الأربعاء، 18 نوفمبر 2009

بُتْ نْبَتْ

بُتْ نْبَتْ

إذا كان هناك من حزب لم يفهم جيدا الشعار الذي رفعه باراك أوباما طيلة حملته الانتخابية والذي لخصه في جملة بسيطة تقول «نعم إننا نستطيع التغيير»، فهو حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
وفي الوقت الذي كان يحتفل فيه ملايين الأمريكيين بدخول رئيس شاب وأسود إلى البيت الأبيض، كان بضع مئات من الاتحاديين يحتفلون بوضع الشيخ عبد الواحد الراضي فوق كرسي الأمانة العامة للحزب.
وإذا كان الأمريكيون قد اختاروا التغيير بالتصويت على رئيس شاب رافعين شعار «نعم، بوسعنا ذلك»، فإن الاتحاديين صوتوا على رجل سبعيني رافعين شعارا مغربيا أصيلا يقول «بت نبت».
ولعله من المصادفات الماكرة أن يكون عمر باراك أوباما يمثل تقريبا عمر عبد الواحد الراضي، لكن في البرلمان فقط. فمنذ افتتاح البرلمان المغربي سنة 1963 وعبد الواحد الراضي يحتل فيه مقعده بانتظام، إلى درجة أنه أصبح يستحق لقب أقدم برلماني في العالم. فطيلة خمس وأربعين سنة وعبد الواحد الراضي مرابط في البرلمان، وإذا غادره، كما وقع في حالات الاستثناء التي أغلق فيها الحسن الثاني أبواب البرلمان و«سرح» ممثلي الرعية، فلكي يعود إليه بمجرد ما كان القصر يقرر فتحه من جديد.
إذن هذا حزب له تاريخ عريق يختار للخروج من أزمته السياسية العميقة وضع دفة الحزب بين يدي رجل في نهاية مشواره السياسي. وليس الاتحاد الاشتراكي وحده من صوت لصالح شعار «بت نبت»، وإنما حزب الاستقلال الذي يقود الحكومة الحالية، يسير في نفس الاتجاه. وإذا كان الاتحاد الاشتراكي قد اختار البقاء في الماضي والتشبث بعدم التغيير، عن طريق التصويت، فإن حزب الاستقلال يسير في اتجاه التمديد لولاية ثالثة للشيخ عباس الفاسي، ضدا على القوانين الداخلية للحزب نفسه.
إذن هذان أعرق تاريخيين في المغرب يختاران معا الاستمرارية والإبقاء على نفس الوجوه القديمة التي تذكرنا بسنوات الرصاص والجمر وحالات الاستثناء وكل الكوارث السياسية التي عاشها المغرب أيام الحسن الثاني ووزيره إدريس البصري وجنرالاته الدمويين. هذا في الوقت الذي يتغير فيه دول العالم من حولنا وتنخرط قواها السياسية في سباق ضد الساعة لتشبيب أجهزتها من أجل ضمان البقاء للأصلح.
عندنا نحن البقاء ليس للأصلح، البقاء للأقدم. وقد أصبح واضحا اليوم في المغرب أننا نعيش صراع أجيال حقيقي بين نخب شاخت وانتهت مدة صلاحيتها ومع ذلك ترفض أن تخضع لمنطق التقاعد، وبين نخبة شابة مقبلة بحماس على الحياة والعمل، لكنها مجبرة على الانكماش والانتظار خلف الستار، لأن الشيوخ الذين عادوا إلى صباهم مصرون على البقاء فوق الخشبة للعب دور البطولة، مع أن دورهم انتهى في المسرحية.
إن هؤلاء الشيوخ الذين عادوا إلى صباهم «يلعبون» خارج النص، ولذلك لا أحد أصبح يفهم هذه المسرحية المغربية التي بدأت كوميدية وانتهت مسرحية من مسرحيات العبث التي حتى «بريشت» نفسه لو شاهدها لخرج وعلامات عدم الفهم بادية على محياه.
عندما نراجع أسماء الجنرالات وكبار المسؤولين الأمنيين وكبار القضاة ورؤساء مصالح الإدارات العمومية نلاحظ أنهم جميعهم تجاوزوا الستين ويليق بهم أن يذهبوا إلى التقاعد لكي يفسحوا المجال للجيل الجديد. لكن الذي يحدث عندنا هو العكس. فالمغرب هو البلد الوحيد الذي يتم فيه المناداة على شيخ في الخامسة والسبعين كحفيظ بنهاشم لكي يتسلم إدارة مديرية السجون، فقط لأنه اشتغل مع إدريس البصري ويعرف كيف يدير السجون بعقلية الشرطي القديم الذي يسكنه، عندما كان يصفر لتنظيم المرور في شارع محمد الخامس سنوات السبعينات. والمغرب هو البلد الوحيد الذي يتم فيه التمديد للوكيل العام للملك في مراكش مرتين رغم وصوله سن التقاعد، فقط لأن والده هو أحد الموقعين على عريضة المطالبة بالاستقلال.
والمغرب هو البلد الوحيد الذي يتجاوز فيه جنرال كحسني بنسليمان سن السبعين ومع ذلك يمسك بالدرك الملكي وحقيبة الجامعة الملكية لكرة القدم واللجنة الأولمبية ورئاسة فريق الجيش الملكي.
وحتى المسؤولون الجدد الذين تم تعيينهم خلال العهد الجديد، أصبحوا يستعدون للخلود في مناصبهم إلى أبد الآبدين. ومنهم واحد على رأس القطب الإعلامي العمومي اسمه فيصل العرايشي أمضى إلى اليوم عشر سنوات كاملة في منصبه، نجح خلالها في قص أظافر القناة الثانية وتفريخ سبع قنوات لا يكاد يراها أحد. منها قنوات كقناة «المغربية» لا يشتغل فيها أكثر من مديرها وسائق السيارة التي تجلب الأشرطة من القناة الثانية والأولى إلى غرفة البث الفضائي للمغربية، وقناة أخرى اسمها «الرابعة» لا تراها حتى مديرتها.
ومن هؤلاء المسؤولين الجدد الذين يستعدون للخلود في مناصبهم نجد نور الدين الصايل مدير المركز السينمائي المغربي الذي وصل إلى سن التقاعد قبل أشهر، وتم تثبيته مؤخرا في منصبه بظهير.
وحتى الذين يتم إنزالهم من فوق «عروشهم» الصغيرة وتتم إقالتهم يطالبون بتعويضات بالملايير. كمصطفى بنعلي المدير السابق للقناة الثانية الذي يطالب بمليارين كتعويض عن الطرد التعسفي. فالإعفاء من المسؤولية في نظر هؤلاء يعتبر طردا تعسفيا، وليس قرارا لإنهاء العمل. وهم محقون في ذلك، خصوصا عندما يرون كل هؤلاء الخالدين في مناصبهم والذين لا يغادرونها إلا محمولين على محفات الموتى إلى مقبرة الشهداء. ولولا الخوف من الفضيحة لكانوا أوصوا بدفن ظهائر تعيينهم وكراسيهم إلى جانبهم حتى يأخذوا معهم مناصبهم إلى الآخرة، ويحرموا القادمين بعدهم من تسلمها.
إن الاستمرارية والمقاومة الشرسة لرياح التغيير ليست مقتصرة فقط على الطبقة السياسية، وإنما هي ثقافة مغربية أصيلة. وكل الشعوب التي استطاعت أن تحقق الانتقال الديمقراطي، فهمت أن الحتمية التاريخية تقتضي عندما ننادي بالانتقال الديمقراطي أن نمارسه بوجوه جديدة لا تحمل خدوش الماضي. أما أن نتحدث عن الانتقال الديمقراطي وعندما نستدير حولنا لا نرى سوى الوجوه التي صنعت هذا الماضي بمآسيه ودموعه وجمره ورصاصه، فهذا ليس انتقالا ديمقراطيا وإنما انتقاما ديمقراطيا.
لذلك فالانتخابات الأمريكية الأخيرة لم تكن فقط درسا للأمريكيين الذين راهنوا على الاستمرارية مع بوش وإدارته الكارثية، وإنما هي درس لكل الطامحين للتغيير عبر العالم. ولعل أحسن من عبر عن هذا الشعور هو المناضل الكبير «نيلسون مانديلا» الذي خاطب أوباما قائلا «انتصارك برهن بأنه لا يجب أن يشعر أي أحد بالخوف من تغيير العالم».
والتغيير يبدأ أولا بتغيير الأفكار. أي عندما يفهم الناس أنهم سواسية أمام القانون ويناضلون من أجل الوصول إلى هذه المساواة. فالسود في أمريكا لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من مساواة مع البيض في ليلة وضحاها. بل قدموا لسنوات طويلة قرابين كثيرة لهذا المارد الأبيض قبل أن يهدأ روعه ويكون بمستطاعهم الجلوس معه على طاولة واحدة. بعد ذلك جاءت «روزا بارك» التي تجرأت وجلست في المكان المخصص للبيض في الحافلة العمومية، وجاء «مارثن لوثر كينغ» وأعطى حياته ثمنا للحلم الذي رأى فيه نفسه يوما واحدا قبل قتله يصعد الهضبة ويرى من فوقها الأرض الموعودة، أرض الحرية والمساواة.
إن الذين ابتهجوا في المغرب وأحسوا بالفخر لوصول رجل أسود كباراك أوباما إلى البيت الأبيض مع أن السود في أمريكا لا يمثلون سوى عشرة بالمائة من مجموع السكان، عليهم أن يسألوا أنفسهم لماذا لم يستطع أي حزب في المغرب أن يقدم لرئاسة الحكومة أو رئاسة البرلمان منذ الاستقلال وإلى اليوم رجلا أسود اللون مثل «أوباما».
ونحن نعرف جميعا أنه ليس السود ما ينقص في المغرب. لكنهم غائبون عن شاشات القنوات العمومية وغائبون عن زعامة الأحزاب السياسية وغائبون عن الحكومة.
وفي اليوم الذي سنرى فيه صحافيا مغربيا أسود اللون أو صحافية سوداء يقدمان نشرة الأخبار الرئيسية في التلفزيون، سنفهم أن شيئا ما في المغرب قد تغير. وأن المغاربة السود الذين ظلوا يقدمونهم إلينا أيام الحسن الثاني إما كعبيد أو صناع شاي في السهرات ومداخل الفنادق المصنفة، هم أيضا مثلنا يستحقون أن يكونوا رؤساء للحكومة ووزراء ورؤساء للبرلمان.

0 التعليقات:

إرسال تعليق