجميع، ونرى كيف يقبل حزبه التمديد له لولاية ثالثة على رأس أمانته العامة، رغم أن الحزب في عهده نزلت شعبيته إلى الحضيض، نستغرب تمسك الرجل بكل هذه المسؤوليات الجسيمة رغم فشله السياسي الواضح في تحملها. وقد كان على عباس الفاسي أن يتأمل جيدا مثال الوزير الأول البلجيكي «هيرمان فان رومبو» الذي قبل بمنصب الوزير الأول بالكشيفة. فقد رفض الرجل العرض ولم يقتنع إلا بعد مناشدة الجميع له بقبول تحمل المسؤولية وإخراج البلاد من الأزمة السياسية.
في الدول الديمقراطية يهربون من المسؤولية، لأنهم يعرفون قيمتها جيدا ويعرفون أن الشعب سيحاسبهم عليها، والقضاء سيتابعهم إذا ما أساؤوا استعمال أموال دافعي الضرائب. أما عندنا فيتهافتون على مناصب المسؤولية لأنهم يستسهلونها، ويعرفون أن القضاء منشغل عنهم بمتابعة فاضحي الفساد، وأنه ليس هناك شيء أكثر سهولة في المغرب من سرقة أموال دافعي الضرائب. وحتى إذا ما صدر تقرير رسمي يفضح هؤلاء المسؤولين، كتقرير المجلس الأعلى للقضاة، فإن مصيره سيكون هو رفوف المجلس الموقر.
لذلك كله نقول اليوم أن هذه الحكومة ليست حكومة شعبية تراعي مصالح الطبقة الوسطى والطبقات الشعبية الأكثر فقرا، وإنما حكومة نخبوية تراعي مصالح الأقلية المتحكمة في دواليب الاستهلاك اليومي للمغاربة. والزيادات المتتالية في أسعار المواد الاستهلاكية التي يوازيها انخفاض في أسعار هذه المواد في السوق العالمية، خير دليل على هذا الوجه اللاشعبي لحكومة عباس.
الخطير في هذه الزيادات، التي ربما «ماشي فراس» عباس، هي أنها تأتي في ظرف اجتماعي وإنساني وعاطفي غير مناسب إطلاقا.
على عباس وصهره نزار بركة أن يخرجا من صمتهما لكي يطمئنا المغاربة بأن هذه الزيادات لم تكن سوى قرار أحمق سيتم تداركه. فالزيادة هذه المرة «من راس الحمق» فعلا.
أيها الفلسطينيون احذروا هذه الدماء

على عادة الجيوش المتوحشة التي غزت أرض فلسطين في القرون السالفة، لجأت إسرائيل إلى الطريقة نفسها التي مارستها هذه الجيوش لإخافة المدنيين وترويعهم. هكذا قام جيش الاحتلال بشواء أجساد الأطفال بنيران قذائفه وتركها عرضة لكاميرات الصحافة الدولية، حتى تنقلها لسكان المدن والقرى الفلسطينية المجاورة. وهي الطريقة الجبانة نفسها التي قام بها المغول خلال اجتياحهم لفلسطين عندما كانوا يسلقون الأطفال في قدور المياه المغلية ويأكلونهم ويعلقون جثث الرجال أمام مداخل المدن لإخافة السكان وإجبارهم على الاستسلام.
الصور نفسها يتم تداولها اليوم في الصحف والقنوات الفضائية. وجوه الأطفال المحروقة وأطرافهم المشوية بنيران القصف. وهي الصور التي سبقت الاجتياح البري الإسرائيلي لغزة. فالهدف من وراء تلك المشاهد كان هو إفزاع سكان غزة وإجبارهم على الضغط على حركة حماس من أجل إحراجها ودفعها إلى الاستسلام.
الغريب في الأمر أن من يتولى أمر الضغط إعلاميا على حماس من أجل الاستسلام ليسوا سكان غزة المحاصرين والذين يتم تمزيق وشي أطفالهم، بل أطراف أخرى عربية تستهزئ من صواريخ المقاومة وتسميها صواريخ كرتونية. وهو موقف يتماهى بشكل غريب مع موقف الحكومة الإسرائيلية التي تسمي ما تقوم به في غزة من مجازر دفاعا شرعيا عن النفس.
وربما لهذا السبب كانت وزيرة الخارجية الإسرائيلية «تزيبي ليفني» غاضبة وهي تعاتب محاورها في قناة الجزيرة بسبب تركيز القناة القطرية في نشرات أخبارها على صور الأطفال الذين مزق الطيران الإسرائيلي أشلاءهم. فالآنسة «تزيبي» منزعجة من صور الأطفال المقتولين غدرا في غرف نومهم من طرف طيران جيشها والتي تمر في نشرات الأخبار، لكنها غير منزعجة تماما من كون دماء هؤلاء الأطفال عالقة بيديها. يديها اللتين تصافح بهما الزعماء العرب بدون إحساس بالذنب.
هكذا يطالب الإسرائيليون علانية الإعلام العربي بالتواطؤ معهم على جريمة قتل الأطفال، مثلما تواطأت معهم الأنظمة العربية بصمتها وتخاذلها وعجزها القاتل. فالجريمة في نظر «تزيبي» ليست هي قتل الأطفال بل تصوير أشلاء هؤلاء الأطفال.
مثلما أن الجريمة ليست هي قصف بيت القيادي الفلسطيني نزار ريان وقتله مع أطفاله وزوجاته الأربع، بل الجريمة هي كون هذا الفلسطيني متزوج من أربع نساء. فقد غطى خبر الجمع بين أربع نساء في بيت واحد عند بعض القنوات الغربية على خبر قتل هؤلاء النساء الأربع مع أطفالهن ومعيلهن.
ولعل أحد وجوه النفاق الإسرائيلي المفضوح هو أنهم يهاجمون كل من يتهمهم بقتل الأطفال والنساء، ويطالبون بكتم صوت كل من يتحدث عن المحرقة الفلسطينية، بينما هم وضعوا قانونا صارما يحاكم بموجبه كل من يجرؤ على مجرد إنكار وجود المحرقة اليهودية. واليوم في فرنسا اندلعت عاصفة إعلامية في وجه الكوميدي الساخر «ديودوني» لأنه سلم «روبير فوريسون» جائزة «الشخص المزعج غير المرغوب في رفقته» في قاعة «زينيت» بباريس وطلب من 5000 متفرج التصفيق بهذه المناسبة. ومعروف أن «روبير فوريسون» واحد من أكبر الناكرين للمحرقة اليهودية وطرد من عمله بالجامعة بسبب هذه التهمة.
وإذا كان الإعلام العربي منشغلا هذه الأيام بإظهار اللحوم المشوية للأطفال والنساء والرجال في غزة، فالإعلام الأمريكي مشغول أيضا بإبراز لحوم قادته السياسيين. وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي المنتخب حسين باراك أوباما. فالسي الحسين يقضي وقتا ممتعا على شاطئ هاواي بعيدا عن صخب الصواريخ الإسرائيلية ورائحة الدم الفلسطيني، حيث تلتقط الصحافة الأمريكية صورا لصدره العاري الأملط و«المبندر» الذي تلهبه أشعة الشمس. وبانتظار أن يلبس السي الحسين قميصه وربطة عنقه ويغادر مكانه تحت شمس هاواي ويلتحق بمكتبه في مقر البيت الأبيض، ستكون ربما غزة زالت من الوجود.
وخلال هذا الوقت ماذا يصنع الزعماء العرب. بالأمس رأينا عددا من الأمراء الخليجيين يتبرعون بدمائهم لصالح ضحايا المحرقة بغزة. وقلت في نفسي أن الفلسطينيين إذا كان عليهم الحذر من شيء ما في هذه الظروف العصيبة فمن هذه الدماء بالضبط. لأن فيها بالإضافة إلى الكريات البيضاء والحمراء كريات أخرى من المهانة والخذلان والذل. ولعل أخطر شيء على دماء الفلسطينيين الفائرة بالعزة والكرامة والنخوة ليس الصواريخ الإسرائيلية وإنما هذه الدماء العربية بالضبط. فالخوف كل الخوف أن تختلط دماؤهم المشبعة بالعزة والكرامة بدماء عربية إسلامية مصابة بلوثة الجبن والنفاق والخبث.
ولعل ما يحتاجه الزعماء والقادة العرب في الوقت الراهن هو أن يبعثوا في طلب الدم الفلسطيني المنتشر على الأرصفة وأن يتبرعوا به على أنفسهم ويحقنوا به أذرعهم، فربما تنفع كريات الكرامة والعزة التي يفيض بها الدم الفلسطيني في إيقاظ همة هؤلاء الزعماء الخاملة وضمير هؤلاء القادة العرب الذي يغط في النوم الثقيل.
الزعماء العرب الذين لديهم أقوى سلاح في العالم هو سلاح النفط، لم يجدوا غير بضعة لترات من دمائهم الخاثرة لكي يتضامنوا بها مع إخوانهم المحاصرين في غزة. يا للعار.
وكم كان منظر حنيبعل نجل الزعيم الليبي مثيرا للشفقة وهو يتوعد مصر في نشرة أخبار الجزيرة، واصفا موقف الزعماء العرب بالمتخاذل لأن طائرة المساعدات الليبية لم تستطع دخول غزة. فحنيبعل يعرف قبل غيره أن البلاد التي يقودها والده منذ ثماني وثلاثين سنة تملك سلاح النفط، والذي من خلاله يمكنها الضغط على الحكومات الأوربية لإيقاف همجية إسرائيل. لكن القذافي يفضل أن يستعمل سلاح النفط ضد سويسرا لأنها اعتقلت ابنه حنيبعل وزوجته بعد تورطهما في تعذيب خادمهما المغربي وخادمتهما التونسية.
واليوم تطالب ليبيا سويسرا بتقديم اعتذار رسمي لها بسبب تجرؤها على اعتقال ابن الرئيس وزوجته، مقابل إطلاق سراح مواطنين سويسريين وعدم توقيف إمدادات النفط الليبي لسويسرا.
هكذا يستعملون نفطهم هؤلاء العرب. يضغطون به ويهددون بتوقيفه عندما يخرق أبناؤهم المدللون القانون في الدول المتحضرة. أما عندما تخرق إسرائيل كل القوانين والشرائع الدولية وتمزق أشلاء مئات الأطفال في فلسطين فإن عقيرة هؤلاء القادة تعلو بالصراخ والتنديد ضد بعضهم البعض مثل ديوك رومية منفوشة الريش.
أما الرئيس المصري حسني مبارك صاحب نظرية «زبط النفس»، فكل ما وجده لمساعدة إخوانه في غزة في هذه الظروف العصيبة هو اتهامه لحركة حماس بمحاولة الاستحواذ على معبر رفح. وكأن سعادة الرئيس نسي أن إسرائيل تستحوذ على وطن بكامله اسمه فلسطين، بمعابره وسهوله وبحره وجباله.
ونسي الرئيس المحترم أنه إذا كان هناك من أحد يجب أن يتجنب الحديث عن كلمة «الاستحواذ» فهو نفسه شخصيا. لأنه يستحوذ على السلطة منذ عشرات السنين، متكئا على قانون الطوارئ. كما أنه يستعد لكي يترك لابنه فرصته هو الآخر لكي يستحوذ على السلطة من بعده. وبعد هذا كله يتحدث عن رغبة حركة حماس في الاستحواذ على مجرد ممر.
وينسى الرئيس المصري والرئيس الليبي وغيرهما من الرؤساء العرب أن حركة حماس وزعميها هنية أكثر ديمقراطية منهم جميعا، لأنها كحركة مقاومة سياسية وميدانية أتت إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع في انتخابات نزيهة شهد العالم بأسره على شفافيتها، وباركها حتى بعض الزعماء العرب الذين غيروا موقفهم منها بمجرد تصنيفها من طرف البيت الأبيض ضمن خانة المنظمات الإرهابية.
يمكن أن نتفق أو نختلف مع حركة حماس وطريقة إدارتها للمقاومة ضد العدو الإسرائيلي. لكن هذا لا يسمح لمعارضيها بأن يقبلوا ويباركوا اغتيال قادتها وأطفالهم ونسائهم بدم بارد. فحركة حماس وزعيمها جاءا إلى السلطة برغبة من الشعب عبر انتخابات ديمقراطية، وليست مثل انتخابات بعض هؤلاء الزعماء العرب الذين لازالوا يرشحون فيها أنفسهم بمفردهم بعد أن يعتقلوا منافسيهم ثم ينجحون فيها بتسعة وتسعين فاصلة تسعة وتسعين بالمائة من الأصوات.
على الأقل إذا كان هؤلاء الزعماء غير قادرين على لجم همجية العدو الإسرائيلي في غزة، فليعملوا فقط على لجم ألسنتهم وتصريحاتهم الهوجاء التي تسيء إليهم أمام شعوبهم وأمام التاريخ وأمام الله.
كما أنه من الأفضل لهم وللقضية الفلسطينية الاحتفاظ بدمائهم في شرايينهم، فمثلما أن الدم لا يصير ماء، فإن الماء أيضا لا يصير دما.

ضريب الطر

ضريب الطر

لعل واحدة من أكبر المهازل السياسية في المغرب هي أن نسمع رئيس مجلس النواب، مصطفى المنصوري، يهدد نواب المجلس المتغيبين بنشر أسمائهم على أعمدة الصحف إذا لم يلعنوا الشيطان ويقرروا الالتحاق بمقاعدهم. كما لو أن الأمر يتعلق بتلاميذ كسالى ومشاغبين يدمنون الغياب بدون مبرر، يهددهم المعلم بالطرد من القسم إلى حين حضور ولي أمرهم، وليس بنواب أمة محترمين أرسلهم الشعب لكي ينوبوا عنه في الدفاع عن حقوقه ومصالحه.
ورغم أن ما ينوي رئيس البرلمان القيام به «خايب حتى للتعاويد»، فإنه يبقى أجدى طريقة لحث هؤلاء النواب الذين يتوصلون كل شهر برواتبهم السمينة دون أن يكلفوا أنفسهم عناء الحضور لمناقشة الميزانيات والتصويت عليها.
ونحن مستعدون إذا ما فكر رئيس البرلمان في تطبيق وعيده لتخصيص زاوية أسبوعية لنشر أسماء هؤلاء المتغيبين والهيئات السياسية التي باسمها تم انتخابهم في البرلمان. وسنسمي هذه الزاوية «ركن المتغيبين»، وهو الركن الذي تبثه الإذاعة الوطنية للبحث عن المتغيبين الذين خرجوا من بيوتهم ولم يعودوا إليها. وهكذا يمكن أن يطالع المواطنون أسماء المتغيبين عن جلسات البرلمان كل أسبوع بانتظام، حتى إذا جاءهم أحد أولئك المتغيبين في الانتخابات المقبلة يطلب منهم أن يصوتوا لأجله يكون بمستطاعهم أن يصفعوا وجهه بلائحة الغياب الخاصة به. ولو أن أغلب أسماء «ركن المتغيبين» ستكون من فريق حزب الأحرار الذي يقوده رئيس البرلمان مصطفى المنصوري. فهذا الفريق الأكبر من حيث العدد في البرلمان والذي يصل إلى ثمانين نائبا، غالبا ما لا يحضر منه سوى نواب معدودين على رؤوس الأصابع. وهكذا فإذا كان المنصوري يريد أن «يضرب الطر» للنواب الغائبين فالأحرى به أن يضربه لنواب حزبه. وكما يقول المثل، «خلات تشطب باب دارها ومشات تشطب باب الجامع».
يمكن أن يجد البعض فكرة نشر أسماء البرلمانيين المتغيبين على أعمدة الصحافة فكرة طريفة، لكن خلف طرافة الفكرة تختفي أهداف غاية في الجدية. فغياب البرلمانيين عن مناقشة قضايا الشعب والدفاع عنها أمام الحكومة، يعد أحد الأسباب الرئيسية وراء الانتفاضات الشعبية التي عرفتها بعض مدن المملكة مؤخرا. فهؤلاء البرلمانيون المسجلون في ركن المتغيبين يتحملون مسؤولية تهديد السلم الاجتماعي في المغرب. لأن الاحتجاجات والتظاهرات الشعبية التي أصبحت تطفو على السطح مؤخرا، سببها استقالة البرلمان من مسؤولية إيصال مظالم ومطالب الشعب إلى الحكومة. هكذا أصبح الشعب يحمل على عاتقه مسؤولية إيصال صوته إلى الدولة والحكومة في الشارع العام.
إن سياسة «ضريب الطر» هي ما نحتاج إليه في وسائل الإعلام المغربية لكي نساهم في تخليق الحياة السياسية العامة. وفي أمريكا مثلا هناك صحف وقنوات تلفزيونية متخصصة في نشر صور وأسماء مغتصبي الأطفال، كشكل من أشكال فضح هؤلاء المنحرفين. وفي إسبانيا هناك شركة متخصصة في مطاردة الأشخاص الذين يتهربون من دفع ديونهم وضرائبهم اسمها «موروسو». وإذا كانت هناك من شركة ترفع فعلا شعار «ضريب الطر» فهي هذه بالضبط. فمنذ أكثر من أربعين سنة على وجودها وهي تحقق نتائج باهرة، أي أن كل من خرج فيه «البلان» من طرف هذه الشركة ينتهي مجبرا على تسديد ديونه خوفا من الفضيحة.
وطريقة اشتغال هذه الشركة سهلة وبسيطة للغاية، فهي بمجرد ما تتوصل بطلب استخلاص دين أو ضريبة لفائدة إحدى الشركات أو المؤسسات، حتى ترسل أحد موظفيها بلباسه الأسود المتميز وطربوشه الطويل وحقيبته السوداء لكي يرافق الشخص «المديون» مثل ظله. وتبقى مهمته الأساسية هي أن يراه الجميع سائرا خلف «المديون» في أي مكان يذهب إليه. حتى في مقر عمله يزوره هذا الموظف لكي يعرف زملاؤه أنه مدين للضرائب. وقلما يحدث أن يتحمل «مديون» هذا العقاب اليومي والمستمر في الشارع وأمام الجيران وفي المراكز التجارية وفي مقر العمل، فيدفع ضرائبه وديونه لكي يرتاح من هذا الشبح المخزي الذي يشوه سمعته أمام العالم.
لو كان لهذه الشركة فرع في المغرب للجأت إلى خدماتها البنوك السبعة التي تطالب التازي رئيس الفريق الاستقلالي في مجلس المستشارين بدفع ديونه منذ سنوات، قبل أن تقرر المحكمة الحجز على راتبه في البرلمان.
قبل أسبوعين نشرت الجرائد خبر وجود حوالي ألف شخص في مراكش يستفيدون من كهرباء الوكالة مجانا، من بينهم برلمانيون وشخصيات معروفة بالمدينة. وحسب مسؤولي الوكالة فهذه السرقات الكهربائية كلفتهم حوالي مليار سنتيم من الخسائر، ومقترفوها في غالبيتهم من أثرياء المدينة.
وعوض أن تكتفي وكالة «لاراديما» بالحديث عن قيمة خسائرها المادية فقد كان أولى بها أن تنشر لائحة هؤلاء الزبناء الذين ضبطتهم يسرقون الكهرباء و«يثقلون» العدادات بـ«اللدون» ويجرون السلك من «البوطو» إلى فيلاتهم ومطاعمهم ومركباتهم السياحية.
إن نشر أسماء هؤلاء الزبائن المحتالين، ومنهم مسؤولون عموميون وممثلون حزبيون وموظفون كبار، سيجعل المواطنين أولا يتعرفون على من يمثلهم ويسير شؤونهم. وثانيا سيجعلهم على بينة من أمرهم عندما يحين وقت اختيار من يمثلهم في الانتخابات. وثالثا سيكون نشر أسماء هؤلاء الذين يسرقون الكهرباء عبرة لكل الذين سيفكرون في القيام بالشيء نفسه، لأنهم سيضربون حسابا لسمعتهم، إذا ما كانت لديهم سمعة، في حالة ضبطهم من طرف فرقة مكافحة الغش بوكالة توزيع الكهرباء.
إن المجهود الذي قام به قضاة المجلس الأعلى للحسابات سيبقى ناقصا إذا ما لم يتم نشر وإعادة نشر أسماء المؤسسات التي ضبط قضاة المجلس اختلالات مالية في حساباتها. يجب أن يطلع الجميع على حجم المبالغ المالية التي تم تبذيرها في هذه المؤسسات، وأيضا على أسماء المسؤولين عن هذا التبذير.
هكذا سيفهم الذين سيتسلمون المسؤولية مستقبلا في هذه المؤسسات العمومية أنهم مراقبون من طرف قضاة المجلس الأعلى للحسابات، وأيضا من طرف الإعلام الذي سيضرب لهم الطر إذا ما تورطوا في تبذير المال العام.
في فرنسا وإسبانيا وغيرهما من الدول الديمقراطية تضرب الصحافة الطر لرؤساء حكوماتهم ووزرائهم لمجرد أن أحدهم غامر باستعمال بطاقته البنكية الحكومية لأغراض شخصية. وعندنا في المغرب أهدر بوطالب وزير الطاقة السابق حوالي أربعين مليون سنتيم على أسفاره وتنقلاته، بالرغم من تحمل الوزارة لهذه النفقات، ومع ذلك لازال ينشر المقالات في الصحف حيث يعطي وصفات نظرية لإخراج حزبه من النفق المسدود.
الغريب في الأمر أن البعض عوض أن يشجعنا على المضي في عملنا كان يؤاخذنا في كل مرة نبادر إلى كشف أسماء بعض المسؤولين الذين يستفيدون من خدمات ليست من حقهم، أو يتورطون في تبذير المال العمومي. وغالبا ما كنا نسمع كلمات من قبيل «آش بغيتو عندو مسكين، درتو ليه الشوهة».
وكأن أصحاب تلك القلوب الهشة يعتقدون أن الصحافة مهمتها هي أن تضرب «الشيتا» لهؤلاء المسؤولين الذين يتورطون في تبذير المال العام، عوض ضرب «الطر» لهم.
إن وظيفة الإعلام في الدول الديمقراطية هي أن يمارس سلطته في مراقبة طرق صرف المال العام. وهذه السلطة تجعله مطالبا بلعب دور كلب الحراسة الشرس الذي يجب أن ينبح كلما رأى لصا يقترب من أموال دافعي الضرائب حتى يستيقظ أصحاب البيت.
هذا طبعا إذا كان اللص قادما من خارج البيت، أما إذا كان هو من ينام في الداخل، فنباح كلاب الحراسة يصدق فيه القول المأثور «لمن تعاود زابورك أداود».

حكومة الغدايد

حكومة الغدايد

قرر لسان حزب الاستقلال أن يخصص صفحات كاملة طيلة الأعداد الأخيرة لاستضافة شخصيات رياضية وفكرية وحزبية لإعطاء شهادة حسن السيرة والسلوك في حزب عباس الفاسي الذي يقود الحكومة.
ولأن الشهادات جاءت شبيهة بالمعلقات الغزلية، تعدد مناقب الحزب وأفضاله على المغاربة، فإن الواقع اليومي لهذا الحزب يقتضي أن نذكر قادته ببعض التفاصيل التي نسوا الوقوف عندها، ولو من باب «دوي علينا وجي علينا».
سيكون من باب النفاق السياسي أن ننسى مثلا أن عباس الفاسي الذي يقود الحكومة الحالية يأتي اليوم على رأس الوزراء الأولين الذين تفوقوا في الحصول على أدنى نسبة من الشعبية.
أولا لأنه جاء إلى رئاسة الحكومة وهو يجر خلفه فضيحة «النجاة»، ووعد في حملته الانتخابية بخلق مئات الآلاف من مناصب الشغل. وعندما تسلم حقيبة الوزير الأول قام بتعلية سور مقر حزبه بباب الحد حتى تصعب على المعطلين عملية اقتحامه. وعوض أن يخلق مناصب شغل جديدة أصبح يمدد سنوات إضافية للموظفين الكبار (في السن) الذين بلغوا سن التقاعد، كما صنع مؤخرا مع القباج وأولباشا في وزارة المالية.
عندما سألوه عن أحداث سيدي إفني، أنكر ونفى وقوع أي شيء. وعندما رأى بأم عينه ما وقع في نشرات الأخبار، «لصقها» في القناة الثانية واتهمها بتحريف تصريحاته.
عندما سأله الصحافيون عن الزيادة في ثمن المحروقات، قال لهم «ما فراسيش». قبل أن ينغزه «نسيبو» نزار بركة وينبهه إلى أن الزيادة وقعت بالفعل.
عندما سألوه هل يتصل به الملك، أجاب بأنه يحمل هاتفا خاصا يتصل به الملك فيه. و«شي مرات إلى عندو الزهر» يحدث أن يستقبله.
عندما ذهب إلى إسبانيا مؤخرا أخطأ في نطق اسم رئيس الحكومة الإسباني «لويس ساباطيرو»، وناداه باسم خصمه السياسي اللدود «خوصي ماريا زاباطيرو». وعندما لاحظ عباس أنه «طبز» لها العين، ضحك وصلح غلطته بـ«أفدع» منها، وأطلق على الرجل اسم امرأة وسماه «ماريا خوصي زاباطيرو».
وعندما طرح مراسلنا بمدريد على عباس الفاسي سؤالا متعلقا بلقائه بنظيره الإسباني، حقق عباس في وجه مراسلنا جيدا وقال له «نتا بعدا ماجيتيش معانا فالطيارة»، ورفض إعطاءه أي جواب بحجة أنه لا يتحدث سوى مع الصحافيين الذين أتى بهم معه من الرباط في الطائرة الخاصة.
وحتى عندما أقال الملك كاتب الدولة في الخارجية كان عباس الفاسي آخر من يعلم.
إن عباس الفاسي الذي يستعد اليوم لولاية ثالثة على رأس حزب الاستقلال، ليس وحده «مفخرة» الحكومة. بل حتى بعض وزرائه وممثلي الأمة والسكان يحملون معه لواء الحزب المرفرف، عملا بالمثل المغربي الذي يقول «تابعين جيلالة بالنافخ».
ولكم أن تتأملوا هذه المنجزات التي حققها ممثلو الحزب في الحكومة والنقابات وعمادة المدن ومجلس المستشارين.
غلاب وزير التجهيز الاستقلالي يرتكب أخطاء المبتدئين، ويعيد قانون المالية إلى البرلمان بعدما دس بتواطؤ مع مزوار بند «الرادارات» في ميزانية قانون المالية. فغلاب أراد أن يشغل كاميراته التي تصدأ في الشوارع لكي يبرر صفقة الملايير السبعة، ومزوار «شاف الربيع ما شاف الحافة»، وبرمج عائدات «البروصيات» التي ستصورها الكاميرات ضمن ميزانية 2009، قبل أن يكتشف أن غلاب «فرش» له التبن فوق الماء. وهاهو المجلس الدستوري يقول لغلاب بأنه لن «يصور» بكاميراته سوى البرد.
أما الاستقلالي شباط عمدة فاس، عاصمة العلم والعلماء بالمغرب، فقد أعطى عن نفسه للذين يمثلهم صورة واضحة عن «مرجعياته الفكرية»، خصوصا في معجم الحيوان. ولم يتورع عن تسمية زميله في الحزب بنجلون الأندلسي، بالضبع. فرد ممثل رجال التعليم في نقابة الاتحاد العام للشغالين على عمدة فاس بكونه أعرف الناس بطريقة استعمال الضبع. ويقصد طبعا مخه، إذا كان للضبع من مخ طبعا.
وإذا كان عباس الفاسي عندما كان وزيرا بدون حقيبة في حكومة جطو قد طلب من القضاة أن ينصتوا إلى ضمائرهم لا إلى هواتفهم النقالة، بعد متابعة هؤلاء القضاة لمرشحين استقلاليين تورطوا في الفساد الانتخابي، فإنه «ضرب الطم» عندما أصدر زملاء هؤلاء القضاة تقريرا يتهم شباط ومجلسه باختلالات مالية. وسكت عندما اتهم العمدة الاستقلالي مجلس الحسابات الجهوي بكونه مخترقا من طرف عناصر إرهابية. ولم يتوقف الأمر فقط عند سكوت الوزير الأول عن هذه الاتهامات الخطيرة التي تمس جهازا يقع تحت مسؤوليته السياسية، بل وصل الأمر إلى حد إعفاء رئيس قضاة هذا المجلس الجهوي من مهامه.
أما الزبيبة التي جاءت لكي توضع فوق كعكة حزب عباس الفاسي، فهي قرارات الحجز التي صدرت ضد عبد الحق التازي رئيس الفريق الاستقلالي في مجلس المستشارين لفائدة سبعة أبناك تتناوب على اقتسام راتب سعادة المستشار الاستقلالي الذي يقود الأغلبية بالغرفة الثانية.
كيف بربكم يريد حزب يقود الحكومة أن يقنع الشعب بأنه يريد تخليق الحياة العامة، وإعطاء النموذج الأصلح في التسيير والمواطنة، وهو يقدم لمجلس المستشارين رئيس فريق لا يؤدي ضرائبه لخزينة الدولة. إن أكبر جريمة في الدول الديمقراطية هي أن تكون لرجل السياسة مشاكل مع مكتب تحصيل الضرائب. وإذا ثبت أنه مدين لخزينة الدولة بمائة أورو فما عليه سوى أن يقرأ الفاتحة على مستقبله السياسي.
ويبدو والله أعلم أن الدروس والمواعظ التي يقدمها لسان حزب الاستقلال كل يوم للشعب لا تسري على «رموز» الحزب الحاليين في الحكومة والبرلمان وعمادة المدن. وكأنهم نسوا قول الشاعر «لا تنه عن خلق وتأت مثله، عار عليك إن فعلت عظيم».
وحتى وزير السياحة السابقة الاستقلالي عادل الدويري، الذي ظل طوال سنوات وجوده على رأس وزارة السياحة يشجع المستثمرين على الركوب معه في قاطرة الاستثمار السياحي، عندما غادر مركب الحكومة المثقوب استثمر أمواله في كل شيء إلا في السياحة. فيبدو أن الفتى عادل أعرف الناس بخروب بلاده بحكم تجربته القصيرة في وزارة السياحة. حتى أنه وضع ثقته في «المسكة» عوض أن يضعها في الفنادق، وشرع في عقد صفقة عبر شركة «موتانديس» التي يدير رأس مالها، مع الشركة المنتجة للشوينغوم بحوالي 200 مليون درهم.
و«المسكة» على كل حال غير مهددة بالأزمة مثل السياحة، بل بالعكس، كلما اشتدت الأزمة كلما ارتفع عدد الراغبين في مضغها بسبب «الغدايد».
وفي المغرب فمستقبل «المسكة» مضمون، خصوصا وأن عباس الفاسي تنتظرنا معه أربع سنوات أخرى من عمر الحكومة. «فاللهم الواحد ينضغ المسكة بالغدايد حسن ليه مياكل جنابو».

نادي العاجزين العرب

نادي العاجزين العرب

ليس هناك وصف لموقف الأنظمة العربية مما يقع لإخواننا في غزة من تقتيل وتذبيح همجي سوى العجز. لذلك فما أحوج هذه الأنظمة لتناول حبوب «الفياغرا» لكي تستنهض الهمم وتقرر أخيرا عقد قمة، أو نصب خيمة لتقبل العزاء في فلسطين، وهذا أضعف الإيمان.
ويبدو أن حبة البركة الزرقاء، التي أزاحت حبة «الشانوج» السوداء من عرشها في العالم العربي والإسلامي، لديها مفعول سحري على العرب والمسلمين أكثر من كل البيانات المنشطة والبلاغات المخدرة الأخرى. فقد أشارت الإحصائيات التي ذكرت خلال آخر مؤتمر عقدته الجمعية المصرية للمسالك البولية إلى أن مصر، وحدها، صرفت ما يعادل 16 مليون جنيه على حبوب «الفياغرا» هذا العام، وهو ما يزيد بمقدار الضعف عن آخر إحصائية مصرية في هذا الصدد.
وفي المغرب حصلت «الفياغرا» على رتبة «مشرفة» ضمن الأدوية العشرة الأكثر استهلاكا لدى المغاربة. فالتقديرات الأخيرة لمؤسسة الإعلام والإحصائيات في المجال الصحي، الواقع مقرها في جنيف، تقول بأن عدد «العاجزين» في المغرب يصل إلى أكثر من مليون شخص.
ومؤخرا اكتشف الجيش الأمريكي في أفغانستان وظيفة أخرى للحبة الزرقاء، غير تنشيط الدورة الدموية لمستعمليها. فحسب صحيفة «الواشنطن بوست» فوكالة الاستخبارات الأمريكية أصبحت تستهدف شيوخ القبائل الأفغانية للحصول على معلومات منهم حول طالبان عن طريق إهدائهم حبوب «الفياغرا» بدلا من اللجوء للوسيلة التقليدية والتي تتمثل في منحهم حقائب مالية وهدايا.
وهكذا بعد أن استعصت الكهوف والجبال الأفغانية على القوات الأمريكية وحلفائها، أصبحوا الآن يجدون التعاون من شيوخ القبائل بعد أن جرب هؤلاء حبة البركة الأمريكية.
ولا بد أن الشعوب العربية والمسلمة ستكون ممتنة غاية الامتنان لمختبرات «فايزر» إذا ما توصل خبراؤها إلى تطوير حبوب زرقاء، أو خضراء كتحية منها للقذافي صاحب الكتاب الأخضر، يمكنها أن تعيد الحياة إلى الشرايين المتصلبة لهذا الضمير العربي الخامل الذي أصيب ببرود مزمن.
فكل من شاهد علي سالم البيض رئيس اليمن السعيد، يقول في أحد المؤتمرات بالأمس، أن الدولة الوحيدة التي يمكنها توقيف مجازر غزة هي الولايات المتحدة الأمريكية، اقتنع بأن العرب وصلوا إلى مرحلة العجز التام. وكأن الدول العربية التي تملك الغاز والنفط وتصدره بعضها لإسرائيل وأمريكا وأوربا، وتملك حسابات مصرفية سيادية ضخمة في البنوك الأمريكية، ليست لديها وسائل للضغط على إسرائيل لوقف عدوانها على الشعب الفلسطيني. فقد وصل العجز العربي بهذه الدول حدا لم يعودوا قادرين معه حتى على طرد سفراء إسرائيل في عواصمهم، فبالأحرى قطع علاقاتهم الاقتصادية معها.
ولعل الغريب في هذا العالم العربي أن نسبة استهلاك الحبة الزرقاء ترتفع سنويا، بسبب اتساع رقعة العجز الجنسي بين الرجال. فبسبب الضغط والأمراض المرتبطة بالاكتئاب والقلق والخوف المرضي من المستقبل، بدأ العرب يصابون بالعجز، وأصبحت أسطورة الفحولة العربية مهددة أكثر من أي وقت مضى.
وفي مقابل انشغال العرب بتنشيط «عجزهم» بالحبوب الزرقاء، يبدو أنهم نسوا أن أخطر عجز يتهددهم هو العجز عن مواجهة خصومهم الذين يتقوون يوما عن آخر.
وها نحن اليوم نقف على التجلي الواضح لهذا العجز الفاضح، خصوصا ونحن نرى كيف يغتصب أمامنا الوحش الإسرائيلي أطفال فلسطين في غرفة مغلقة اسمها غزة، بينما الأنظمة العربية تطل من ثقب الباب وتتفرج بصمت.
لقد شغلونا بحبوب «الفياغرا» لكي ننشط أعضاءنا الحميمية ونتناسل ونتكاثر، بينما نحن بحاجة إلى حبوب تنشط ضمائر حكامنا المصابة بالارتخاء. فهم يعرفون أن الطريق إلى الانتصار على المسلمين يمر حتما عبر غرائزهم. فالملوك الكاثوليك لم ينجحوا في طرد المسلمين من الأندلس إلا بعدما أصبح ملوك الطوائف المسلمون غارقين في النبيذ والشعر والغواني. فقالت أم الملك عبد الله آخر ملوك الأندلس لابنها الباكي أمام قصره «إنك تبكي مثل النساء ملكا لم تستطع أن تحافظ عليه مثل الرجال».
ربما لهذا السبب قال ضابط أمريكي لصحيفة «الواشنطن بوست» أن حبوب «الفياغرا» أعطت نتائج لافتة للانتباه مع شيوخ القبائل الأفغانية. فهم عندما يعطون الشيوخ الحبوب الزرقاء، وهم في السبعين والثمانين من أعمارهم وأغلبهم متزوج من أربع نساء، يقولون لهم «جربوها وستحبونها». ثم يتركونهم لبضعة أسابيع قبل أن يعودوا إليهم من جديد. ليكتشفوا أثر حبة البركة الساحر على الشيوخ، وليكتشفوا أيضا المسالك السرية لمخابئ طالبان والتي يعطيها لهم هؤلاء الشيوخ مقابل الحصول على المزيد من «حبوب البركة». فأمريكا وإسرائيل تعرف جيدا نقطة ضعف الأمة العربية، وخصوصا قادتها.
ولم تكن إسرائيل لتنتصر في حربها ضد مصر والعرب سنة 1967 لولا استثمارها لنقطة ضعف خصومها، فجندت نساء مخابراتها لكي يستدرجن الضباط والقادة الميدانيين في مغامرات كاذبة انتهت مع القضاء كليا على القوة الضاربة «للطيران» العربي. «ومن ديك الساعة وهوما شادين لرض».
وفي كل أجهزة الاستخبارات العالمية يوجد تقليد شائع منذ أمد بعيد، وهو استخدام الجنس كحافز قوي. وحسب «روبرت باير»، أحد ضباط وكالة الاستخبارات الأمريكية المتقاعدين، ومؤلف العديد من الكتب عن عالم الاستخبارات، فأجهزة الاستخبارات الروسية طالما عُرف عنها استخدام نساء فاتنات كطعم للإغواء عندما تسعى لتحويل الدبلوماسيين الأجانب إلى مخبرين متعاونين معها.
الخطير في عجز القادة العرب، أنهم يريدون تسويقه على أساس أنه تعقل وتبصر وحكمة. فيما هو الجبن والخنوع بعينه. وهكذا عوض أن يتهموا إسرائيل بمسؤوليتها الكاملة عن المجزرة الرهيبة التي تقترف أمام أنظار العالم، سمعنا بعضهم يحملون حركة حماس وفصائل المقاومة مسؤولية دماء الشهداء الذين سقطوا بصواريخ الجيش الإسرائيلي.
إنهم يريدون للجميع أن يكون عاجزا مثلهم، وأن يضع كل من لازال يقاوم من أجل شرفه وشرف الأمة الإسلامية بكاملها بندقيته وقاذفة صواريخه حتى ينضم إلى «نادي العاجزين العرب»، المتعقلين والمتبصرين والحكماء، أصحاب سياسة «زبط النفس» كما يقوا الرئيس حسني مبارك.
يريدون أن ينقرض زعيم تاريخي مثل الشيخ حسن نصر الله، ورئيس وزراء منتخب كإسماعيل هنية، ومحارب شهم كسمير القنطار، وغيرهم من الرجال الذين يشرفون هذه الأمة، ويحيون رمز وصورة القائد صلاح الدين الأيوبي، محرر القدس، في نفوس الشباب العربي المسلم المتعطش لنموذج شهم وشجاع في هذا الزمن العربي الأغبر الذي تحولوا فيه إلى أيتام في مأدبة اللئام.
إن هذه النماذج المشرقة والمشرفة للعرب والمسلمين هي التي يريدون رأسها في الواقع، لأنها هي الوسيلة الوحيدة للقضاء على العجز العربي المزمن، باختيارها مقاومة العدو عوض الاستسلام والخنوع لعربدته الجبانة.
عندما يتحدث اليوم حسن نصر الله، ويطالب مصر بفتح معابرها مع غزة، فيرد عليه صحافي مصري ينتمي إلى الحزب الحاكم، واصفا إياه برجل العصابات الذي دمر لبنان، نفهم أن هناك من العرب من أصبح ينوب عن إسرائيل في مهاجمة رموز المقاومة، مزكيا حالة العجز التي يعيشها قادتهم. ونسي هذا الصحافي أن من دمر لبنان هو جيش الاحتلال الإسرائيلي وليس حسن نصر الله الذي هزم هذا الجيش وأعاد إعمار الجنوب اللبناني في ظرف قياسي.
عندما استشهد ابن الشيخ حسن نصر الله في مواجهة العدو الإسرائيلي، ابتسم هذا الأخير وقال أنه منذ اليوم لن يشعر بالخجل عندما سيذهب لتقديم التعازي في وفاة ابن إحدى العائلات اللبنانية، لأنه دفع نصيبه في المقاومة من فلذة كبده.
أمثال هؤلاء الرجال المؤمنين بعدالة قضيتهم، والواقفين في خندق الممانعة والمقاومة ضد العدو، هم الذين تريد إسرائيل القضاء عليهم باسم الإرهاب وغيره من التهم. لأن القضاء على هؤلاء الرجال هو الطريق السالك نحو العجز العربي الشامل، الذي يمهد الطريق للاغتصاب الجماعي للأمة العربية بكاملها.
الأربعاء، 18 نوفمبر 2009

ورق يكفي لسنة

ورق يكفي لسنة

تصر إسرائيل وحلفاؤها في البيت الأبيض على مفاجأة المسلمين في العالم بأسره بهدايا مسمومة لا ينتظرونها بمناسبة أعيادهم وأفراحهم.
قبل سنتين أصر الجيش الأمريكي وحكومته في بغداد على شنق الرئيس العراقي السابق صدام حسين فجر عيد الأضحى وتسجيل هذه الجريمة الشنيعة وتسريبها إلى وسائل الإعلام. فظلت شاشات العالم بأسره تعرض على مشاهديها مشهد صدام حسين وهو يتلو الشهادتين قبل أن يلف عنقه حبل الغدر ويهوي إلى الأسفل وتنقطع الصورة فجأة.
واليوم والعالم الإسلامي يحتفل بالعام الهجري الجديد، قرر الجيش الإسرائيلي أن يحول غزة إلى محرقة تشوى فيها أجساد الأطفال والنساء إلى جانب أجساد عساكر حماس. ورأينا كيف أن الشاشات التلفزيونية نفسها التي عرضت مشهد صدام حسين وهو يتلو الشهادتين، تعرض اليوم مشهد رجل أمن فلسطيني يرفع سبابته ويتلو الشهادتين وهو في النزع الأخير على الهواء مباشرة. الفرق الوحيد بين المشهدين هو أن الأول تم في دهليز تحت جنح الظلام، والثاني حدث في ساحة عمومية في الهواء الطلق وفي ساعة الذروة.
إسرائيل لم تحترم لا مشاعر العالم المسيحي الذي يحتفل بمولد المسيح عليه السلام، ولا مشاعر العالم الإسلامي الذي يحتفل بهجرة محمد عليه الصلاة والسلام، ولا حتى مشاعر اليهود الذين يخلدون عيد «الأنوار». وهي الأعياد المقدسة للديانات السماوية الثلاث، والتي قلما تلتقي في موعد واحد. لذلك قررت إسرائيل أن تخلد هذه الأعياد بطريقتها الخاصة، وتستعرض جبروتها وعلوها على مدينة فلسطينية محاصرة من جانب الأعداء والأصدقاء.
وفي مقابل الحرب الهمجية التي تقودها إسرائيل على الأرض هناك حرب فضائية أخرى تتكفل بها القنوات التلفزيونية العالمية الكبرى. ومن يغادر «نايل سات» ويتنقل قليلا بين الأقمار الاصطناعية الغربية، سيشاهد رؤية مغايرة لما يقع في غزة، تقدم إسرائيل كضحية للصواريخ تقليدية الصنع التي ترميها حماس على المستوطنين الإسرائيليين.
وبالأمس شاهدت في إحدى القنوات الإخبارية الفرنسية كيف أنهم ركزوا على لقطة ظهر فيها أحد الوزراء الإسرائيليين وهو يرتمي مذعورا فوق الأرض ويقفز فوقه حراسه الشخصيون لكي يغطوا جسده، بعد أن بلغهم أن صاروخا فلسطينيا انطلق من غزة باتجاه الوزير الإسرائيلي. وطبعا كان ذلك مجرد إشعار كاذب، الهدف منه تسويق صورة إسرائيل الضحية والتي تتهدد أمن وزرائها ومواطنيها صواريخ مصنوعة من القواديس داخل محلات سباكة تقليدية. لكن الصورة لفت العالم واهتمت بها نشرات الأخبار، مثلما لفت العالم صور النساء الإسرائيليات في المستوطنات وهن يجذبن ويندبن كلما سمعن صوت سقوط صاروخ فلسطيني في مكان ما.
ورغم الفرق الواضح في عدد ضحايا الصواريخ الفلسطينية والذي لا يتجاوز ضحيتين، وعدد شهداء الصواريخ الإسرائيلية الذي وصل إلى 312 شهيدا، فإن العالم الغربي يتعامل مع الطرفين بالمثل، ويطالب الاثنين بالكف عن ممارسة العنف. رغم أن الفلسطينيين يدافعون بصواريخهم التقليدية الصنععن وجودهم ويقاومون لرفع الحصار عنهم، والإسرائيليين يستعملون صواريخهم المتطورة للقتل والقتل فقط. وقد اعترف بذلك نائب رئيس الوزراء حاييم رامون عندما قال بأن الهدف من تحركهم في غزة هو إسقاط حماس.
العالم الإسلامي الذي خرج يتظاهر فرحا بما قام به الصحافي العراقي منتظر الزيدي الذي رشق جورج بوش بفردتي حذائه، يخرج اليوم باكيا إلى الشوارع لكي ينعي شهداء فلسطين الذين قصفهم الجيش الإسرائيلي بصواريخ تخترق التحصينات تسلمتها حديثا من أمريكا.
ولكي تعرفوا أن حادثة الحذاء لم «تسرط» لبوش، يكفي الاطلاع على ما قالته زوجته «لورا بوش» في مقابلة مع التلفزيون الأمريكي «فوكس نيوز» الذي يكره العرب والمسلمين كرها شديدا. فقد قالت السيدة «لورا» بأنها تعتبر قذف زوجها بالحذاء هجوما، ولذلك يجب التعامل مع هذه الحادثة على هذا الأساس.
السيدة «لورا» تعتبر رمي زوجها بفردتي حذاء، لم تصبه أية واحدة منهما بمكروه، هجوما، في الوقت الذي تصمت فيه عن ثلاثة أيام من الهجوم الحقيقي المتواصل على سكان غزة بالقذائف والصواريخ أوقع مئات الشهداء شهيد ومئات الجرحى والمعطوبين. يبدو أن هذا الأمر لا يعتبر في نظر السيدة «لورا» هجوما، وإنما مجرد دفاع عن النفس.
وإذا كانت السيدة «لورا» فخورة باللياقة البدنية لزوجها، والتي مكنته حسب ما قالته لقناة «فوكس نيوز»، من تجنب الحذاء القاتل الذي وجهه نحوه الصحافي الخطير، فإنها تعتبر «ضربة الحذاء» دليلا على حرية التعبير التي يشهدها العراق بفضل زوجها جورج بوش وجيوشه.
نفهم من كلام السيدة «لورا» بأن «ضربة الحذاء» لم تكن حدثا طريفا كما صورها الإعلام الغربي، وإنما كانت هجوما على رئيس أقوى دولة في العالم. ولذلك فهؤلاء العرب والمسلمون الذين خرجوا يتظاهرون فرحين بأحذيتهم، رافعين صور منتظر كما لو كان المهدي المنتظر، يجب أن يندموا على لحظات الفرح تلك، وأن يجلسوا أمام شاشات تلفزيوناتهم وتغلق شهيتهم للأكل وهم يرون أشلاء إخوانهم في غزة موزعة هنا وهناك.
إن سياسة الرعب والترهيب سياسة معروفة وقديمة في الحروب. خصوصا تلك التي تكون على أساس ديني. وعبر التاريخ الطويل والدامي للمنطقة، ارتوت أرض فلسطين بشلالات وأنهار من الدماء. وقبل مجازر صبرا وشاتيلا ودير ياسين والحرم المقدسي، كانت هناك عبر التاريخ مجازر ومحارق سابقة اقترفها الصليبيون تقشعر لها الأبدان. يكفي أن نعرف أن الجيوش الصليبية وهي تزحف نحو القدس لم تكن تتورع عن شي أجساد العرب وسلق أطفالهم في قدور المياه المغلية لإخافة ساكنة المدن الموالية التي سيقتحمونها. وهكذا استسلمت قرى ومدائن بكاملها للجيوش الصليبية بدون مقاومة تذكر.
فالرعب والترهيب أعطى مفعوله. وإسرائيل بما تقوم به اليوم من تقتيل وتنكيل بالأطفال والنساء والشيوخ ليس سوى استعادة لهذا التاريخ الدامي والوحشي من أجل دفع الفلسطينيين والعرب إلى الاستسلام بدون مقاومة.
هناك هدف آخر للوحشية والهمجية التي تقترفها إسرائيل في غزة اليوم، وهو إخافة الدول العربية المجاورة، وترهيبها. وهي الرسالة التي وصلت بالطبع. ففي الوقت الذي كان الجميع ينتظر انعقاد قمة طارئة لإيقاف حمام الدم الفلسطيني، رأينا كيف اجتمع الأشقاء الخليجيون في قمة دول مجلس التعاون الخليجي في عمان لمناقشة الأزمة المالية وانخفاض أسعار البترول.
وقد كان الأحرى بهؤلاء العرب أن يناقشوا في قمتهم ليس انخفاض قيمة برميل النفط في البورصات العالمية، وإنما انخفاض قيمة الدم الفلسطيني في بورصة العروبة والإسلام.
هناك اليوم نكتة يتداولها الإسرائيليون يتندرون فيها بحال العرب مع زعمائهم الذين يتبارون هذه الأيام في إصدار بيانات الشجب والاستنكار، تلخص هذا الوضع العربي والإسلامي المخجل تقول :
قال رئيس الوزراء الإسرائيلي مخاطبا زوجته :
- أنا داخل إلى الحمام
- لا تستطيع
قالت له زوجته.
- ولماذا ؟
- نفد لدينا ورق الطواليط...
- هذه ليست مشكلة وحلها سهل...
- كيف ؟
- بعد عمليتنا في غزة ستصدر عشرات البيانات الاستنكارية والشاجبة من الحكومات العربية، اجمعيها وسيكون لدينا ورق طواليط يكفينا لسنة !

قمة الخديعة

قمة الخديعة

كم درسا يحتاج العرب والمسلمون لكي يتعلموا أن إسرائيل هي أحسن من يطبق الحديث النبوي الشريف الذي يقول «الحرب خدعة». فقد خدعت إسرائيل الجيش المصري وقصفت طائراته وهي جاثية فوق مطاراتها، واضطر زعيم القومية العربية جمال عبد الناصر إلى تقديم استقالته بعد هذه الهزيمة المدوية. واليوم يعيد التاريخ نفسه في حرب إسرائيل ضد الفلسطينيين، لكن بتواطؤ عربي هذه المرة. فقد زارت وزيرة الخارجية الإسرائيلية «تزيبني ليفني» مصر قبل المجزرة بأيام قليلة لكي تخبر القادة المصريين بما ستقترفه. ثم عادت واتفقت مع رئيس الحكومة الإسرائيلية على ممارسة سياسة «السرية والخداع والتضليل لضمان عنصر المفاجأة»، كما نشرت ذلك صحيفة «هآريتس» الإسرائيلية.
ولكي يعرف العالم بأسره أن إسرائيل تعتبر نفسها في حالة حرب هذه الأيام، فيكفي الرجوع إلى ما نشرته جريدة «هآريتس» عندما كتبت بأن «يهود أولمرت» طلب من وزراء حكومته بأن يكفوا عن إعطاء التصريحات التي من شأنها إضعاف قدرات الجيش القتالية، حتى يكون بمستطاع الجيش تحقيق الانتصار نفسه الذي حققه في حرب الأيام الستة.
ومن بين وسائل التضليل والخداع التي مارستها الحكومة الإسرائيلية هي أنها كلفت الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز بإعطاء حوار في الصحيفة السعودية الأكثر انتشارا يبشر فيه المنطقة بالسلام الموعود. وفي الوقت الذي كان فيه مسؤولون مصريون يعطون تطمينات خادعة للفلسطينيين بأن الجيش الإسرائيلي لن يقصف غزة، خرج يهود باراك «يزف» لوسائل الإعلام أن إسرائيل قررت فتح المعابر الحدودية مع القطاع من أجل إدخال المساعدات.
فعلت إسرائيل كل شيء لكي تخدع حركة حماس والفلسطينيين، ومعهم العرب أجميعن. وفعل بعض الأشقاء العرب كل جهدهم لكي تنجح هذه الخديعة في الانطلاء على إخوانهم الفلسطينيين. وفي الأخير عندما سقطت كل هذه المئات من الشهداء والجرحى انطلقت مناحات الحكومات العربية بين مندد وشاجب ومستنكر.
والحقيقة أن ما وقع درس عميق وباهظ الثمن للفلسطينيين أولا، وللعرب والمسلمين ثانيا. حتى يفهموا جميعا أن إسرائيل لا تريد من الفلسطينيين السلام وإنما تريد منهم الاستسلام. وفي الوقت الذي كانت فيه الحكومة الإسرائيلية تمثل أمام العالم بأسره دور الباحث عن مخرج لعملية السلام من ورطتها، كانت في الخفاء تعد العدة لشن أشرس حملة للتطهير العرقي ضد الفلسطينيين منذ الستينات وإلى اليوم.
في الحوار المطول الذي نشرته جريدة «الشرق الأوسط» يوم المجزرة مع شيمون بيريز، قال فيه هذا الأخير أنه جاء لكي يعلن الحرب على الحرب، وأن المنطقة نضجت للتوجه نحو السلام. من قرأ كلام الرئيس الإسرائيلي في الثامنة صباحا، رأى مع آذان الظهر بالتوقيت الفلسطيني التطبيق العملي لما قاله شيمون بيريز للصحيفة السعودية. فالرئيس الإسرائيلي في الواقع كان يريد أن يقول بأنه لم يأت لكي يعلن الحرب على الحرب، وإنما جاء لكي يعلن الحرب فقط. أما بخصوص نضج المنطقة للسلام فالرئيس الإسرائيلي كان يقول هذه الكذبة المفضوحة للصحافي الذي أجرى معه الحوار، فيما هو مقتنع في داخله بأن المنطقة نضجت بالفعل، ليس لاستقبال حمائم السلام ولكن لاستقبال نيران القذائف والصواريخ.
شخصيا ما اثارني في حوار «الشرق الأوسط» مع الرئيس الإسرائيلي المنشور يوم المجزرة، هو التقديم الذي خصت به الجريدة بيريز. وهو تقديم يجب أن يطالعه رؤساء الحكومات العربية من باب «اعرف عدوك»، هذا إذا كانت الحكومات العربية تعتبر شيمون بيريز عدوا طبعا.
فالرجل البالغ من العمر 86 سنة يستيقظ على الساعة الخامسة صباحا وأول ما يصنعه هو قراءة تقرير مفصل للأحداث من الصحافة الإسرائيلية والعربية والدولية، ثم يخرج لممارسة حصته الرياضية، قبل أن يعود لكي يفطر بوجبته المفضلة التي ليست شيئا آخر غير «سلطة» عربية باللبن. (يفطر بالسلطة العربية ويتعشى بالأطفال الفلسطينيين) وبعد ذلك يدخل مكتبه الرئاسي على الساعة الثامنة ولا يغادره إلا في الساعة العاشرة ليلا.
وهذا درس لرؤساء الحكومات العربية الذين يحتقرون صحافة بلدانهم ولا يعيرونها أهمية، ويعتقلون ويضايقون الصحافيين عوض قراءة تحليلاتهم وأخبارهم. ودرس كذلك لرؤساء الحكومات العربية الكسالى الذين عجزوا حتى عن الاتفاق على قمة طارئة لاتخاذ موقف عربي مشترك من هذه العربدة والفجور الإسرائيلي.
قبل شن عدوانها الدموي ضد غزة اتخذت كل الأحزاب الإسرائيلية موقفا مشتركا يقضي بوقف كل أشكال الدعاية الانتخابية إلى حين انتهاء الجيش من إراقة دماء الفلسطينيين. وقال زعماء الأحزاب السياسية أنهم يشعرون بأنهم اليوم جميعهم جنود في الجيش الإسرائيلي، ولذلك لا مكان للسياسة الآن.
وهم لا يكذبون في هذا الأمر. لأن الإسرائيليين ليسوا في الواقع مدنيين ككل مواطني دول العالم، بل جميعهم عسكريون خضعوا للتجنيد العسكري الإجباري في الجيش، استعدادا لحمل السلاح في وجه العرب في يوم من الأيام.
وهكذا ففي الوقت الذي تستعد فيه إسرائيل باستمرار للحرب، وتتسلح بأحدث العتاد الحربي، وتكون المهندسين وترصد الملايير لميزانيات البحث العلمي، وتدرب يوميا مواطنيها على القتال، يتغنى العرب بالسلام ويمدون أيديهم إلى إسرائيل مصافحين. ثم يستغربون كيف أن إسرائيل تبادر إلى قطع هذه اليد الممدودة بغباء عوض مصافحتها.
ولعل ما يثير الحنق هو أن نسمع الرئيس عباس أبو مازن يحمل مسؤولية ما وقع في غزة لحماس عوض حكومة إسرائيل. وكأنه يساعد إسرائيل في البحث عن مبرر آخر يمنح الضوء الأخضر للعمليات البرية التي تستعد لشنها على غزة لقتل المزيد من الفلسطينيين العزل. فالرجل من أجل القضاء نهائيا على خصومه السياسيين في غزة والذين فشل في مجابهتهم بصناديق الاقتراع، مستعد لتبرير الهمجية والبربرية.
أما أبو الغيط المصري فمتضايق لأن حركة حماس منعت دخول جرحاها إلى مصر. والجميع طبعا يفهم تخوف حركة حماس من نقل جرحاها إلى مستعجلات مصر. فقد فقدت حماس الثقة في قادة هذه الدولة الشقيقة التي ذهبت إليها وزيرة الخارجية الإسرائيلية لكي تخبرهم بالمجزرة التي سيقترفها جيشها يوميين قبل وقوعها. وبالتالي فحماس خائفة على جرحاها، خصوصا منهم الكوادر الأمنية المطلوبة رؤوسها من طرف الموساد الإسرائيلي.
ومن حقها أن تخاف، فقبل ثلاثة أسابيع من مجزرة غزة، عرضت الحكومة الإسرائيلية هدايا الزعماء والرؤساء العرب التي أرسلوها لرئيس جهاز الموساد الإسرائيلي للبيع في مزاد علني، خصصت عائدات هذه الهدايا العربية لخزينة الدولة.
بعض هؤلاء الرؤساء والزعماء هم الذين يعرضون مساعدتهم على الجرحى الفلسطينيين اليوم، وبعضهم هم الذين سيجتمعون في القمة العربية، إذا اجتمعوا طبعا. فكيف يمكن أن نفهم حرص هؤلاء على مصلحة الشعب الفلسطيني في العلن بينما هم في الخفاء يرسلون هداياهم وعطاياهم لوزراء في الحكومة الإسرائيلية ولرئيس جهاز الموساد.
إن الخداع الحقيقي في الصراع العربي الإسرائيلي، ليس فقط خداع جيش الاحتلال لخصومه الفلسطينيين واللبنانيين والعرب بشكل عام في المعركة، بل أيضا خداع الأشقاء العرب وطعنهم لبعضهم البعض في الظهر لمصلحة العدو المشترك. هذه ليست قمة عربية وإنما هذه هي قمة الخديعة.

حاصر حصارك لا مفر

حاصر حصارك لا مفر

ما الذي يجمع بين السي حسين أوباما الأمريكي وبين هنية الفلسطيني. ما يجمع بينهما أنهما الاثنان رئيسان منتخبان ديمقراطيا من طرف الشعب. الأول جاء إلى البيت الأبيض بعد أن استطاع إقناع الناخبين الأمريكيين بمشروعه السياسي، والثاني جاء إلى مقر السلطة الفلسطينية بعد أن أقنع الشعب الفلسطيني بمشروعه السياسي والنضالي.
لكن بما أن أوباما أمريكي فقد قبل العالم وهلل ورحب بدخوله البيت الأبيض. وبما أن هنية فلسطيني ويوجد على رأس منظمة للمقاومة لا تقبل الاعتراف بإسرائيل، فإن حكومات أوربا والبيت الأبيض أجمعوا على تصنيفها في خانة المنظمات الإرهابية. ولذلك تمت إقالة هنية وحكومته، ضدا على إرادة الشعب الفلسطيني الذي منحها ثقته وأصواته.
ويوما واحدا بعد مرور صور الرئيس الأمريكي المنتخب حسين بارك أوباما في كل قنوات العالم وهو يتناول رفقة ابنتيه «ماليلا» و«ساشا» المثلجات في مركز تجاري بهاواي، رأى العالم في القنوات نفسها صورا لعشرات الأمهات وهن يتراكضن في كل الاتجاهات حاملات جثث أطفالهن بعد سقوط قنابل تزن كل واحدة منها طنا من المتفجرات في الشارع العام بغزة.
قبل أن أتابع نشرة أخبار الظهيرة التي نقلت صور «الهولوكست» الفلسطيني، كنت قد أنهيت للتو قراءة حوار نشرته «الشرق الأوسط» يوم السبت مع «شيمون بيريز» الرئيس الإسرائيلي اختارت له الجريدة العنوان التالي «المنطقة نضجت للتوجه نحو السلام». فقلت في نفسي أن العنوان الأنسب للحوار كان سيكون هو «المنطقة نضجت» والسلام. خصوصا بعد أن رأينا كيف نضجت أجساد الرجال والأطفال والنساء الفلسطينيين تحت نيران عملية «الرصاص المتدفق» التي أطلقها الجيش الإسرائيلي.
ورأى العالم بأسره صورة رجل الإسعاف الفلسطيني وهو يجمع في إناء قدما وكفا ممزقتين باحثا عن صاحبهما وسط الأشلاء. ورأى العالم الإسلامي لقطات حية (نقول حية تجاوزا) لضحايا القصف وهم يحتضرون ويتلون الشهادة على الهواء مباشرة قبل أن تزهق أرواحهم.
وعوض أن يتخذ «العالم الحر» الذي ترفع لواءه الولايات المتحدة الأمريكية، موقفا حازما من هذه البربرية والوحشية والدموية التي يتفرج عليها العالم بالبث الحي، جاء رد فعل البيت الأبيض شبيها بصفعة قوية لكل العرب والمسلمين. فكل ما يطالب به البيت الأبيض هو أن يحاول الطيارون الإسرائيليون تجنب إصابة المدنيين بقذائفهم وصواريخهم خلال القصف.
واضح أن جورج بوش يرد للأمة العربية والإسلامية، على ظهر الفلسطينيين، تحية الحذاء بأحسن منها. فقد قرر أن يكون خروجه من البيت الأبيض وتسليمه للسلطة في العشرين من الشهر القادم، خروجا «مظفرا»، وأن يختم ولايته بهذه المجزرة الرهيبة التي باركها هو وعازفته المفضلة على البيانو، كونداليزا رايس.
ومنذ أن رأيت فردتي الحذاء تتطايران نحو وجه بوش في تلك الندوة الصحافية ببغداد، ورأيت حجم الشماتة التي أبداها المسلمون والعرب عبر أرجاء العالم بهذه التحية الحذائية، وأنا أقول بأن هناك من العرب والمسلمين من سيدفع الثمن غاليا، وفي القريب العاجل.
وهاهي مجزرة غزة التي لم يحدث مثلها منذ ستين سنة من الاحتلال، تأتي لكي تنسي المسلمين والعرب انتصارهم الصغير في تلك الندوة الصحافية، وتعيدهم إلى رشدهم لكي يفهموا أن ساكن البيت الأبيض ليس لديه اعتراض على قصف رجال أمن حماس وكوادرها ومقاوميها وقتلهم وتشتيت أشلائهم في الطرقات، وإنما فقط يطلب من قناصي الجيش الإسرائيلي أن يكونوا دقيقين وهم يضغطون على أزرار قاذفات صواريخهم، حتى لا يصيبوا الأطفال الخارجين من المدارس وأمهاتهم اللواتي يقفن بانتظارهم.
ولو كانت نصائح الرئيس الأمريكي باجتناب ضرب المدنيين تفيد لكانت أفادت قواته العسكرية في أفغانستان والعراق، والتي تخلط الأعراس والمآتم بجحافل الطالبان، فتقصف كل شيء يتحرك. فبالنسبة إلى الجيش الأمريكي الأفغاني أو العراقي الجيد هو الأفغاني أو العراقي الميت.
وهكذا بدأنا نسمع خلال بداية الغزو الأول للعراق وأفغانستان مصطلحا حربيا جديدا اسمه «نيران صديقة»، لتبرير القصف العشوائي الذي لا يميز بين المدنيين والمقاتلين.
وبالنظر إلى سوابق الجيش الأمريكي في القصف العشوائي، ومثال ملجأ العامرية في بغداد الذي برر الجيش الأمريكي قصفه بخلطه بمصنع للأسلحة، لازال ماثلا في الذاكرة. فكيف ينصح الرئيس الأمريكي جيش الاحتلال الإسرائيلي بتجنب قصف المدنيين وهو نفسه يرتكب هذه الجريمة بدم بارد في كل مكان يرسل إليه جنوده.
عندما يسمع المرء رئيس أقوى دولة في العالم وهو يبارك القتل ويحاول تغليفه بطابع إنساني، ويسمع نيكولا ساركوزي رئيس البلد الذي صدر الثورة الفرنسية إلى العالم وأرسى مفاهيم العدل والمساواة والإخاء، يطالب أولا بوقف إطلاق صواريخ المقاومة وثانيا بوقف صواريخ الجيش الإسرائيلي، ونسمع وزيرا مصريا يبرر الاعتداء بكون الحكومة المصرية قد أنذرت حماس قبل القصف، وأنها ستفتح معبر رفح لمرور الجرحى نحو الإسعاف، وكأن الفلسطيني لا يجوز له العبور نحو مصر إلا مقتولا أو مجروحا أو مضروبا، عندما نرى ونسمع كل ذلك نقتنع بأن الفلسطيني أصبح اليوم وحيدا أمام قدره أكثر من أي وقت مضى.
وقد لخص هذه الصورة بشكل دقيق المحلل السياسي البرغوثي لقناة الجزيرة عندما قال بأن الفلسطينيين يجب أن يعولوا على مقاومتهم، وأن لا ينتظروا من العرب والمسلمين شيئا. وقالها الرئيس الليبي معمر القذافي أيضا عندما جمع لجانه الشعبية لكي يقول لهم بأن العرب سواء اجتمعوا الخميس المقبل أو العام المقبل فإنهم لن يغيروا شيئا من واقع الأمر في فلسطين.
لقد أصبح اليوم واضحا أن الفلسطينيين في غزة تعرضوا لمؤامرة شارك فيها الأصدقاء قبل الأعداء. ولذلك فمن الظلم إلصاق دماء الفلسطينيين الذين سقطوا في مجزرة السبت الأسود فقط بأيادي الجيش الإسرائيلي، لأن أيادي الأشقاء العرب أيضا ملطخة بهذه الدماء المغدورة.
إنه لمن العار أن تغلق مصر، أم الدنيا كما يقولون، معبرها في وجه الفلسطينيين وهم أحياء ولا تفتحه سوى أمام نعوشهم ونقالات جرحاهم. وإنه لمن المخجل أن تقرر جامعة الدول العربية عقد قمتها الطارئة بعد خمسة أيام من المحرقة الفلسطينية حيث سقط أكثر من 300 شهيد في يوم واحد.
وإنه لمن المخجل للعالم المسيحي بأسره، (مادمنا فقدنا الأمل في العالم الإسلامي) والذي يحتفل بأعياد الميلاد بأشجار الصنوبر والشموع ويوزع على أطفاله الحلوى والهدايا، أن يسمح للجيش الإسرائيلي أن يريق دماء الأطفال الفلسطينيين فوق الأرض التي تقدسها الديانات الثلاث، أرض الأنبياء ومهد المسيح عليه السلام.
لقد أظهرت إسرائيل للعالم بأسره أنها لا تقيم وزنا لا لمشاعر مليار مسلم ولا لمشاعر مئات الملايين من المسيحيين، ولا حتى لمشاعر اليهود الذين يدافعون عن حق الشعب الفلسطيني في الحياة والوجود على أرضه. وأن ما قاله رئيس حكومتها شمعون بيريز لجريدة «الشرق الأوسط» يوم المحرقة، من كونه «يحمل رسالة سلام» وأنه «جاء ليعلن الحرب على الحرب» ليس سوى محاولة لطمأنة الفلسطينيين والعرب والمسلمين حتى ينخدعوا مثلما انخدعوا في كل حروبهم التي خسروها مع إسرائيل بسبب «نيتهم» وغبائهم الزائد عن اللزوم.
عندما نتأمل الصور البشعة التي تتناقلها تلفزيونات العالم للأشلاء المتناثرة لإخواننا الفلسطينيين ونرى حجم عزلتهم ووحدتهم أمام البربرية الإسرائيلية، نتذكر قصيدة «مديح الظل العالي» للراحل درويش، ونفهم أخيرا لماذا أوصى الفلسطينيين بالاعتماد على أنفسهم للبقاء. تأملوا جيدا ماذا قال درويش قبل سنوات :
سقط القناع
لا إخوة لك يا أخي
لا أصدقاء يا صديق
لا قلاع لا الماء عندك
لا الدواء، ولا السماء، ولا الدماء
ولا الشراء، ولا الأمام، ولا الوراء
حاصر حصارك.. لا مفر
سقطت ذراعك فالتقطها
واضرب عدوك.. لا مفر
وسقطت قربك فالتقطني واضرب عدوك بي
فأنت الآن حر
قتلاك أو جرحاك فيك ذخيرة
فاضرب بها
اضرب عدوك.. لا مفر...

رأس السنة وأطرافه الأخرى

رأس السنة وأطرافه الأخرى

سيمر رأس السنة الملفوف بالضمادات والشراشف البيضاء كأي جندي عائد لتوه من جبهة الحرب.
سيمر بأرجله المعطوبة في الحوادث والمعارك الطاحنة والحروب الأهلية.
سيمر بيديه المصابتين بحروق من الدرجة الثالثة بسبب قبضه على جمرة الحقيقة، وأظافره المقتلعة بسبب كثرة الاستنطاقات وجلسات التعذيب داخل أقبية الدول المتخلفة.
سيمر بقلبه المنهك والمصاب بالذبحة بسبب كل الخيانات التي عاشها، وبكليتيه اللتين تنتظران متبرعا من العالم الثالث بعد أن توقفتا عن تصفية دمائه المصابة بفقر الشعور الوطني.
سيمر رأس السنة المليء بالصداع النصفي وأذناه المصابتان بالطنين المزمن من كثرة الشكاوى والتوسلات.
سيمر بأنفه الذي يشتم به رائحة الكوارث بعد فوات الأوان، والمجدوع في أكثر من انقلاب.
سيمر بشفتيه المتقرحتين بسبب كثر القبل المنافقة بين زعماء العالم في المؤتمرات والقمم.
سيمر بظهره المقوس من كثرة الانحناء احتراما لمواكب الجيوش وخطوط الدبابات الشبيهة بخطوط النمل، والتي تدوس الحدود بين الدول الجارة كما يدوس فيل آنية فخار.
سيمر رأس السنة المشقق لفرط النقر عليه طيلة السنة بحثا عن فكرة طيبة بلا طائل.
سيمرَّ بخاطره المكسور مثل آنية ثمينة في المطبخ وبضميره المحطم مثل عش طيور داهمته عاصفة ثلجية.
سيمر بجبهته التي نزلت إليها الجيوش وتحاورت بكل أنواع الأسئلة حول موضوع قديم يحمل اسم «البقاء للأقوى».
سيمر بتجاعيده التي ازدادت عمقا بسبب الألم في المفاصل والظهر. سيمر بعكازه الذي فرضه عليه دركي العالم، بسبب تباشير الروماتيزم التي بدأت تظهر عليه من كثرة الانحسار المناخي.
سيمر بصدره المخنوق بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية التي لم تنفعه معها كل «فونطولين» العالم. سيمر بسعاله الحاد الذي انتقلت عدواه من عيادة بورصة «والت ستريت» إلى باقي بورصات العالم، حيث يراكم أحفاد قارون ثرواتهم ويكنزونها في شراء الأسهم والسندات.
سيمر رأس السنة المتخم بالأوهام حول السلام والتعايش، فيما شركات الأسلحة متعددة الجنسيات تدفع الملايير للأبحاث حول تطوير فاعلية أسلحتها للقتل بشكل أسرع في الحروب المستقبلية.
سيمر رأس السنة بأسنانه التي يتناقص عددها بالتدريج بانتظار أن تسقط كلها بالضربة القاضية.
سيمر رأس السنة منفوش الشعر بسبب تقافز زعماء العالم فوقه مثل أطفال أشقياء. كل زعيم يريد أن يلهو بالكرة الأرضية في الحديقة الخلفية للبيت الأبيض لوقت أطول من الآخرين.
سيمر رأس السنة بمكنسته الكهربائية التي ستنظف العالم من الفقراء والضعفاء لكي تتركه نقيا وفسيحا لأغنياء البورصات والبنوك العملاقة.
سيمر بشاربه الذي قصه الأقوياء وعلقوه في غرفة نومهم ليذكروا زوجاتهم كل ليلة بانتصاراتهم التاريخية.
سيمر رأس السنة بحذائه المثقوب الذي تتسرب منه المسافات وتضيع هدرا في الطرقات، فلا يصل أبدا إلى أي مكان ويبقى حيث هو يراوح مكانه إلى الأبد.
سيمر رأس السنة الحسير بسبب الخجل مما يقع لهذا العالم العربي الذي لكثرة تعظيمه للتخلف صار من الضروري بناء نصب تذكاري على شرفه في كل عاصمة.
سيمر رأس السنة وسيحمل «بابا نويل» هداياه للشعوب العربية.
قليل من قنينات الغاز المسيل للدموع هنا، وحفنة من الهراوات هناك، ومزيد من أنابيب لصاق «إيهي» للزعماء فوق كراسيهم حتى لا يستطيع أحد تقليعهم من فوقها.
سيمر رأس السنة المقطوع على مقاصل العدالة الدولية والمرفوع فوق رايات الحلفاء والمعلق على مداخل أبواب المدن العربية.
سيمر رأس السنة بذاكرته القصيرة مثل حبل الكذب، والمثقوبة مثل أحذية عساكر العالم الثالث.
سيمر بأضراسه المسوسة من كثرة تناول الوعود المعسولة بغد أفضل، والبرامج زائدة الحلاوة التي يزدردها بنهم في المؤتمرات والقمم.
سيمر بصدره المعظم، من العظام وليس العظمة.
سيمر بظهره الموشوم بضربات السياط في مخافر التعذيب العربية، حيث الاعتراف بحب الوطن يكلف أحلى سنوات العمر.
سيمر رأس السنة المهموم، ينفث دخان سيجارة رديئة، متخفيا داخل قبعته لكي لا تتبعه لجنة تفتيش أممية بدعوى امتلاكه لأسلحة دمار شامل.
سيمر بعينيه اللتين اقتلعتهما نيران صديقة ووضعت مكانهما منظارين يقربان كل الأهداف بوضوح ويبصرانها في الظلام بالأشعة فوق الحمراء، فيما ملايين الفقراء في العالم لا يرون بعضهم البعض في الليل سوى بفضل ضوء القمر.
سيمر رأس السنة المليء بالأدخنة من كل نوع، دخان المعارك بالنسبة للأقوياء، ودخان الشيشة بالنسبة للضعفاء، ودخان السيارات بالنسبة للعمال في المصانع الحقيرة، ودخان الحطب بالنسبة للأمهات اللواتي يجلسن لإعداد الخبز فوق روث البقر في القرى الرائعة والبعيدة عن المدن العصابية.
سيمر رأس السنة سعيدا بكل ما حدث له.
سيأكل الحلوى والديك الرومي ويشرب نخبه في صحة الذين قاوموا كل عوامل الانقراض وبقوا معه.
سيمر رأس السنة هذا العام أيضا، دون أن ينتبه أحد إلى أنه فقد أهم أطرافه في الطريق.
قلبه وضميره والكثير من حواسه.

مادير خير ما يطرا باس

مادير خير ما يطرا باس

من المفارقات العجيبة في المغرب أن الذين يعطون صورة نموذجية ومثالية للآخرين تتم محاربتهم، بينما تزداد مرتبة وقيمة كل من يعطي نموذجا سيئا للآخرين. ولذلك تجد المغاربة مؤمنين أشد الإيمان بالحكمة التي تقول «مادير خير ما يطرا باس».
في فاس تلقى الجميع قرار الميداوي رئيس المجلس الأعلى للحسابات والقاضي بإزاحة رئيس المجلس الجهوي للحسابات بفاس من منصبه وتعويضه بقاض آخر، كنتيجة طبيعية لتقرير هذا المجلس حول الخروقات التي شابت تسيير المجلس الجماعي للمدينة والذي يترأسه العمدة شباط.
والجميع يتذكر خرجة شباط في ندوة صحافية عمومية اتهم فيها المجلس الجهوي للحسابات بكونه مخترقا من طرف «توجهات إرهابية». ومن غريب الصدف أن شباط الذي انتقد بحدة تقرير المجلس الذي حاسبه، يستعد لمحاسبة زميله في النقابة والحزب الأندلسي بعد اتهامه بتبذير أموال الشعب في اقتناء سيارة خاصة.
لكن يبدو أن كل من يقوم بواجبه كما يمليه عليه ضميره المهني، يجب أن يكون مستعدا للأسوأ. وهكذا عوض أن يأخذ القضاء تقرير قضاته على محمل الجد ويفتح تحقيقا في كل الخروقات التي حصروها بالأرقام والأسماء، فضل رئيس المجلس الأعلى التضحية برئيس مجلسه الجهوي.
وفي الرباط حكمت المحكمة مؤخرا ببراءة البحراوي عمدة المدينة من تهمة تنظيم حملة انتخابية سابقة لأوانها، بعد جلسات طويلة كانت تؤجل دائما لغياب الشهود. رغم أن محاضر الشرطة تتضمن اعترافات وبصمات المواطنين الذين ضبطوا في فيلة البحراوي، وكذلك أرقام حافلات النقل العمومي الذي استعملت في حشد كل هؤلاء المواطنين في بيت العمدة، فإن المحكمة حكمت له بالبراءة.
العمدة الآن بريء وسجله العدلي أنظف من وسادة. لكن هل تعرفون مصير موظف الاستعلامات العامة الذي كان سببا في تحريك المتابعة ضد البحراوي بإخباره للوالي وبالتالي تحريك عناصر الشرطة وتقديم الحاضرين في بيت العمدة إلى مخفر الأمن في حالة اعتقال بتهمة المشاركة في الحملة الانتخابية قبل الأوان.
لقد تم تجريده تقريبا من كل مسؤولية إدارية، وتم تنقيله من مكتبه بالولاية إلى مكتب بمقر وزارة الداخلية حيث يقضي يومه في قراءة الجرائد. يعني أن الوزارة وضعته في «التيروار» بلغة أهل الإدارة.
وفي الوقت الذي يعاقب فيه أمثال هؤلاء الموظفين والقضاة لأنهم قاموا بواجبهم كما يمليه عليهم ضميرهم المهني، فإننا نلاحظ كيف أن والي مدينة مراكش الذي يترأس المجلس الإداري للوكالة المستقلة لتوزيع الماء والكهرباء يعترف في الاجتماع الأخير للوكالة بأن هناك حوالي ألف حالة في مراكش لسرقة الكهرباء، مما كلف الوكالة عجزا ماليا قدره مليار و700 مليون سنتيم. الكارثة أن بين لصوص الكهرباء الألف هؤلاء شخصيات نافذة وبرلمانيين ورجال أعمال أسماؤهم معروفة لدى الوالي والمسؤولين.
وعندما لا يتورع مسؤول كبير أو برلماني أو رجل أعمال عن سرقة الكهرباء، فكيف يمكن أن يتورع عن سرقة ممتلكات الناس وأموالهم العمومية. ولعل أحسن شيء يمكن أن يقوم به الوالي بمراكش هو أن يوزع لائحة بأسماء هؤلاء المسؤولين والبرلمانيين ورجال الأعمال على الصحافة لكي تنشرها حتى يتعرف الجميع على أسماء هؤلاء الذين يضيئون فيلاتهم وفنادقهم ومطاعمهم على حساب دافعي الضرائب. فربما يجد المراكشيون في ذلك تفسيرا للفواتير المرتفعة التي تكهرب جيوبهم كل شهر.
ولو اقتصر الأمر على مواطنين عاديين فإن مشاكل من هذا القبيل تحل على مستوى قسم المنازعات في الوكالة وينتهي الموضوع. لكن أن يكون سارق الكهرباء برلمانيا أو مسؤولا عموميا أو رجل أعمال، فمسؤولية الوالي ووكالة توزيع الماء والكهرباء تفرض عليهما إطلاع الرأي العام عن أسماء المعنيين بهذه السرقات. لأن هؤلاء المسؤولين من المفروض فيهم أن يعطوا المثال للآخرين في الاستقامة ونظافة الذمة، وليس المثال في «الهريف».
على الأقل حتى تتخذ في حقهم أحزابهم وهيئاتهم السياسية والرسمية الإجراءات الزجرية التي تراها مناسبة.
ولو أننا رأينا كيف أن وزير الطاقة السابق بوطالب، توصل بإشعار من الخزينة يطالبه بإرجاع حوالي ثلاثين مليون سنتيم إلى صندوق الدولة بعد ما اكتشف المجلس الأعلى للحسابات أن الوزير الحركي استغل مصاريف التنقل من مالية الوزارة رغم تحمل الدولة لنفقات أسفاره إلى الخارج طيلة الفترة الممتدة ما بين 2003 و 2006.
في الدول الديمقراطية، وداخل الأحزاب التي تحترم نفسها، فإن أول شيء كان سيقوم به الحزب عندما تتصدر أخبار تبديد أحد وزرائه السابقين للمال العمومي صفحات الجرائد، هو تعليق عضويته ومباشرة تحقيق داخلي للتأكد مما نسب إليه. وفي حالة ثبوت التهمة فإن القرار الأنسب يكون هو الطرد من الحزب. حتى يعطي الحزب عن نفسه صورة شفافة وإيجابية.
في حالة بوطالب فإن الأمين العام للحركة الشعبية عقد فعلا اجتماعا مستعجلا بسببه. لكن ليس بسبب ما نسب إليه من تبديد لأموال الشعب في سفرياته عندما كان وزيرا ومطالبة الخزينة باسترجاع أموالها، وإنما بسبب اجتماع عقده بوطالب في بيته انتقد فيه الأوضاع الداخلية للحزب وألمح إلى إمكانية تأسيس إطار سياسي موازي للحزب بقيادته.
وبهذا الشكل فحزب الحركة الشعبية أعطى عن نفسه صورة الحزب الحريص فقط على ممتلكاته الحزبية الضيقة، أما ممتلكات الشعب المالية فلتذهب إلى الجحيم.
وإذا كان بعض السياسيين والبرلمانيين ورجال الأعمال يعطون بتصرفاتهم أمثلة سيئة للآخرين، فإن بعض النجوم والأبطال الرياضيين يفعلون الشيء نفسه. وعوض أن يستثمروا أموالهم في تشجيع الرياضة التي بفضلها أصبحوا نجوما ورجال أعمال، فإنهم يفضلون الاستثمار في «بيسري ديال الشراب» والملاهي.
وكبطل عالمي جلب للمغرب ذهبية سيول سنة 1988، وكبطل أولمبي جلب للمغرب ذهبية 10 آلاف متر، فإن بوطيب كان أحسن له وللصورة الرمزية التي يمثلها في أذهان الشباب على الخصوص أن يستثمر في شيء آخر غير «بيسري» لبيع الخمور في الخميسات. فالمدينة فيها ما يكفي من خمارات «وبيران»، وليست بحاجة إلى بطل أولمبي لكي يساهم بنصيبه في هذا «النشاط» الاقتصادي.
أما اللاعب الدولي مروان الشماخ الذي يستعد في أكادير لتحويل مطعم على الشاطئ إلى ملهى ليلي بعد وضعه طلبا في الموضوع للسلطات المحلية، فقد كان عليه هو الآخر أن يقرن شهرته واسمه ونجاحه بشيء آخر غير الملاهي الليلية، خصوصا في أكادير التي يعرف الجميع أية نوعية من السياح ترتاد هذه الملاهي. وأمامه مثال زميله طلال القرقوري الذي استثمر في قاعة رياضية في الدار البيضاء يستغل فيها الشباب وقته في بناء جسده وعقله.
المشكلة أن النوادي الرياضية في كثير من مدن المغرب عوض أن تقترن أسماؤها بمشاريع ذات سمعة طيبة، نجدها مقرونة ببارات ومحلات لبيع الخمور. ومن أغرب المفارقات هو أن تجد نوادي للتنس والكرة الحديدية وكرة القدم ورياضات أخرى «مجهزة» ببارات تباع فيها كل أنواع الخمور. حتى أصبحت بعض النوادي الرياضية عبارة عن خمارات يرتادها السكارى عوض الرياضيين.
وهناك نوادي رياضية هجرتها العائلات بعض أن أصبحت حكرا على هواة «الطاسة». وعوض أن تمنح الجماعات المحلية ومجالس المدينة هذه النوادي ميزانيات مالية لكي تسير شؤونها، فإنها تمكنها من رخصة لبيع الخمور حتى تتدبر أمورها بعائداته.
وهذه خصوصية مغربية لا ينازعنا فيها أحد. فالمغرب هو الدولة الوحيدة التي يمكن أن تجد فيها ناديا رياضيا مجهزا بخمارة، حيث يشرب الزبائن ويدخنون حتى ساعات متأخرة من الليل. وكأن هناك علاقة ما في المغرب ما بين الرياضة والكحول والتدخين والسهر لا يعرفها بقية الرياضيون في العالم.
وهذا طبيعي، ماداموا أصبحوا يعثرون عندنا في المعهد الوطني لألعاب القوى على المعجون في غرف الرياضيين. حتى أنهم ضبطوا مؤخرا رياضيتين عائدتين «بيلا» إلى المعهد.
ربحنا الميداليات بكري.