الجمعة، 13 نوفمبر 2009

الربطة الزغبية

الربطة الزغبية

بداية هذا الأسبوع اتخذ الجنرال حسني بنسليمان قرار إعفاء زوج ابنة خاله من مهامه كيوتنان كولونيل، وخلع سمير التريكي الكسوة وذهب إلى حال سبيله وكأن شيئا لم يقع. رغم أنه متورط في تزوير محضر رسمي كان من شأنه أن يخفي معالم جريمة قتل والشروع في القتل أمام باب فندق «أونفتريت» بالصخيرات.
في الدول التي تحترم قضاءها وتقدر الروح البشرية حق قدرها، كان سيتم تجريد الكولونيل من الكسوة وسيتم تقديمه للمحكمة العسكرية لكي تحقق في جريمة تزوير المحضر الرسمي للحادث الذي كلف حارسا حياته وانتهى بحارس آخر إلى غرفة العناية الخاصة.
خطورة ما وقع بفندق «أونفتريت» هو أن المحضر الذي سهر على إعداده اليوتنان كولونيل التريكي لا يعفي القاتل من جريمته، بل يحمل الضحيتين مسؤولية ما وقع لهما وكان سيحرمهما حتى من التعويض عن حادثة الشغل. فحسب المحضر المزور فالحارسان غادرا موقعهما وذهبا ليقطعا الطريق من أجل اقتناء لفافات التبغ، فصدمتهما سيارة مجهولة واختفت.
مثل هذا المحضر يعطينا صورة واضحة عن كيفية تحويل المجرم في المغرب إلى بريء والضحية إلى مذنب. وهذا ما لن تستطيع مدونة السير التي يحلم غلاب بتطبيقها محاربته. فما يقتل في المغرب ليس فقط السرعة والسياقة في حالة سكر وعدم احترام الأسبقية، وإنما أيضا الرشوة التي تنخر جهاز الدرك والشرطة، والتزوير في محاضر الحوادث، والكذب على المواطنين باختلاق أخطاء وسرعات وهمية لدفع السائقين إلى اللجوء إلى التفاوض من أجل دفع نصف الغرامة أو ربعها، حسب شطارة كل واحد منهم.
ولعل الخطير في الأمر هو أن الحق لم يكن ليظهر في هذه الحادثة البشعة لو لم يكن أخ أحد الضحايا دركيا برتبة عقيد. ورغم الإغراءات الكبيرة التي قدمتها لعائلته أطراف خفية في الفندق الفخم لطمس القضية، تحت ذريعة أن أحد الأمراء الخليجيين سمع بما وقع ورق قلبه للضحية وقرر تخصيص هدية مالية بآلاف الدولارات للضحيتين، إلا أن العائلة لم تشأ أن تقايض دماء ابنها بالدولار. فانتهت القضية بأن وصلت إلى الأعلى وقرر الجنرال أن يرسل زوج ابنة خاله، الدكتور الخطيب، إلى بيته لكي يستريح. فقد تدخل لصالحه عندما تشاجر في مهرجان موازين الذي نظمته شركة الماجدي، وقيل أنه نطح أحد رجال الأمن عندما منعه من مغادرة المكان قبل أن تغادر الأميرة سلمى المكان، فلم يكن زملاء رجل الأمن المنطوح من العاجزين فانهالوا على الكولونيل باللكم والركل إلى أن تركوه بطانة فوق الأرض.
ولأن الجرة لا تسلم في كل مرة، فقد كان هذا المحضر المزور آخر ما يضربه الكولونيل بالداكتيلو. ولو قدر لشخص آخر غيره أن يضرب محضرا مماثلا لانتهى أمام المحكمة العسكرية بتهمة محاولة تضليل العدالة عن طريق التزوير في محضر رسمي، ومنها إلى السجن.
وهنا على الجنرال بنسليمان أن يشرح للمغاربة كيف يأمر بمتابعة رجال درك بتهمة تلقي رشوة في الطريق، بينما يجد مخرجا لزوج ابنة خاله من المتابعة بالتزوير في محضر جريمة قتل. أليس ما قام به الكولونيل التريكي أخطر بكثير من جريمة الرشوة. لأنه كان سيتستر على الجاني وسيحمل الضحيتين مسوؤلية ما وقع لهما وستقيد الجريمة ضد مجهول. هل هذا هو القسم الذي يؤديه الكولونيلات والجنرالات قبل تقلد قرارات تعيينهم.
وفي الوقت الذي يذهب الكولونيل إلى بيته، بدون أن يتجرأ أي وكيل عام للملك على متابعته، أمر الوكيل العام للملك بمراكش بمتابعة الموثق أبو فراس في حالة اعتقال بتهمة تقديم شيكات بدون رصيد قيمتها مليار و200 مليون. رغم أن الموثق وضع المبلغ في صندوق المحكمة، ولدى محاميه خبرة خطية تثبت أن الخط الذي كتبت به الشيكات مزور. كل هذا لم يجعل الوكيل العام بمراكش، السيد المستاري، يقرر متابعة الموثق في حالة سراح، خصوصا أن الموثق ليس رجلا عاديا، فظروفه الصحية لا تسمح له بالبقاء في السجن يوما واحدا، لأنه ببساطة فاقد للسيطرة على كل أطرافه إلا رأسه. ويتحرك فوق كرسي مجهز بآلة خاصة تتكفل بإخراج بقايا الأكل من بطنه، بسبب حادثة تعرض لها في الطريق أنزلته من غرفة قيادة طائرات لارام إلى غرفة الإنعاش.
ورغم كل هذه الظروف الصحية الخطيرة اتخذت المحكمة قرار متابعة الموثق في حالة اعتقال، بعد أن وضع يمني اسمه خميس اليمني شكاية ضده يتهمه فيها بسرقة مليار و200 مليون. مع أن هذا اليمني متابع بدوره أمام محكمة نانطير بفرنسا، وسبق له أن كان محط مذكرات بحث ومتابعات في أكثر من بلد، كما خصص له صحافي أمريكي كتابا عن آخره يحصي فيه مقالبه.
عندما نرى كيف قررت لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان بمجلس المستشارين إيقاف المتابعة القضائية في حق البرلماني يوسف التازي، المتابع في قضية لا علاقة لها بالسياسة أو إبداء الرأي كما ينص على ذلك قانون المجلس، وإنما بقضية تتعلق باختلاس المال العام، ونرى كيف أن الجنرال حسني بنسليمان يرسل زوج ابنة خاله الكولونيل إلى بيته دون اتخاذ قرار إحالته على المحكمة العسكرية بتهمة محاولة إخفاء معالم جريمة قتل، ثم نرى كيف يصر المستاري الوكيل العام للملك على قرار إبقاء موثق معاق ومشلول لا يقوى على تحريك أطرافه قيد الاعتقال في سجن مراكش، نفهم عمق الحكمة الشعبية التي تقول «سعدات اللي عندو جداتو فالعرس».
وهذا المثل لا ينطبق فقط على المواطنين المتورطين أمام القضاء، وإنما على بعض وكلاء الملك العامين أيضا، وعلى رأسهم المستاري الذي قضى أكثر من ثلاثين سنة في مراكش دون أن يستطيع أحد زحزحته من عرشه، رغم أنه وصل سن التقاعد ومددت له وزارة العدل مرتين، وليس وحده، فحتى زوجته خلدت على رأس المحكمة التجارية في مراكش، وكأن القضاء المغربي لم ينجب غير المستاري وزوجته في هذه البلاد.
على وزير العدل أن يشرح لنا سر هذه «اللصقة» العجيبة التي يدهنها المستاري وزوجته لكي يظلا ملتصقين كل هذه العقود الطويلة فوق كراسيهما بمحاكم مراكش، ولماذا أغلب القضاة ووكلاء الملك ينتقلون من مدينة إلى أخرى إلا هذان الاثنان اللذان تربطهما بمراكش هذه «الربطة الزغبية».
ويبدو أن هذه «الربطة الزغبية» لا تربط بعض القضاة ببعض المدن فقط، فحتى عندما كتبنا عن ابن سفير المغرب في نيويورك الذي اعتقلته الشرطة الإسبانية وهو يحاول دخول سبتة بجواز سفر دبلوماسي مزور، لم ينتبه أحد إلى أن والده السفير قضى في منصبه عشرات السنوات دون أن يجرأ أي وزير خارجية على زحزحته من سفارته.
هل هناك بلاد يبقى فيها سفير عشرين سنة في نفس السفارة دون حراك. هل هناك بلاد يبقى فيها جنرال على رأس الدرك وجامعة الكرة طيلة ثلاثين سنة دون أن يفلح أحد في إقناعه بالذهاب إلى بيته ليستريح. هل هناك قاضي يبقى في محكمة واحدة ثلاثين سنة كاملة دون أن ينتدبه وزير العدل للذهاب إلى محكمة أخرى في مدينة أخرى.
نعم هناك بلاد يمكن أن يحدث فيها كل هذا، بلاد واحدة دون سواها، إنها المغرب.

0 التعليقات:

إرسال تعليق