الاثنين، 9 نوفمبر 2009

جيل فشي شكل

جيل فشي شكل
رشيد نيني

هناك اليوم في المغرب أزمة هوية عميقة لدى فئة عريضة من المراهقين. وكل عائلة مغربية فيها اليوم مراهق أو مراهقة يجد أولياء أمورهم صعوبة كبيرة في فهمهم ومسايرة متطلباتهم، وأحيانا حماقاتهم.
وفي ظرف أسبوع قرأت خبرين يتعلقان بنوعين من المراهقين. خبر بخصوص الحكم على مجموعة من القاصرين في ملف خلية الرايضي، وخبر يتعلق باعتقال تلميذة قاصرة بعد تصويرها لشريط خليع في دار بوعزة بالدار البيضاء. وقلت مع نفسي أن هناك لا محالة خللا ما في المجتمع لكي تدخل جرائم الإرهاب والدعارة عالم القاصرين في هذا الوقت المبكر من العمر.
قبل يومين اعترض سبيل ابن أحد الأصدقاء المراهق في حي حسان بالرباط بجانب مدرسة لالة عائشة مراهقان يكبرانه قليلا، وأجبراه على نزع حذائه الرياضي وسرواله البلودجين وساعته اليدوية وجهاز الإمبيطروا الذي يعلقه في عنقه، وطبعا هاتفه النقال. وأرسلاه إلى بيته حافيا شبه عاري، على شفا أزمة نفسية.
لقد أصبحت الموضة اليوم بين المراهقين هي أن يقضي بعضهم وقته الثالث في اعتراض طريق التلميذات والتلاميذ وانتزاع ملابسهم وممتلكاتهم تحت التهديد بالسكاكين.
الآباء أصبحوا لا يفهمون أبناءهم وبناتهم، الأساتذة أصبحوا عاجزين عن مجاراة السرعة التي يسير بها إيقاع حياتهم. وبسبب الثورة المعلوماتية صار مراهقو اليوم يعيشون داخل دهاليز اليوتوب أكثر مما يعيشون في بيوتهم. فهم منفتحون على آخر الصيحات في اللباس والرقص والموسيقى، ووجها لوجه أمام وعاظ وأئمة وأنصاف علماء يصدرون الفتاوى أكثر مما يتنفسون الهواء.
آباء وأمهات اليوم يعتقدون أن جيل اليوم يختلف كثيرا عن جيل الأمس. في الوقت الذي يستمع فيه أبناؤهم لموسيقى إلكترونية صاخبة ويرقصون رقصة «التيكتونيك»، يتذكرون هم «بوب ديلان» و«بوب مارلي» وأغانيه الحزينة حول الأم وجراحات إفريقيا.
في مخيلتي الصغيرة وأنا بعد طفل في العاشرة، ارتبطت صورة بوب بملصق بالحجم الطبيعي لهذا المغني النحيل علقه بائع الزريعة القادم من واحات الراشيدية في باب دكانه الصغير. كان بوب يمتص لفافته ويغرق وسط سحابة بيضاء من الدخان، أما عيناه فكانتا نصف مغلقتين في شبه انخطافة ساحرة.
وكان يحلو لي أن أجلس داخل دكان مول الزريعة وأتأمل صورة هذا المغني الزنجي وأسمع صوته المنبعث من آلة التسجيل المتهالكة التي كان يحشوها لحسن، الذي كان الجميع يناديه لحس، بأشرطة بوب مارلي الملطخة ببقع المرق والزيت.
ولم يكن لحس، ولا أنا معه، نفهم ما يغنيه بوب آنذاك، لكنني كنت أدندن معه «نووو وامان نوكراي»، بينما لحس كان يبرم جوانه الصباحي ويحرك رأسه منتشيا كأنما تذكره إيقاعات الأغنية برقصة أحواش في أعالي الجنوب.
عندما سأبدأ في قضاء عطلتي الصيفية في أكادير سأكتشف أكثر أغاني بوب. أتذكر تلك الليالي شديدة الحرارة التي كنا نقضيها بصحبة أبناء الجيران المراهقين آنذاك على شاطئ أكادير. كانوا يدخنون فوق رمال الشاطئ ويعزفون على القيثار أغنيات بوب مارلي ودولي بارثن وبوب ديلن وكات ستيفن، محاطين بسائحات جميلات قادمات من صقيع الغرب ليدفئن عظامهن فوق رمال شواطئ أكادير.
وأنا بعد طفل، كنت أنظر إليهم يقبلون على التهام الحياة بنهم كما لو كانت قطعة كعك لذيذة. يغنون ويرقصون ويلبسون سراويل البلودجين الممزقة من الركب والمؤخرات، ويخرجون بصحبة شقراوات فاتنات كنا نحن الأطفال نشاهدهن فقط في سلسلة لا بوتيت ميزون. وكم تمنيت أن أجد ذات يوم «ماكنة الزمن» التي كنت أقرأ عنها في سلسلة المزمار، التي كانت تأتي من العراق أيام كان يأتي من العراق العلم والأدب وليس الآن حيث أصبح لا يأتي سوى الخراب، لكي أدخل إليها وأقطع بعمري سنوات إلى الأمام حتى أصبح مثل هؤلاء المراهقين، أحلق شاربي وأترك «لي بات» في جانبي ناظري وأبيت خارج البيت مستلقيا فوق رمال الشاطئ المضاء بأعمدة النور الساطعة، ولا أحد ينتظر عودتي أمام باب البيت بسوط جلدي في يده.
في كل جلسات أصدقاء الحي المراهقين كانت أغاني بوب حاضرة. كانوا يغنونها بدون أخطاء في النطق، وكنت أرى فيهم أبطالا لمجرد أنهم كانوا يستطيعون التحدث مع السائحات بكل اللغات. فيما بعد فهمت أنه في أكادير حتى بائعو الفضة القادمون لتوهم من تارودانت يستطيعون التحدث مع زبائنهم بكل لغات العالم، وأحيانا يجيدون النطق بكل لغات العالم عدا العربية.
في تلك السبعينات الجميلة كانت الموضة هي أن يربي الشاب شعكوكة كبيرة فوق رأسه تشبه عش اللقالق، وأن يلبس سروال البالما وقميصا لاصقا بمربعات وخطوط وكول طويل كنا نسميه ساخرين «كول ومسح»، لأنه كان بالإضافة إلى اللباس يصلح أيضا لمسح الفم بعد الأكل.
ولكم كنا مفتونين بكوب طاليان التي شاعت آنذاك بين الشباب، وكان مثلنا الأعلى في تلك التسريحة هم الكبار الذين كان شعرهم المجعد يرجع إلى الخلف بسهولة، عكس شعرنا الذي كانت أمهاتنا تمشطنه إلى الأمام قبل الخروج إلى المدرسة. فكانت نصيحة الكبار لنا هي أن نمشط شعرنا إلى الخلف في الليل وندهنه بالمرهم ونضع قبعة فوقه ثم النوم بها إلى الصباح. ولكم أن تتصوروا محنة طفل ينام في عز غشت في أربعين درجة من الحرارة ليلا بقبعة صوفية، فقط لكي يصفف شعره على طريقة كوب طاليان.
أما نصيحة الكبار لنا نحن أطفال السبعينات لكي ينمو لنا الزغب في ذقوننا وآباطنا، فكانت بسيطة جدا، وقد جربها أغلب الأطفال تقريبا، وهي اقتناص الفراشات واقتلاع أجنحتها ثم حكها في الأماكن التي نحلم أن ينمو لنا فوقها الزغب. وبسبب رغبتنا المبكرة في أن نكبر قبل الأوان أوشكت أن تنقرض الفراشات من الوجود.
كانت تلك السنوات أول عهدي بالسينما، وأذكر أن أول فيلم سأشاهده في حياتي هو «كوكب القردة» في سينما ريالطو، خرجت من القاعة مرعوبا بسبب قصة الفيلم التي حول كاتبها بني آدم إلى أسرى لدى جيش من القردة. عندما كبرت سأفهم أن خوفي الطفولي لم يكن في محله، فقد رأيت قردة حقيقيين يلبسون ربطات عنق ملونة يسيرون البشر ويتحكمون في مصائرهم، والناس يصفقون للمنظر فرحين.
الآن عندما أمر بجانب مقهى باليما أو مقر لافول بالمعاريف وأرى جماعة من الراسطا بقيثاراتهم ولباسهم الذي يقترب من لباس هداوا أتذكر تلك السنوات، وأقول إن ورثة بوب مارلي لا يزالون بيننا يتقاسمون تركته. تركته المكونة أساسا من الكلمات والإيقاعات الزنجية المليئة بالحكم والمعاناة والأمل والغضب.
انتصر بوب مارلي لأرض منسية اسمها أثيوبيا، كنا نحن نسخر من مواطنيها بنعت كل من يأكل بشراهة بالإنتماء إليها.
فقد اعتبر بوب أثيوبيا هي الأرض الموعودة لزنوج أمريكا ذوي الشعور المكورة مثل حبوب البن. ولذلك يخرج كل سنة مواطنو هذا البلد الإفريقي المنهك لكي يردوا التحية على بوب، تلك التحية التي ألقاها على القارة الإفريقية قبل واحد وعشرين سنة واختفى وراء دخان لفافته الأبيض وأغمض عينيه إلى الأبد بعد أن رفض الخضوع لعملية جراحية لاستئصال السرطان. قال لهم إن الراسطا لا يخضع لمشارط الأطباء.

0 التعليقات:

إرسال تعليق