الأحد، 15 نوفمبر 2009

شاري الظلام

شاري الظلام

هناك تجارة سرية تزدهر تحت جنح الظلام في عدد من المدن المغربية التي لازالت فيها قاعات سينمائية تقاوم الانقراض. وخلال العشر الأواخر من رمضان الذي ودعناه انكشفت تجارة الظلام هذه من قلب سينما الريف بشارع الجيش الملكي بوسط الدار البيضاء، عندما اعتقلت الشرطة متفرجين ومتفرجات من نوع خاص كانوا «يستمتعون» بفيلم آخر غير الفيلم الهندي الذي كانت تعرضه السينما ذاك الأسبوع.
وإلى جانب المتفرجين اعتقلت الشرطة زوجة أحد القياد في «الحملة»، فهي المسؤولة عن القاعة وكل ما كان يحدث داخلها كان يحدث بعلمها.
لقاءات العرض الأول الخاصة بالصحافيين مناسبة جيدة للإطلاع على آراء الموزعين وأرباب القاعات السينمائية. فبعد التهام كل ما يوضع على مائدة الأكل من لوز مقلي و«بيسطاش» وشطائر «البيتزا» و«العصائر» من كل نوع، و«كانيطات» الجعة، يحلو الحديث عن المشاكل، وبالضبط مشاكل توزيع الأفلام في صالات العرض.
أغلب أرباب القاعات السينمائية خائفون من شبح الإغلاق. وفي الوقت الذي يتحدث فيه بعض «الطبالة والغياطة» عن الفتح المبين الذي حققه مدير المركز السينمائي المغربي للسينما المغربية، نكتشف أن عدد القاعات السينمائية التي تبقت للمغرب منذ الاستقلال إلى اليوم لا يتعدى خمسين قاعة. بعدما كان هذا العدد سنة 1970 يتجاوز 240 قاعة. وبالمقابل أصبح للمغرب عدد لا يحصى من المهرجانات السينمائية التي «تلتهم» كلها ميزانيات كبيرة من المركز و«المحتضنين»، آخرها مهرجان «حد كورت السينمائي». ولكم أن تتخيلوا كيف لمدينة صغيرة مهمشة لا تتوفر حتى على مكتبة بلدية أن يكون لها مهرجان سينمائي. وحتى مدينة وارزازات المشهورة عالميا بالسينما لا تتوفر على قاعة سينمائية واحدة، بعد إغلاق القاعتين الوحيدتين بالمدينة لأبوابهما بسبب الكساد. وهكذا عوض أن يشجع المركز السينمائي القاعات السينمائية على البقاء في الأحياء الشعبية، فضل مساندة سياسة المهرجانات السينمائية، فأصبح لكل مدينة تقريبا مهرجانها السينمائي الخاص. وهذا الإسهال المهرجاني لا يوجد مثيل له حتى في البلدان التي اخترعت السينما.
والواقع أن المغرب ليس بحاجة إلى مهرجانات للسينما بكل هذه الوفرة وإنما إلى مهرجانات للقراءة في سائر مدن المملكة تشجع الناس على فتح الكتب وتنقل إليهم عدوى المطالعة. هذا هو المهرجان الحقيقي الذي نحتاجه.
لكن المشاهد المغربي ليس غبيا كما يتصوره المخرجون عندنا، فهناك نسبة كبيرة منهم يشترون تذاكر الدخول إلى السينما ليس حبا في الأفلام ولكن فقط بحثا عن ركن مظلم وآمن يستطيعون فيه ممارسة بعض اللقطات المحظورة في الأماكن العمومية. وهؤلاء المتفرجون يعرفهم بائع التذاكر و«مولاة البيل» وأرباب القاعات وصالات العرض. ويعرفون أنهم غير معنيين بأحداث الفيلم الذي أمامهم لأنهم هم بدورهم ينجزون فيلما خاصا بهم تحت جنح الظلام.
وقد أصبح الذهاب إلى السينما في السنوات الأخيرة مرتبطا بتجارة شراء الظلام، وما إن يقول الشاب لصديقته أنه يرغب بدعوتها لمشاهدة فيلم في السينما حتى تفهم أن صديقها يريد أن يشتري من أجلها حصة ساعتين من الظلام يقضيانها في «التهباز» في بعضهما البعض، فلا هما يشاهدان الفيلم ولا هما يتركان عباد الله يشاهدانه.
وكلما كان الفيلم مغربيا كانت الخسارة أخف، لأنه في آخر المطاف لا أحد من المتفرجين سيفوته شيء مهم بعدم متابعته للفيلم، لا الذين «يُهَبِّزُونَ» في بعضهم البعض ولا الذين يسترقون السمع والنظر إليهم كلما انفجر لغم في الشاشة وأضاءت الشظايا أرجاء القاعة، فينكشف أمر العشاق الغارقين «في جحيم من القبل»، على رأي عبد الوهاب.
لكن الجحيم الحقيقي هو ذلك الذي يجد المتفرج نفسه وسطه عندما يقوده حظه العاثر إلى الجلوس بجانب أحد هؤلاء «الجويجات» الذين يأتون إلى السينما لشراء الظلام واستثماره حتى آخر قبلة.
وقد حدث ذلك مع هذا العبد المذنب في إحدى الليالي الماطرة بالرباط عندما دخلت إحدى القاعات العريقة بوسط العاصمة لمشاهدة فيلم «الغدارة».
وقد كانت القاعة باردة وشبه فارغة، وبسهولة شديدة ينتابك فجأة شعور بالخوف من أن يدخل أحدهم ويخنقك بفوطة من الخلف، فلا تكف عن متابعة «الغدارة» وبين فينة وأخرى تستدير بحثا عن «الغدار» الذي تتصور أنه سيخنقك من الخلف.
لكن المشكلة الحقيقية ليست في «الغدار» أو «الغدارة» ولكن في «المسخوطين» اللذين يشوشان إلى جانبك واللذين لا تنفع معهما العبارات المهذبة التي تهيب بهما أن يخفضا من آهاتهما قليلا ما يكفي لمتابعة الحوار السينمائي في الفيلم.
لكن اللعينين كانا مصممين على الاستفادة من الظلام الدامس الذي يغلف القاعة وأن لا يتركا من ثمن التذكرتين ريالا واحدا دون استغلاله.
وفي الوقت الذي كانت فيه الأحداث تتشابك في الفيلم كان جاراي يزدادان أيضا تشابكا مع بعضهما البعض، إلى الحد الذي جعلني أنسى «الغدارة» وألتفت لمشاهدة لقطات من فيلم مباشر نسي أبطاله أن يضعوا علامة «18 سنة» عليه.
ومع مرور الوقت اكتشفت أن الفيلم الذي تجري أحداثه بجانبي ليس الفيلم الوحيد في القاعة وإنما واحد فقط ضمن سلسلة أفلام تحدث في أماكن متفرقة من القاعة، حتى خيل إلي أنني ربما المغفل الوحيد الذي أتى بحسن نية إلى السينما لمشاهدة فيلم «الغدارة».
وقد تطورت الأمور فوق المقاعد الخلفية في البلكون حيث كنت أجلس إلى درجة أنني صرت أسمع صرير المقاعد الخشبية أكثر مما أسمع الحوار في الفيلم، وأدركت أن العشاق وصلوا إلى مرحلة لم يعد يهمهم فيها حضوري ولا نظراتي المتلصصة ولا حتى أن تشتعل الأضواء وينكشف أمرهم.
والحقيقة أنني أنا الذي لم أنتظر نهاية الفيلم واشتعال الأضواء مخافة أن ينكشف أمري، وفكرت أن منظري وأنا أغادر القاعة وحيدا بينما الآخرون يغادرون متأبطين أذرع صديقاتهم، سيكون بلا شك منظرا يليق بنهاية تعيسة في فيلم مغربي، فتسللت على أطراف أصابعي حتى لا أزعج العشاق وأعكر عليهم لحظات الصفاء التي يختلسونها تحت جنح الظلام.
منذ ذلك الوقت لم أعد إلى التفكير في الذهاب إلى قاعة للسينما لمشاهدة الأفلام، وأظن أن هناك كثيرين مثلي وقع معهم ما وقع معي. ومع ذلك لا يفهم أرباب القاعات السينمائية لماذا يجدون أنفسهم مضطرين لإغلاق قاعاتهم بسبب غياب الجمهور. ويبقى قرار الإغلاق قرارا حكيما وشجاعا، فهذا أحسن في كل الأحوال من أن يتحولوا من أرباب قاعات سينمائية إلى أرباب مواخير.

0 التعليقات:

إرسال تعليق