الأربعاء، 11 نوفمبر 2009

«بدون اعتراض»

«بدون اعتراض»

في كل الدول التي تحترم مواطنيها، يقترن ذكر «الوقاية المدنية» بالشهامة والنبل والشجاعة ونكران الذات وسائر الأوصاف الإنسانية الراقية. إلا عندنا في المغرب، فبمجرد ما يذكر أحدهم سيرة «الوقاية المدنية» ترتسم أمامك صورة التأخر في الوصول والخراطيم المثقوبة لشاحنات الإطفاء وقلة العدد والعدة، والأفظع من ذلك أن «الوقاية المدنية» في المغرب أصبح ذكرها مقترنا باكتشاف المقابر الجماعية.
وبالأمس فقط اكتشف عمال البناء في الناظور مقبرة جماعية عندما كانوا يوسعون مقرا للوقاية المدنية، واستخرجوا رفات ستة عشر مواطنا قتلوا رميا بالرصاص خلال انتفاضة 1984 التي عرفتها المنطقة.
بينهم طفل دفن بكريات «اللبي» في جيبه، وآخر عثر رجال الوقاية المدنية في جيبه على بطاقته الوطنية.
مما يدل على أن الذين اغتالوا هؤلاء المواطنين لم يكن لديهم حتى الوقت الكافي لتفتيش جيوبهم للتأكد من هوياتهم، فالأوامر التي أعطيت لهم كانت واضحة، قتل كل من يصادفونه في الشارع. والرصاصة التي تستقر في رأس الطفل الذي عثروا عليه بين الضحايا تشهد على ذلك. فالقناصة الذين انتشروا في الشوارع كانوا يركزون على الرأس بغاية القتل، وليس بغاية الاعتقال.
وقبل ذلك تم اكتشاف مقبرة جماعية بالوقاية المدنية التابعة للحي المحمدي بالدار البيضاء، يعود رفاتها لضحايا انتفاضة 1981، وكأن مقرات الوقاية المدنية تحولت في سنوات الرصاص إلى حدائق سرية للنظام يطمر فيها المنتفضين ضده، مع أن المفروض في «الوقاية المدنية» أن تكون ملجأ للباحثين عن النجدة وتجسيدا لقيم الشجاعة والشهامة وتقديم العون والمساعدة.
ولعل هذا ما دفع محمد الصبار رئيس منتدى الحقيقة والإنصاف لمطالبة الدولة بمباشرة أعمال الحفر في جميع ثكنات الوقاية المدنية بحثا عن رفات مجهولي المصير، الذين حدد لهم أحمد حرزني رئيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان سنة 2008 كآخر أجل لطي ملفاتهم.
وهاهي 2008 ذاهبة نحو نهايتها ولازالت نتائج المقبرة التي عثر عليها عمال البلدية في حديقة جنان السبيل في فاس قبل شهرين لم تظهر بعد.
هناك إذن صورة سيئة لهذه المؤسسة تكلست في الذاكرة الجماعية للمغاربة يجب أن يعاد ترميمها من جديد، حتى تستعيد دورها الاجتماعي الحقيقي. ففي الدول الديمقراطية ينظر الرأي العام لمؤسسة «الوقاية المدنية» نظرة بطولية، بحيث أن رجال الوقاية المدنية يعتبرون بمثابة نجوم ينافسون مشاهير السينما والتلفزيون على أدوار البطولة.
وفي المغرب شاهد الجميع كيف أن عدد سيارات الشرطة والتدخل السريع والقوات المساعدة وصلت بالعشرات إلى مكان محرقة ليساسفة، في الوقت الذي كانت فيه سيارات الإطفاء معدودة على رؤوس الأصابع. فما يهم السلطات عندما تشتعل النيران هو إطفاء الغضب الشعبي بالهراوات والغازات المسيلة للدموع وليس إطفاء الحرائق بالمياه.
ولعل القطاع الأهم اليوم والأولى بالاهتمام الحكومي هو قطاع الوقاية المدنية. فالمغرب بحكم انعدام تطبيق شروط السلامة في كثير من منشئاته الصناعية، وارتفاع نسبة ضحايا حوادث السير، واحتمال حدوث كوارث طبيعية تزيد من حدتها افتقار المدن إلى بنيات تحية، كلها أسباب تجعل من «الوقاية المدنية» أولوية الأولويات.
وعندما نراجع أعداد سيارات الإسعاف وسيارات الإطفاء في القيادات الجهوية للوقاية المدنية في المدن نفهم أن الدولة والحكومة لا تعطي قيمة كبيرة لسلامة وحياة المواطن المغربي. فهي تتحسب لغضبه وتشتري المعدات الباهظة والمتطورة لقمعه عندما يخرج ليحتج في الشوارع، لكنها تتجاهله عندما يحتاج قنينة أوكسجين أو كيسا من الصيروم أو محفة سيارة إسعاف لكي يصل إلى المستعجلات، أو عندما يحتاج خرطوم مياه لكي تنقذ جسده من ألسنة اللهب.
ولعل أحد الأسباب التي تجعل قتلى حوادث السير في ارتفاع مهول في المغرب، لا يعود إلى حوادث السير نفسها، وإنما أيضا إلى تأخر وصول سيارات الإسعاف وافتقار أغلبها إلى المعدات الطبية اللازمة لإسعاف الجرحى. ولو توفرت الإمكانيات الضرورية لرجال الوقاية المدنية لكي يقوموا بواجبهم لانخفضت نسبة قتلى حوادث السير إلى النصف. لكن وزارة النقل والتجهيز ولجنتها «العتيدة» للوقاية من حوادث السير يفضلون هدر أموال دافعي الضرائب على النصائح المملة في وسائل الإعلام على صرفها في الأمكنة التي تحتاجها فعلا.
كنت قد كتبت هنا في هذا المكان قبل أشهر حول مأساة الوقاية المدنية في المغرب، بمناسبة حريق كاريان خليفة بالدار البيضاء. وأشرت إلى عدد السيارات الجديدة التي اشترتها القيادة العامة للوقاية المدنية في الرباط لكبار عناصرها، في مقابل التقشف الذي تبديه هذه القيادة عندما يتعلق الأمر باقتناء أدوات العمل الضرورية لرجال الوقاية المدنية والمطافئ. لكن يبدو أنه لا حياة لمن تنادي، فقد استمر استغلال ميزانيات الوقاية المدنية الباهظة في امتيازات وسيارات الجنرالات والكولونيلات والقياد الجهويين، بينما رجال المطافئ الذين يواجهون النار والكوارث يفتقرون حتى للخوذات الواقية. مما دفع كثيرا منهم إلى اختيار الهجرة نحو قطر وبعض الدول العربية التي وفرت لهم رواتب محترمة ووضعا مهنيا لائقا.
وإذا عرفنا أنه منذ تعيين الجنرال اليعكوبي المكلف باقتناء المعدات الثقيلة والجنرال بن زيان المكلف بالمعدات الخفيفة في إطار ميزانية التجهيز التي يتحملان مسؤوليتها، لم تتم في عهدهما سوى صفقتين للمعدات الخفيفة طيلة إحدى عشرة سنة الماضية. ولعل هذا ما يفسر وجود كل تلك الثقوب في خراطيم المياه.
والحمد لله أن المسؤولين انتبهوا إلى يد الكوماندار الطويل، القائد الجهوي للمطافئ بالدار البيضاء، في «محرقة ليساسفة» وأمروا بتوقيفه عن العمل بانتظار مباشرة البحث معه حول تأشيره على الترخيص الممنوح لمعمل الموت بعبارة «بدون اعتراض، لتوفره على جميع شروط السلامة». فرغم أن الكوماندار الطويل كان موضوع شكايات سابقة تقدم بها رؤساء شركات في الدار البيضاء للجنرالين بن زيان واليعكوبي، لكن سعادة الجنرالين لم يفتحا أي تحقيق في هذه الشكايات للتأكد من مزاعم أصحابها.
ولعل «محرقة ليساسفة» ليست سوى الشجرة التي تخفي الغابة، ولو فتحت اللجنة الوزارية التي أمر الملك بإنشائها لمتابعة تطبيق شروط السلامة في المنشآت الصناعية، التحقيق لعثرت على بصمات هذا الكوماندار في مصانع وشركات ومعامل أخرى «عمدها» بجملته السحرية التي تقول «بدون اعتراض لتوفره على جميع شروط السلامة».
وما على الجنرال بن زيان، الذي لا تتحرك نملة داخل الثكنات التابعة له في كل تراب المملكة دون أن يصله تقرير مفصل عنها، سوى أن يسأل صهره القبطان لمرابط قائد وحدة أنفا بالدار البيضاء لكي يطلعه على التفاصيل المملة لما يقع في الدار البيضاء ومناطقها الصناعية.
والواقع أن الجنرال بنزيان مشغول بجمعه بين مسؤولياته الإدارية على رأس الوقاية المدنية ومسؤوليته على رأس جمعية الأعمال الاجتماعية لرجال الإطفاء، حيث يدبر أمور الميزانيتين بلا حسيب ولا رقيب. ولذلك فليس لديه الوقت لكي يقرأ كل الشكايات التي تصله حول بعض قياده الجهويين. ما حيلتو يحفر على الموتى ديال سنوات الرصاص، ما حيلتو يطفي العوافي ويجبد الموتى ديال العهد الجديد. يحسن عوانو مسكين...

0 التعليقات:

إرسال تعليق