السبت، 14 نوفمبر 2009

كوّر وعطي لعور

كوّر وعطي لعور


الحلقات الثلاث الأولى من أغلب المسلسلات الهزلية والدرامية التي تبثها القناتان العموميتان تبدو كافية لكي تعطينا فكرة عن كل ما ينتظرنا طيلة شهر رمضان من جلسات تعذيب.
ولعل الشعور الذي يوحد أغلب المشاهدين وهم يتابعون صراخ الممثلين والمهرجين ورقصهم الكاريكاتوري المفاجئ الذي ينخرطون فيه بدون مناسبة في الغالب، هو تحسرهم على مستوى مسلسلات السنة الماضية. فمن شدة انحدار المستوى هذه السنة أصبح يشدنا الحنين إلى انحطاط السنة الماضية. وهذا أكبر دليل على أن مستوى الكوميديا في المغرب يتراجع سنة وراء أخرى، بالشكل الذي يجعل إنتاجات سنة 2000 مثلا ترقى إلى مستوى التحف الفنية مقارنة بكل هذه الرداءة والسوقية التي يعرضون علينا اليوم.
وشخصيا لدي قناعة راسخة بأن وراء كل هذا الإنتاج الدرامي والكوميدي الضحل رغبة واضحة في تجهيل الناس وتبليد حسهم وقتل الإبداع عندهم. وهذا طبعا يدخل في إطار مشروع شامل للتبليد والتجهيل بدأ قبل ثلاثين سنة ولا يزال مستمرا إلى اليوم.
ولعل الخلاصة التي نخرج بها ونحن نشاهد كل هذه السخافة المتلفزة، هي أن الأزمة في المغرب ليست أزمة إمكانيات، وإنما أزمة خيال. هؤلاء أناس غير قادرين على تخيل قصص وسيناريوهات ومواقف ومفارقات يمكن أن تنتزع بذكاء الابتسامة والضحكة من أفواه المشاهدين. كل موهبتهم أنهم يجيدون تكرار نفس «التعواج» ونفس الشطحات ونفس اللكنات التي قدموها طوال السنوات الماضية.
وإذا كان هناك عند الأطباء مرض اسمه فقر الدم، ففي التلفزيون المغربي هناك مرض مزمن اسمه فقر الخيال. ولعلاجه أوصى فيصل العرايشي مدير القطب العمومي المتجمد بأخذ دواء اسمه «الخياري وفهيد» لشهر كامل، حبة قبل الإفطار اسمها سلسلة «يوم ما يشبه يوم» على القناة الأولى، وحبة بعد الإفطار اسمها سلسلة «مبارك ومسعود» على القناة الثانية. «ومريضنا ماعندو باس».
ومن بين أعراض هذا المرض كذلك أن تتحول رواية الأديب الروسي دوستوفسكي «الأخوة كرامازوف» إلى سلسلة اسمهما «تريكة البطاش». ولو كان دستوفسكي يعرف أن بعد مماته سيأتي من يحول رائعته الأدبية حيث الحوارات قطع من الشعر العذب، إلى سلسلة نسمع فيها واحدا من أفقر الحوارات لغة وعمقا، لكان أوصى قبل موته بمنع المخرجين، وأنصافهم على الخصوص، من الاقتراب من عمله.
وهذا ليس مستغربا عندما نقرأ جنريك السلسلة، والذي يذكرنا بتلك العادة المغربية القديمة التي يكون فيها المخرج هو نفسه كاتب السيناريو وبطل القصة. فكاتب سيناريو «تريكة البطاش» هو نفسه مخرجها وبطل قصتها. يعني ببساطة «كوّر وعطي لعور».
أما اختيار «مبارك ومسعود» من طرف القناة الثانية لكي يقطع به المغاربة يوم صيامهم، وإنذارهم بأن السلسلة لا تتحمل أية مسؤولية عن النحس الذي قد يصيبهم جراء متابعة حلقات السلسلة، ففيه تهكم مقصود على المشاهدين. والحال أنه كان جديرا بهم إخلاء مسؤوليتهم من كل مغص قد يصيب المشاهدين بعد رؤية حلقات»مبارك ومسعود» وليس النحس.
وبغض النظر عن ضحالة المضمون والمساهمة في تكريس مفاهيم شعبية متخلفة وخاطئة كالنحس والتطير، فإن السلسلة التي «تناقش» في كتابتها محترف كامل من كتبة السيناريو والصحافيين المتخصصين في «النقد» التلفزيوني، أعطت من خلال حلقاتها الثلاث الأولى (التي تعتبر راس السوق) فكرة عامة عن المستوى الفني الذي وصلت إليه الكوميديا التلفزيونية في المغرب.
ولعل سلسلة «مبارك ومسعود» التي بشرت بها قبل رمضان بأسابيع أقلام صحافية متخصصة في «النقد» التلفزيوني وقدمتها بوصفها فتحا كوميديا مبينا، تجسد «التلاحم» بين النقد والنقود. خصوصا عندما يحيد الناقد عن دوره الأصلي في تقويم الإنتاج الدرامي والكوميدي إلى دور المساهمة في تأليفه، أو ارتكابه على الأصح. ودفعا للشبهات فقد غير بعض هؤلاء «النقاد» أسماءهم في الجنريك بأسماء أخرى مستعارة، ومنهم من لم يكتف فقط بالمشاركة في الكتابة بل ظهر في السلسة متقمصا أحد الأدوار.
عندما يعجز الناس عن الابتكار ويخونهم خيالهم يلجؤون عادة إلى التقليد. أي «النقيل». وفي هذه نحن المغاربة لا يشق لنا غبار. بمجرد ما نسمع أو نرى شخصا أسس مشروعا أو أطلق فكرة ونجحت له حتى نسارع إلى تقليده ونقل مشروعه حرفيا، ثم نجلس بانتظار حصد النتائج.
لذلك ففكرة «كوميديا» التي بدأتها تلفزيونات غربية كثيرة بحثا عن مواهب السخرية والفكاهة، تبقى فكرة جيدة. ونقلها إلى القناة الأولى المغربية كان سيكون له معنى لو أن معدي البرنامج، الذين فشلوا في «لالة العروسة» في نسخته الأخيرة، استعانوا بأساتذة حقيقيين غير الخياري وأمال الأطرش. فبماذا سينصح الخياري مثلا شابا يتلمس طريقه نحو عالم الكوميديا، وأية أفكار يمكن أن تفيد بها الأطرش الشباب الطامحين إلى اقتحام الخشبة. مادام أنهما نفسيهما بحاجة إلى من يعيد تكوينهما من جديد، حتى يقتنعا على الأقل بأن «تعواج» الفم وحده لا يصنع فنانا كوميديا.
ومن بين الأفكار المقرصنة أيضا برنامج «كاميرا النجوم» على القناة الثانية، والذي يستوحي فكرته من برنامج «رافاييل ميزراحي» على القناة الفرنسية الثانية، والذي كان يحاور كتابا كبارا ومثقفين مشهورين بسخرية مغلفة بغباء مصطنع ويطرح عليهم أسئلة غريبة لا علاقة لها بمجال اهتمامهم، تنتهي في الأخير بإخراج الضيف الوقور عن طوره. وهكذا ينجح المنشط الساخر في إخراج الوجه الخفي لضيفه أمام الجمهور. وأشك في أن منشطي «كاميرا النجوم» في القناة الثانية يعرفان أصلا من يكون «رافاييل ميزراحي»، كما أشك في كونهما شاهدا إحدى حلقات برامجه. ما لا أشك فيه هو كونهما قد يكونا سمعا به.
وليس من سمع كمن رأى طبعا. ولذلك تأتي حلقات برنامجهما سخيفة وثقيلة الدم. فهما يضحكان طيلة الحلقة، وينسيان أن الذي يجب أن يضحك في التلفزيون هو الجمهور وليس المنشط.
إن أحد أهم أدوار التلفزيون العمومي هو الترفيه والتثقيف والإخبار. ويبدو أننا في المغرب قلبنا الآية مع دخول التلفزيون المغربي عهد القطب العمومي المتجمد، فأصبح أحد أهم أدوار التلفزيون العمومي هو الإشهار. ومن يتابع سيل الوصلات الإشهارية التي تبدأ بعد مدفع الآذان مباشرة تكاد تختلط عليه الأمور ويتصور أنه بصدد متابعة قنوات خاصة تبحث عن الربح، عوض قنوات عمومية يمولها المواطنون من ضرائبهم كل شهر من أجل إخبارهم وتثقيفهم والترفيه عنهم.
والمصيبة أن هذا السيل المتواصل من الوصلات الإشهارية يفتقر هو نفسه إلى الخيال. فأغلب ما يعرض إشهارات بالرسوم المتحركة حول «الماطيشا» التي ترقص و«السباغيتي» التي تتغنج، والشامبوان الذي بمجرد ما تغسل به الفتاة شعرها حتى تتحول إلى شاكيرا أو مادونا.
يعني فقر مدقع في الأفكار حتى على مستوى الإشهار. بينما في الدول التي تقدر الخيال والإبداع، تشاهد الإشهار وتستمتع به، فهو يتوفر على قصة وسيناريو وحوار وفكرة ذكية تجعلك لا تقبل فقط على اقتناء المنتوج، وإنما انتظار مرور الإشهار في التلفزيون للاستمتاع برؤيته.
وهناك إشهارات في التلفزيونات الأوربية يجب أن تراها ثلاث أو أربع مرات لكي تفهم مضمونها، من كثرة ما يشبه بعضها الأفلام القصيرة في حبكته وعمق فكرته.
إن أحد أدوار الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري هو أن تقنن الحيز الزمني لمرور الوصلات الإشهارية في فترة الذروة في القنوات العمومية. فهذه القنوات لا يجب أن يكون هدفها استغلال رمضان لمراكمة الأرباح، لأننا كمواطنين ندفع لميزانيات هذه القنوات ضرائب شهرية. بل يجب أن يكون هدفها الأول والأخير تقديم خدمة إعلامية عمومية تحترم ذوق المشاهد وترقى به نحو الأعلى. لا أن تقدم له «النحس» على مائدة الإفطار.

0 التعليقات:

إرسال تعليق