الأحد، 15 نوفمبر 2009

عوم بحرك

عوم بحرك

لا أحد يفهم لماذا يخطط شباط عمدة فاس لتبذير مائة وخمسين مليون سنتيم لإنجاز دراسة حول البحر الاصطناعي الذي يود «إدخاله» إلى فاس، وحوالي مليار سنتيم أخرى لإنشائه. خصوصا وأن سعادته يرى هذه الأيام أن مدنا كثيرة أصبحت لديها بحور اصطناعية من «عند سيدي ربي» بسبب الفيضانات التي اجتاحتها وحولتها إلى جزر معزولة. بعضها، كمدينة إيمنتانوت، أحاطوها بالأمن لقمع المواطنين ومنعهم من الاحتجاج، عوض الإسراع بتقديم المساعدة لهم.
وفي الوقت الذي يعاني فيه الآلاف من سكان الضواحي بفاس من العطش، ويعيش سكان مكناس المجاورة لفاس على إيقاع الانقطاعات الليلية للماء، إلى درجة أنهم لم يستثنوا ليلة العيد من القطع، يفكر شباط ومجلسه في جلب المياه المطلوبة لبحرهم من عين معدنية تسمى «عين سن» تقع بالقرب من جماعة «عين الله». فقد فكر شباط في استغلال هذه المياه عوض تركها تضيع هكذا. ولم يفكر سعادته في استغلال هذه المياه المعدنية لحل أزمة الماء التي تعاني منها ضواحي فاس وجارتها تاونات.
فقد أحيا الله فقراء فاس حتى رأوا اليوم الذي سيستحمون فيه بالمياه المعدنية، في الوقت الذي يعجز فيه أغلبهم بسبب ضيق ذات اليد عن اقتناء قنينة للمياه المعدنية الصالحة للشرب.
والواقع أن من حق شباط وأمثاله أن يضحكوا على المواطنين بمثل هذه الأفكار السخيفة، والتي يريد من ورائها تشجيع السياحة وتحويل فاس إلى مدينة ساحلية «بزز» ضدا على الجغرافيا. والمثل المغربي يقول «اللي ضرباتو يدو ما يبكي». فالذين أوصلوا شباط الذي يفتخر بأميته ويقارنها بأمية النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمادة أعرق مدينة للعلم والعلماء في المغرب، هم المسؤولون الحقيقيون عن هذا التبذير الفاحش لأموالهم. خصوصا وأنهم يسمعون عمدتهم يعدهم بالبحر في الوقت الذي يخرجون فيه بالمئات إلى الشارع لكي يسيروا نحو القصر الملكي احتجاجا على أجواء الرعب التي أصبحت تعيشها أحياء بكاملها سقطت تحت سيطرة العصابات وقطاع الطرق والمجرمين.
ورغم كل هذه الأصوات المرتفعة التي تصرخ في شوارع فاس «هادا عار هادا عار المواطن في خطر»، فإن سيادة العمدة متمسك بموقفه الذي يقول بأن فاس تنعم بالأمن والأمان، وأن الذين يروجون لأخبار الإجرام في فاس ليسوا سوى مجموعة من الحساد الذين يغيظهم منظر الرخام الصيني الذي زوق به شباط شارع الحسن الثاني لكي يطلق فيه الفاسيون أرجلهم، للريح أحيانا عندما يطاردهم لص بسيفه المسلول. ببساطة، شباط يريد أن يقول للفاسيين من سكان حي الوفاق وحي بلخياط وحي عين هارون وحي الأمل وحي بندباب، «عومو بحركم».
ولهذا السبب جاءت المسيرة الأخيرة نحو القصر الملكي لكي تزيل ورقة التوت عن تصريحات شباط الكاذبة التي يريد من خلالها تسويق صورة هادئة عن فاس للملك. والمواطنون الذين شاركوا في المسيرة الاحتجاجية لم يقصدوا بيت شباط ولا مقر مجلس مدينته لطلب الحماية، بل قصدوا القصر الملكي. لماذا، لأن هؤلاء المواطنين فقدوا الثقة في شباط ومجلسه، ويريدون إبلاغ الملك تذمرهم وسخطهم على الأوضاع الأمنية المتدهورة التي أصبحت تعيشها أحياؤهم، والتساهل الغريب للسلطات الأمنية مع المجرمين عبر تجاهل شكايات المواطنين المتضررين من همجية هؤلاء المجرمين.
عندما سمعت وزير الأوقاف أحمد التوفيق يتحدث عن وجوب حماية الأمن الروحي للمغاربة في مشروع الإصلاح الديني الذي قدمه الملك، قلت في نفسي أن الأمن الروحي الذي ينتظر فعلا أمرا ملكيا مستعجلا هو الأمن على أرواح المواطنين في شوارع المملكة. فقد أصبحت هذه الأرواح أكثر عرضة للإزهاق على يد المجرمين واللصوص أكثر من أي وقت مضى. بحيث لم نعد نرى المواطنين في المدن يخرجون للاحتجاج ضد غلاء الأسعار والبطالة، وإنما يخرجون للاحتجاج على انعدام الأمن وانتشار الجريمة، خوفا على أرواحهم وأرواح أبنائهم.
وليس صدفة أن يخرج المواطنون في وقت واحد في فاس والدار البيضاء في مسيرات احتجاجية ضد الانفلات الأمني. فقد وصلت الأمور حدا لم يعد معه السكوت محتملا.
وفي دوار الحاجة بعاصمة المملكة أصبح المواطنون يخشون الاعتداء عليهم بالنهار أكثر من الليل. خصوصا في العاشرة صباحا والثانية زوالا. حتى أصبحت النساء يتعرضن للاعتداء في الطريق بين باب البيت والدكان المجاور. وأصبح بعض عتاة المجرمين وأصحاب السوابق يقفون في رأس الدرب شاهرين سيوفهم، بعضهم يحمل سيفا أكبر منه، فاتحين محطات للأداء بالدفع المسبق لكل من أراد المرور إلى بيته.
وإذا كانت القاعدة عند البوليس ألا يتدخلوا حتى يسيل الدم، فإنهم في دوار الحاجة لا يتدخلون حتى تطيح الروح. أما الدم فأصبح سيلانه هناك شيئا عاديا لا يستحق حرق أعصاب وغازوال سيارات الشرطة.
سكان دوار الحاجة القدماء الذين عاشوا هناك أكثر من خمس وعشرين سنة يقولون أنهم لم يشاهدوا طيلة وجودهم بالحي انفلاتا أمنيا كالذي يشاهدونه الآن. وإذا كانت الدولة تضع محاربة الإرهاب ضمن أولى أولوياتها، فإن إرهاب المجرمين واللصوص للمواطنين العزل لا يقل خطورة عن إرهاب المتطرفين.
وإذا كانت هذه السيبة تحدث في مدينتين عريقتين إحداهما هي العاصمة السياسية والثانية هي العاصمة الروحية للمملكة، فلنا أن نتصور ما يحدث في المدن الأخرى.
إنه لمن الخطأ أن يعتقد البعض أن الدولة ليست لديها الوسائل لاستتباب الأمن في المدن والقرى، فهذه وظيفتها الأساسية. السؤال الذي يطرح نفسه هو من له المصلحة في تحويل احتجاجات المواطنين ومطالبهم من خانة المطالبة بتخفيض الأسعار وضمان الشغل إلى خانة المطالبة بمجرد توفير الأمن.
لقد رأينا كيف جندت الدولة كل أصناف مؤسساتها الأمنية عندما أرادت أن تطبق منطق دولة «الدق والقانون» ضد مدينتي صفرو وسيدي إفني. فقد جندت الآلاف من رجال الأمن والقوات المساعدة ورجال الشرطة والدرك، بمروحياتهم وسيارات دفعهم الرباعي وحافلاتهم ودراجاتهم النارية، وأسلحتهم المختلفة، كل هذا من أجل حفنة من المواطنين لا يتجاوز عددهم المائة كانوا معتصمين في الميناء وقطعوا الطريق أمام شاحنات السمك.
فكيف تنجح الدولة في تجنيد الآلاف من رجالها لفك اعتصام بضع عشرات من المحتجين اعتصموا بميناء سيدي إفني احتجاجا على حرمانهم من حقهم في اقتسام خيرات بحرهم مع الغرباء عن المدينة، وفي الوقت نفسه تعجز عن حشد العشرات من رجال أمنها لتعقب المطلوبين للعدالة والمجرمين واللصوص الذين يروعون المواطنين ويزهقون أرواحهم في أحياء المدن من أجل هاتف تافه أو ورقة نقدية من فئة خمسين درهما.
إن الدولة التي تدخلت لحماية مصالح المستثمرين في سيدي إفني، وذهب وزير الداخلية برجليه لكي يطمئنهم على أموالهم، هي الدولة نفسها التي يجب أن تتدخل اليوم لحماية أمن المواطنين. وكم سنكون سعداء لو سمعنا وزير الداخلية ينزل إلى دوار الحاجة بالرباط أو حي عين هارون بفاس لكي يطمئن المواطنين على أرواحهم، كما صنع عندما ذهب إلى سيدي إفني وطمأن المستثمرين على ممتلكاتهم.
إلا إذا كان مصير صناديق الحوت «الخانز» عند وزير الداخلية أهم من مصير أرواح المواطنين وأبنائهم، فهذا كلام آخر.
لهذا كله يبدو مشروع شباط البحري سخيفا ومثيرا للسخرية. لأنه التجسيد الحي للمثل الشعبي الذي يقول «آش خصك آ العريان الخاتم أمولاي». فاس بحاجة اليوم إلى الأمن، والماء المعدني الذي يريد شباط أن يملأ به بحره سيكون الأفضل للسكان لو أن مجلس المدينة يضع مخططا لتأمين حاجة المدينة إلى مياه الشرب للعشرين سنة المقبلة.
لكن شباط وأمثاله من محدثي النعمة والمسؤولية، لا يفكرون في وضع مخططات للعشرين أو الثلاثين سنة المقبلة. فكل ما يهمهم هو المشاريع التافهة والسطحية التي تؤتي أكلها الانتخابي في السنة الموالية. كترخيم الشارع الرئيسي لفاس بالرخام الصيني وتزيينه بالنافورات المستوردة، والتخطيط «لانقلاب» ضد الجغرافيا وإدخال البحر إلى فاس. أما التاريخ فقد انقلب عليه منذ سنوات، عندما أصبح شباط أول عمدة لعاصمة العلم والعلماء يفتخر أمام الملأ بأميته التي تضاهي أمية الأنبياء.

0 التعليقات:

إرسال تعليق