الثلاثاء، 10 نوفمبر 2009

مسيو بروشيط

مسيو بروشيط

لا أعرف كيف سيقرأ السيد أحمد حرزني رئيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان ما وقع في محرقة الدار البيضاء. وهل في نظره للصحافة المغربية يد في هذه الكارثة الإنسانية التي كشفت للعالم الوجه البشع للعبودية التي يعيشها مئات الآلاف من العمال والمستخدمين داخل معتقلات جماعية تسمى خطأ مناطق صناعية.
هل هذه هي نتيجة التقدم الكبير والخطوات الجبارة التي قطعها المغرب في طريق احترام حقوق الإنسان، كما بشر بها حرزني في جنيف. أكثر من ستين مواطنا يتم شواؤهم لساعات أمام قلة إمكانيات رجال الإطفاء. وبعدها بساعات يتعرض ثلاثة عمال شباب للموت احتراقا داخل محل لصنع الأفرشة، بعد أن حاولوا مغادرة المعمل بدون طائل.
في عالم الصحافة هناك قاعدة ذهبية تقول «صورة واحدة خير من ألف كلمة». وعندما نشاهد تلك الصورة التي نشرتها الصحافة والتي يظهر فيها إعلان للعموم مكتوب بالطباشير فوق سبورة معلقة قرب مصلحة مستودع الأموات التي تواجدت به جثث الضحايا يقول «يلزم كل عائلة شراء الكفن قبل المجيء إلى مستودع الأموات»، نفهم كل شيء. وعندما نعرف أن بعض عائلات الضحايا دفعوا ثمن الكفن والصناديق والدفن من جيوبهم، نستخلص أن التعليمات الملكية التي أوصت بالتكفل بالضحايا وعائلاتهم في واد والوقائع على الأرض في واد آخر.
وقد أظهرت هذه المأساة قدرة البعض على تطبيق المثل المغربي الذي يقول «ياكل مع الديب ويبكي مع السارح». فقد سمع الجميع القائد الجهوي للوقاية المدنية ينتقد في تصريحه للتلفزيون استعمال الشبابيك الحديدية في نوافذ المعمل وشكل البناية الذي لا يتطابق مع معايير السلامة، مع أن سعادة القائد الجهوي هو نفسه الذي وضع توقيعه على شهادة المطابقة التي منحها لصاحب المعمل.
هل هناك ضحك على الذقون أكبر من هذا. المصيبة أن «معمل الموت» حصل على رخصة «مطابقة الأشغال» قبل أسبوعين من المحرقة. إذن فكل الذين وضعوا توقيعاتهم على هذه الرخص يجب أن يخضعوا للمساءلة القانونية. بدءا من القائد الجهوي للوقاية المدنية والمفتش التابع للإدارة الترابية بوزارة الداخلية.
وقد شاءت الأقدار أن يتم دفن شهداء هذه المحرقة الغادرة والعالم المتحضر يخلد اليوم العالمي للوقاية من حوادث الشغل، والذي لم تر لا الحكومة ولا النقابات ضرورة الإشارة إليه حتى من باب «وذكر فإن الذكرى تنفع المومنين».
لن نمل من تكرارها اليوم وغدا وبعد غد. إن أصل المشاكل في المغرب هو الإفلات من العقاب. لو أن الدولة أعطت المثال الصارم في تطبيق القانون بعد انهيار عمارة المنال بالقنيطرة، ووضع مسؤولون كبار استقالتهم وتحركت العدالة لتحديد المسؤوليات ومعاقبة المستهترين بحياة المواطنين، لما تجرأ بعض أرباب العمل وبعض المسؤولين على خرق القانون وإعطاء تراخيص العمل لمنشآت تفتقر إلى شروط السلامة.
وقبل أسبوعين تسببت حافلة تابعة لشركة «مدينة بيس» في إصابة مواطنين بسيدي مومن بالدار البيضاء بعد أن أصيبت فراملها بعطب. وكل ما وقع هو متابعة سائق الحافلة، ولم نسمع أن مصلحة النقل بالولاية باشرت حملة لإخضاع حافلات هذه الشركة لفحص تقني للتأكد من جودة فراملها، خصوصا وأنها تمر من مناطق سكنية مأهولة ومدارس ومؤسسات صناعية يؤمها عشرات الآلاف من المواطنين. إلى أن وقعت الكارثة صباح أمس الثلاثاء، وداست حافلة أخرى تابعة لشركة «مدينة بيس» عشرات التلاميذ بمجرد خروجهم من باب المدرسة، بعد أن فقد السائق السيطرة على فراملها.
المسؤوليات هنا أيضا واضحة، ولا تحتاج إلى لجنة وزارية لتحديدها. هناك تساهل غريب مع بعض الشركات التي تدبر قطاعات حيوية لها علاقة مباشرة بالشأن اليومي للمواطنين. والجميع يعرف أن هذا التساهل مؤدى عنه. ومع ذلك يجب دائما أن تحدث الكارثة لكي يفهم البعض أنهم بتواطئهم مع بعض الشركات الجشعة الباحثة عن الربح السريع، فإنهم يعرضون أبناءهم وأبناء غيرهم للهلاك.
وكم كتبنا حول تلك «الحاويات» التي تتجول ضدا على القانون وسط المدن وتنقلب فوق سيارات المواطنين وتدهسهم مثل الصراصير، ولا حياة لمن تنادي بوزارة النقل.
ولعل مجزرة الحافلة المجنونة التي كلفت أكثر من خمسة قتلى بينهم تلاميذ ومواطنون، تعيد إلى الواجهة مسؤولية المصالح التي رخصت بفتح مدرسة لا يوجد بها حتى الماء الصالح للشرب تطل بابها على طريق في طور الإنجاز تمر منها الشاحنات والحافلات بدون انقطاع.
وقد تعودنا دائما في المغرب أن نبحث عن الحائط القصير لكي نقفز فوقه كلما واجهتنا كارثة كتلك التي احترق فيها ما يزيد عن ستين مواطنا. فصب البعض جام غضبه على مفتشي الشغل، واعتبروهم وحدهم المسؤولين عن عدم احترام صاحب المعمل لحقوق مستخدميه.
نعم هناك مفتشو شغل مرتشون، يقبلون بإغماض عيونهم عن تجاوزات أرباب العمل مقابل أظرفة سخية يتوصلون بها. لكن هناك أيضا مفتشو شغل نزيهون أصبحوا يخافون حتى من الاقتراب من بعض المؤسسات والشركات، خوفا من تعرضهم للاعتداء من طرف حراس الشركات الشداد الذين يحرسونها بكلابهم المدربة.
ولعل الجميع لازال يتذكر مفتش الشغل «قاشة» الذي حكمت عليه المحكمة بعشر سنوات سجنا لمجرد أنه حرر محضرا ضد مخبزة زارها في إطار عمله اليومي. قبل أن يصطف خلفه كل مفتشي الشغل في المغرب وتقرر المحكمة في الاستئناف الحكم عليه بالبراءة.
لقد كانت تلك المحاكمة إشارة إنذار لكل مفتشي الشغل بأن حسن أدائهم لوظيفتهم لا يؤمن لهم الحماية القانونية في مواجهة نفوذ بعض أصحاب المال والأعمال المستعدين لشراء محاضر نظيفة بأي ثمن.
وفي الأخير هل هي مصادفة أن تمتد النيران هذه الأيام إلى غاية المطعم الذي يتناول فيه عمدة الدار البيضاء وبعض أعضاء مجلس المدينة قطبان «بولفاف». فقد شبت النيران في مطعم «مسيو بروشيط» بوسط حي «برانس» صباح أمس الثلاثاء واحترق عن آخره، ولحسن الحظ لم يخلف الحريق ضحايا.
يبدو والله أعلم أن رائحة «الشياط» قد بدأت تنتشر هذه الأيام، وكل هذه الأدخنة التي ترتفع في سماء البلاد تدل على أن أشياء كثيرة يجب أن يعاد فيها النظر، وعلى رأسها مناصب بعض المسؤولين الذين أثبتوا بالملموس فشلهم في تدبير الشأن اليومي للمواطنين.
فليس هناك دخان بدون نار.

0 التعليقات:

إرسال تعليق