الجمعة، 13 نوفمبر 2009

عباس بن فرناس

عباس بن فرناس

إذا كان عباس بن فرناس أول إنسان طائر، فإن عباس الفاسي أول وزير طائر. ففي ظرف أسبوعين طار إلى اليابان و«عرج» منها إلى إيطاليا قبل أن «يحط» بالدار البيضاء. وما لبث أن حط حتى طار من جديد إلى ليبيا ليجلس إلى جانب القذافي ويستمع إليه يهاجم الاتحاد المتوسطي ويقول بأننا لسنا كلابا جائعة حتى نلتقط فتات ساركوزي، فنحن لدينا النفط والغاز. يقصد هو وبوتفليقة طبعا، أما عباس فكل ما اكتشفته حكومته هو تراخيص البحث والتنقيب عن النفط والغاز.
وما لبث أن عاد عباس من ليبيا حتى طار من جديد إلى سراقسطة بإسبانيا لحضور معرض الماء. ثم حط فطار من جديد إلى موناكو ليتسلم جائزته التقديرية التي منحت له جزاء لعملية «التحسين» التي قام بها للحياة اليومية للمغاربة منذ وصوله للحكومة. والمدهش في أمر هذه الجائزة هو أن الذي سلمها لعباس هو جاك بارو، الذي كان متابعا من طرف القضاء الفرنسي بتهمة «الإخلال بالسرية»، وتحويل حوالي مليوني جنيه إسترليني من أموال الدولة لحزبه. وحكم عليه بثمانية أشهر سجنا موقوفة التنفيذ، لم يعتقه منها سوى جاك شيراك بعفو. ساعات قليلة بعد عودته بجائزة «الحسانة فروس ليتامى»، طار مجددا إلى البينين، وهذه المرة ذهب في مهمة اقتصادية وهي محاولة إقناع سكان البينين باستيراد سلعة مغربية تحمل طابع «صنع في المغرب»، وهي مشروع «المبادرة الوطنية للتنمية البشرية». فالمغرب، الذي يحتفل هذه الأيام بمرور ثلاث سنوات على انطلاق هذا المشروع، أضاف إلى لائحة صادراته، ودون علم وزارة التجارة الخارجية طبعا، بضاعة «المبادرة الوطنية للتنمية البشرية».
وقد حرصت السلطات في بعض المدن على إعطاء هذه الذكرى السنوية الثالثة لانطلاق «المبادرة» الاحتفال الذي يليق بها كفكرة عبقرية. وفي آسفي وحدها خصصت الولاية مبلغ 300 مليون للتعريف بالمشاريع التي أنجزتها «المبادرة» في المدينة. ومنها إعطاء منحة قدرها 47 مليون سنتيم من أموال «المبادرة» للرابطة الفرنسية التي تدرس اللغات للراغبين في ذلك بالدفع المسبق. مع أن السفارة الفرنسية نفسها التي تنمح الرابطة مقرا تابعا لها لم تتبرع عليها سوى بثلاثة ملايين سنتيم.
ومن شدة حرص «مدبري» أموال «المبادرة» في آسفي على صرفها فيما ينفع الناس، عمموا سخاءهم على نادي كرة المضرب الذي لديه عائدات انخراط تعفيه من انتظار أية «مبادرة». هذا في الوقت الذي أوقف فيه المجلس الحضري للمدينة تزويد النافورات العمومية التي يسقي منها فقراء المدينة بالماء الشروب، بدعوى ترشيد النفقات.
هذه الأمثلة وغيرها كثير في مدن المغرب، والتي تثبت فشل «المبادرة» هو ما ذهب عباس الفاسي للبينين لكي يقنع حكومتها باستيرادها. وليس عباس وحده من أصبح يقترح تصدير أمثلة «العبقرية» المغربية على الدول الأجنبية، بل حتى وزير المالية صلاح الدين مزوار أصبح «يضرب» المثل بقدرة اقتصاد المغرب على التحكم في «عجزه». وذهب به الزهو خلال حلقة «حوار» الأخيرة إلى الافتخار بأن المغرب حقق نسبة عجز أقل من تلك التي حققتها الصين. وبذلك فالمغرب يعطي الدرس في هذا المجال للآخرين الذين لم يستطيعوا التحكم في نسبة التضخم لديهم. والواضح أن الذي يعاني من التضخم ليس فقط الاقتصاد الوطني ولكن وزير المالية نفسه أصبح لديه «حقه» من هذا التضخم. خصوصا في الأنا العليا. فسعادته لم يتعب من ترديد طوال مدة البرنامج بأنه يعطينا خمسين مليارا كدعم على البنزين، ويعطينا ثلاثين مليارا كدعم على السكر. وكأن الملايير التي يتحدث عنها سعادته خرجت من جيبه وليس من جيوب دافعي الضرائب.
والواقع أن مقارنة مزوار لاقتصاد المغرب الهش والتبجح بقدرته على المحافظة على التوازنات، هو الذي فتح صندوقا خاصا بتلقي الصدقات من دول الخليج ليتمكن من المحافظة على وقفته الموازنة وتحمل الدوار الذي أصابه بسبب ارتفاع فاتورة النفط، يعتبر تهكما وسخرية سوداء من الوزير على المواطنين كان من الأفضل له أن يتجاوزها. فسعادته يتحدث عن نسبة التضخم في الاقتصاد الصيني وينسى نسبة النمو التي حطم بها هذا الاقتصاد كل التوقعات الاقتصادية العالمية. هذا الاقتصاد الضخم الذي يدير شؤون مليار ونصف مليار نسمة بخمسة عشر وزيرا فقط. فيما الحكومة التي شارك فيها مزوار فيها 32 وزيرا لبلد يصل عدد سكانه إلى ثلاثين مليون نسمة.
ولعل واحدة من أطرف الفتوحات الاقتصادية التي حققها الوزير مزوار هو أنه إلى جانب الرفع من أسعار المواد الغذائية الأساسية، سجل انخفاضا في أثمان الثلاجات والأفران. وكأن المهم بالنسبة للمستهلك هو الثلاجة أو الفرن وليس ما سيضع داخلهما. فماذا تنفع ثلاجة أو فرن إذا كان صاحبها لا يستطيع أن يشتري ما يضع داخلهما من أكل.
والشيء نفسه ينطبق على اختباء مزوار وراء تخصيص الدولة عبر صندوق الموازنة لأكثر من سبعين بالمائة من ميزانيته السنوية لدعم الغازوال الذي يستعمله أصحاب السيارات، لتبرير «الصرف» على المواطنين. لأن مجموع السيارات التي توجد في المغرب لا يتعدى مليوني سيارة. فأين نصيب 28 مليون مواطن مغربي من «بركات» دعم صندوق الموازنة على المحروقات.
وقد كنت أنتظر وأنا أتابع البرنامج بالصدفة، أن يتدخل أحد الصحافيين، وبينهم واحد متخصص في الاقتصاد يا حسرة، لكي ينبه وزير المالية إلى أنه يغالط الرأي العام عندما يقول أن الصحافة بالغت عندما اتهمته بمنح 24 مليار درهم كهدايا ضريبية للشركات الكبرى وأنه رقم غير معقول، لأن مداخيل الدولة السنوية من الضرائب لا تعدى ثلاثين مليار درهم، لا غير. لأن الصحافة عندما تحدثت عن زيادة وزير المالية للضريبة على الليزينغ بالنسبة للمواطنين متوسطي الدخل، وبالمقابل تبرعت على البنوك والشركات الكبرى بتخفيضات ضريبية، فقد قدرت هذا «الكاضو» الضريبي بحوالي 24 مليار درهم، لكنها لم تكن تتحدث عن سنة واحدة وإنما على امتداد خمس سنوات.
ولعل واحدة من حسنات برنامج «حوار» هو أنه كشف عن قدرة الوزير مزوار الهائلة على نفي الوقائع، حتى ولو كان الشهود حاضرين أمامه بين الجمهور. فقد نفى نفيا قاطعا أن يكون قد انتقد وزير المالية السابق فتح الله والعلو في جريدة محمد أوجار، التي قال فيها أن سلفه ترك له وضعية اقتصادية ثقيلة. ونفى أن يكون الاجتماع الذي دعاه إليه المنصوري رئيسه في الحزب في بوزنيقة اجتماعا ضروريا، لذلك فضل عليه اجتماع «العرجات» مع عالي الهمة وجماعته. بدعوى أن أخلاقه لا تسمح له بحضور اجتماع ليس لديه ما يقول فيه. بمعنى أن سعادة الوزير يعترف بأن اجتماعات حزبه ليس فيها ما يستحق الأهمية، فهي ليست كاجتماعات «العرجات» التي تشكل، حسب الوزير «حركة جاءت لتغني النقاش»، وأنه من غير المقبول حصرها في شخص واحد هو فؤاد عالي الهمة.
ولكي يبرهن مزوار على أن اقترابه من «حركة لكل الديمقراطيين» ليس شيئا جديدا، استدل باقترابه من حركة «بدائل» التي أرادت أن تساهم بدورها قبل سنوات في «إغناء» النقاش. ولم يشرح لنا مزوار لماذا «خمدت» حركة «بدائل» بعدما لم تلاق الاهتمام نفسه الذي لاقته «حركة» الهمة، خصوصا في قنوات القطب الإعلامي المتجمد. لذلك فانزعاج مزوار من ربط الحركة بشخص واحد هو الهمة ليس له ما يبرره، لأن «حركة لكل الديمقراطيين» بدون شخص كالهمة كان مصيرها سيكون مثل مصير «بدائل» وغيرها من الجمعيات والحركات التي ترفع شعار المشاركة في «تدبير» الحياة السياسة المغربية. أي «دبر عليا ندبر عليك».
في الأخير نكتشف أنه لدينا وزراء يطيرون بدون توقف من بلاد إلى أخرى، ووزراء يطيرون من «المقلة» ويحاولون تحويل الفشل الاقتصادي إلى نمو، والتغطية على اختلال ميزان الصادرات والواردات بتصدير المشاريع «العبقرية» لجمهورية البينين، والخلط في الحديث أمام الرأي العام بين التضخم في الأنا والتضخم في العجز الاقتصادي.

0 التعليقات:

إرسال تعليق