الجمعة، 13 نوفمبر 2009

تمثيليات برلمانية

تمثيليات برلمانية

سيغلق البرلمان أبوابه بعد أيام دون أن تكون التوقيعات التي جمعها عشرات البرلمانيين المنتمين إلى العدالة والتنمية وجبهة القوى الديمقراطية وعناصر من فرق برلمانية متعددة لم تحسم قيادتها بعد في الموضوع، قد تمكنت من استكمال النصاب القانوني الذي يسمح بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق في ملف تفويت أراضي الدولة لمجموعة الضحى.
الوزير الأول عباس الفاسي الذي صام عن الكلام في الموضوع فك الله عقدة لسانه واعتبر في أول تصريح له بخصوص هذا الملف أمام فريقه البرلماني أن وراء الاتهامات الموجهة للضحى حربا خفية على الحكومة، وإلا ما الفائدة من إثارة مشكلة تعود إلى ثلاث سنوات. ومن كثرة ما فكت عقدة لسان عباس بدأ يطلق الكلام على عواهنه حتى قلنا يا ليته سكت. فحسب عباس لا ضرورة لإنشاء لجنة لتقصي الحقائق في الاتهامات الموجهة للضحى بتضييع حوالي ألف مليار على خزينة الدولة. والأحسن في نظره سيكون هو صياغة قانون يمنع وقوع مثل هذه الأشياء في المستقبل. يعني أن عباس يقر بوجود مشكلة، وإلا ما الداعي إلى إخراج قانون أصلا. لكن عباس، مثله مثل عمدته شباط، يعمل بقاعدة عفا الله عما سلف. وشباط عندما سألوه عن التجاوزات المالية التي سجلها عليه تقرير قضاة المجلس الجهوي للحسابات استنجد بالآية الكريمة التي تقول «ومن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه». يعني أن الضرورة تبيح المحظورات، حتى ولو تعلق الأمر بتبديد المال العام. وها هو شباط يستعد للاحتفال بعيد العرش بأربعين مليار سنتيم، في الوقت الذي تعاني فيه ساكنة الضواحي بفاس من العطش ولا يجدون حتى ماء الشرب.
والواقع أن ملف الضحى الذي كانت «المساء» سباقة إلى فتحه، وبعدها فتحته أغلب المنابر الصحافية، كل حسب استطاعته، يمكن أن يكون مثالا نموذجيا لتغليب المصلحة الذاتية والحزبية على المصلحة العامة.
وعندما يقول عباس الفاسي أن فكرة لجنة تقصي الحقائق حول هذا الملف هي في الأصل هجوم على الحكومة بغاية إضعافها، فلأنه يعرف أن وزير الإسكان، الاستقلالي توفيق حجيرة، سيكون في حالة تشكيل اللجنة أول من سيقف أمامها. فبدون موافقته، كمسؤول على مؤسسة العمران، لم تكن الضحى لتحصل على كل تلك الهكتارات التي حصلت عليها بأسعار بخسة، وبدون أية مناقصة.
وبعده سيكون على شباط عمدة فاس الاستقلالي أن يقف بدوره أمام اللجنة البرلمانية لكي يشرح لهم لماذا فوت لمجموعة الضحى دون غيرها ثلاث قطع أرضية في فاس، الأولى بمنطقة زواغة مولاي يعقوب، والثانية هي ملعب الفروسية الذي تصل مساحته إلى خمسين هكتارا، وهو موقع راقي بالمدينة ويمكن بسهولة أن يصل فيه سعر المتر المربع إلى 20.000 درهم. أما الثالثة فهي بقعة أرضية في قلب المدينة الجديدة في شارع الحسن الثاني قبالة فندق صوفيا مساحتها 4000 متر مربع، فوتها المجلس البلدي بألف درهم للمتر فيما ثمنها الحقيقي يمكن أن يصل إلى 30.000 درهم للمتر مربع.
وهذا طبعا ما يفسر شرب شباط لحليب السباع واتهامه للمجلس الجهوي للقضاة بفاس بكونه مخترقا من طرف عناصر إرهابية، وعجز الميداوي رئيس المجلس الأعلى للقضاء عن السماح لقضاته بمتابعة شباط قضائيا بسبب هذه الإهانة. فشباط لا يعمل فقط بمنطوق الآية الكريمة التي تقول «ومن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه»، وإنما أيضا بمنطوق المثل المغربي الذي يقول «ضرب بنادم لكرشو ينسى اللي خلقو».
وليس عباس الفاسي وحده من يرى في لجنة تقصي الحقائق حول الضحى تهديدا لمصالحه الحزبية، فحتى الفريق الاتحادي في البرلمان لديه تحفظات على فكرة اللجنة. فوزيرهم السابق في المالية، الرفيق فتح الله والعلو، والمرشح القوي لقيادة سفينة الحزب في المؤتمر المقبل، استغل فترة الفراغ السياسي الذي سبق تنحيه عن الوزارة بعد هزيمة حزبه في الانتخابات، وفوت للضحى 130 هكتارا في الوقت الضائع بثمن رمزي لا يزيد عن 564 درهما للمتر المربع في مراكش حيث ثمن العقار لا يختلف كثيرا عن ثمنه في أوربا.
ولهذا السبب يوجد الفريق البرلماني الاتحادي في وضع محرج. من جهة هناك المصلحة العامة والأموال العمومية التي يجب الدفاع عنها ومراقبة طرق صرفها، ومن جهة ثانية هناك المصلحة الحزبية في وقت يوجد فيه الحزب في وضع كومة سياسية عميقة، قد يكون مثول أحد أعضاء مكتبها السياسي وأحد «أثقل» فيلتها أمام لجنة لتقصي الحقائق رصاصة الرحمة التي ستجهز على الحزب المريض.
وإذا كان فتح الله والعلو قد قرر أن يبلع لسانه أمام هذه الاتهامات وأن يصنع كما لو أن الأمر لا يعنيه مطلقا، فإن مزوار وزير المالية يعتقد أن أحسن طريقة للدفاع هي الهجوم. وفي الوقت الذي اكتفى وزيره الأول عباس الفاسي بحصر قضية الضحى في مجرد صراع مصالح بين مجموعة الشعبي وأنس الصفريوي حول الصدارة، ذهب مزوار بعيدا واعتبر متهمي الضحى باستعمال أساليب المافيا. وربما نسي مزوار أن هؤلاء الذين ينعتهم باستعمال أساليب المافيا هم نفسهم الذين كان يشتغل معهم «كوطابلي» في تونس في شركة «مواسير» التابعة لمجموعة الشعبي براتب شهري لم يكن يتعدى سبعة آلاف درهم. وعندما أصبح مزوار وزيرا يتقاضى سعادته سبعين ألف درهم في الشهر، نسي الشركة التي شغلته عندما جاء من باريس يبحث عن عمل، وأصبح أصحابها بقدرة قادر يستعملون أساليب المافيا ضد مجموعة الضحى.
لماذا أصر مزوار على إدخال «شريحتو فالشريط»، لأنه يدافع عن تفويت الدولة لأراضيها للضحى، فهذا بنظره يخلق الاستثمار ويحيى الأرض الميتة ويجلب فرص الشغل. لكنه لسبب ما لا يدافع عن التنافسية، وذلك بفتح المجال أمام كل المجموعات العقارية لكي تستفيد من كرم الدولة الحاتمي. وهكذا سيكون الرابح الأول والأخير في الحكاية هو خزينة الدولة، وليس الضحى التي أصبحت في ظرف سنتين واحدة من أقوى المجموعات العقارية التي تمثل عشرة بالمائة من رسملة بورصة الدار البيضاء. وهو المستوى الذي لم تستطع الوصول إليه مجموعات عقارية تبني في المغرب منذ خمسين سنة.
وليست فرق الاتحاد الاشتراكي والأحرار والاستقلال وفريق الأصالة والمعاصرة وحدهم من ينظر بعين الخوف من لجنة التقصي، وإنما أيضا الحركة الشعبية. وعندما نعرف أن الحركة كان لديها وزير اسمه العنصر كان يحمل حقيبة الفلاحة والصيد البحري عندما تم تفويت حديقة الحيوان بتمارة للضحى، نفهم كل شيء. فمديرية المياه والغابات التي فوتت الحديقة للضحى تابعة إداريا لوزارة الفلاحة، والعنصر يتحمل المسؤولية السياسية في هذا التفويت. ولذلك فمثوله أمام لجنة التقصي للإجابة عن خلفيات هذا التفويت قد تعرض الحركة الشعبية للمرور بمنطقة زوابع هي في غنى عنها، خصوصا بعدما خرجت «كبوط» من تشكيل حكومة عباس.
وبالإضافة إلى المصالح الحزبية التي يفضلها رؤساء الفرق البرلمانية على المصلحة العامة للبلاد، هناك الحرص على المصالح الأسرية والعائلية. فحصاد الذي كان واليا على مراكش عندما استفادت الضحى من أراضي الدولة ليس سوى صهر وزير الداخلية، فزوجة حصاد والي طنجة حاليا هي شقيقة بنموسى. ووالي مراكش الحالي منير الشرايبي ليس سوى زوج بنت أخ عباس الفاسي. والفيلالي عامل أكادير الذي نالت الضحى أراضي الدولة بأكادير تحت أنظاره ينتمي عائليا إلى الأسرة الاستقلالية.
ورغم كل هذا يستغربون لماذا لم يذهب المغاربة للتصويت على ممثليهم في البرلمان خلال الانتخابات الماضية. ربما لأن المغاربة فهموا أن ممثليهم لا يمثلونهم في البرلمان وإنما ببساطة يمثلون عليهم.

0 التعليقات:

إرسال تعليق