السبت، 7 نوفمبر 2009

أشباح بنموسى

أشباح بنموسى
رشيد نيني

نهاية هذا الأسبوع أتيحت لي أخيرا فرصة مشاهدة فيلم «أشباح غويا» للمخرج ميلوز فورمان. حيث يجسد الممثل الإسباني خابيير بارديم، الحاصل مؤخرا على جائزة الأوسكار عن دوره في فيلم «لا مكان للعجائز»، دور رجل دين متعصب سيعيد للكنسية بإسبانيا «حقوقها» في تعذيب المشكوك في إيمانهم وعقيدتهم المسيحية الخالصة.
أنصح وزير الداخلية شكيب بنموسى بالبحث عن نسخة من هذا الفيلم والتمتع بمشاهدته. هذا إذا ترك رجاله نسخا منه في الأسواق الشعبية، فقد شنوا مؤخرا حملة واسعة على باعة الأفلام المقرصنة.
عندما سينهي السيد بنموسى الفيلم سيفهم أن ما قاله حول «الشكليات» التي أحاطت اختطاف واعتقال بعض المتهمين في خلية «بلعيرج»، والتجاوزات «الطفيفة» التي يمكن أن تكون أحاطت باستنطاقهم، ليست بالسهولة التي أراد تصويرها.
يحكي الفيلم قصة الرسام الإسباني الشهير «غويا» الذي كان يشتغل كرسام في البلاط بمدريد. وذات يوم سيزوره في محترفه القس المتطرف الذي حصل اقتراحه بإعادة «امتحان السؤال» إلى محاكم التفتيش على الموافقة من طرف الكنيسة، وسيطلب منه أن يرسم له بورتريه.
خلال هذا الوقت كان مخبرو الكنيسة يتجولون في المطاعم والخمارات والشوارع بحثا عن مشتبه في إيمانه. وكانوا يحملون مذكرات يدونون فيها ملاحظاتهم حول الرعايا الذين يظهر على سلوكهم أن شيئا ما يشوب عقيدتهم المسيحية. وصادف أن دخلوا خمارة كانت تسهر فيها مع إخوانها وأصدقائها إحدى بنات تاجر ثري بمدريد. ولسوء حظها عندما مر من تحت أنفها طبق خنزير صغير محمر تبرمت وأشاحت بأنفها عن الطبق. فلاحظ مخبرو الكنيسة ردة فعلها واعتقدوا أنها يهودية تخفي عقيدتها الحقيقية وراء مسيحية زائفة. فسجلوا اسمها وأشعروا الكنسية بأمرها. فاستدعتها لاستنطاقها حول الموضوع.
وبعد أن أجابت الشابة الجميلة عن كل أسئلة القساوسة وشرحت لهم أن كرهها للخنزير لا دخل له بعقيدتها المسيحية الصادقة، قرروا أن يخضعوها لما يسمونه «امتحان السؤال». وهو ما سيسمى، قرونا طويلة بعد ذلك، في معتقل تمارة السري بالمغرب «التعلاق». وتحت التعذيب اعترفت الفتاة بأنها يهودية العقيدة. فوضعوها في أقبية الكنيسة المظلمة، حيث المئات من المشكوك في عقيدتهم والذين اعترفوا أمام «امتحان السؤال» باعتناقهم لديانات أخرى غير المسيحية.
عندما تأخرت ابنة التاجر الثري في العودة إلى البيت، سيطلب والدها من «غويا» الرسام، بحكم معرفته بالقس المتطرف، أن ينظم له معه في بيته مأدبة غذاء، حيث سيكشف له أن مستعد للتبرع للكنيسة بصندوق من الذهب مقابل إطلاق سراح ابنته. لكن القس، وهو يتلذذ بالنبيذ المعتق، قال له بأن ذلك مستحيل، لأن ابنته اعترفت. فقال له الأب بأن أي شخص تحت التعذيب يمكن أن يعترف بأكثر الأشياء حماقة. وأضاف مخاطبا القس بأنه هو نفسه إذا كان هناك من سيقول له تحت التعذيب أنه ليس إنسانا بل قرد يلبس ثيابا، فإنه سينتهي بالإقرار بأنه قرد. فأجابه القس بأن الله إذا كان يحب عبده فإنه سيهبه القدرة على تحمل التعذيب إذا ما ووجه بامتحان السؤال. وهنا طلب التاجر الثري من أبنائه أن يقفلوا الأبواب وأن يقيدوا القس وأن يعلقوه إلى السقف. وأحضر التاجر ورقة كتب عليها «أشهد وأنا في كامل قواي العقلية أنني قرد يلبس ثياب إنسان ولست قسا كما يبدو ذلك ظاهريا». وتحت التعذيب وقع القس على الشهادة التي تثبت قرديته.
فكانت تلك الورقة هي سبب فصله من الكنيسة. وبقية القصة لا تعني شكيب بنموسى في شيء. ما يعنيه هو هذا الشق من الفيلم. حيث يمكن أن نستخلص أن انتزاع اعترافات من المتهمين تحت التعذيب لا يضمن بالضرورة واقعية هذه التصريحات وصدقها.
والدليل على ذلك هو اعتقال أكثر من ثلاثة آلاف متهم بعد اعتداءات 16 ماي بالدار البيضاء. وإخضاع جميع المعتقلين لامتحان السؤال في تمارة وبقية المعتقلات السرية على يد الحجاج غير الميامين الذين لا يستطيع ميلوز فورمان مخرج «أشباح غويا» تخيل ما يستطيع أن تقوم به أشباح العنيكري في أقبيتهم المظلمة.
وفي الأخير قال الملك في حوار له مع جريدة «الباييس» الإسبانية أن تجاوزات حدثت بالفعل في التعاطي القضائي مع هذا الملف.
وفي حديثه بلجنة الداخلية في مجلس النواب مساء الجمعة الماضية، قال شكيب بنموسى بأن «التشكيك الذي صاحب كشف وتفكيك خلية «بلعيرج» الإرهابية يظهر غياب الثقة في المؤسسات القائمة».
وربما يجهل السيد بنموسى أن أحد أسباب غياب الثقة في المؤسسات القائمة هو وجوده هو شخصيا على رأس وزارة الداخلية. مع أن سعادته لم يصوت عليه أحد في أية انتخابات، ولم يختره الشعب لكي يكون مشاركا في الحكومة. ببساطة لأنه لم يرشح نفسه لكي يرى حجمه الحقيقي أمام الرأي العام، كما يحدث في كل الدول الديمقراطية.
ما يصرح به وزير الداخلية هذه الأيام يبعث فعلا على الخوف. فهو يبدأ باعتبار الاختطاف والتعذيب لانتزاع الاعترافات مجرد شكليات. وكأنه لم يتابع الضجة السياسية الكبيرة التي رافقت مؤخرا إقرار جورج بوش بأن مصالح الاستخبارات الأمريكية تستعمل تقنية الإغراق مع المتهمين لانتزاع اعترافات منهم. ثم يضع نفسه فوق العدالة عندما يحسم في صحة البراهين التي يمتلكها لإدانة معتقلي حزب الأمة والبديل الحضاري بالمؤبد أو الإعدام، وكأنه لم ير كيف قرر القضاء والداخلية البلجيكيان التزام الصمت والامتناع عن إعطاء أي تصريح بخصوص ما نشرته الصحافة البلجيكية حول كون «بلعيرج» يشتغل مع الجهاز الاستخبارات البلجيكي. ثم يختمها بتحميل كل المنابر المستقلة التي أخضعت روايته الرسمية لـ«امتحان السؤال»، (بالتعليق وليس بالتعلاق طبعا)، مسؤولية غياب الثقة في المؤسسات القائمة.
يبدو أن السيد شكيب بنموسى لم يقرأ جيدا نسبة المشاركة في الانتخابات الأخيرة التي تلاها بعظمة لسانه مباشرة في التلفزيون بعد انتهاء الانتخابات الأخيرة. والتي وصلت فيها نسبة الامتناع عن التصويت إلى 75 بالمائة من المغاربة. وإذا لم تكن هذه النسبة المتدنية جدا من المشاركة هي أكبر دليل على غياب ثقة المغاربة في المؤسسات القائمة، فإننا صراحة لا نعرف عن أي دليل آخر يبحث بنموسى لكي يتأكد من هذه الثقة الغائبة.
وشخصيا أعتقد أنني فهمت الآن لماذا لم تقبل الدولة أن تقدم اعتذارها لضحايا سنوات الجمر إلى الآن. لأن ما حدث خلال اعتقالات عشوائية بعد 16 ماي وما حدث في مختلف مناطق المغرب عقب احتجاجات المواطنين السلمية، وما وقع من اختطافات في ملف «بلعيرج»، يؤكد بالملموس أن الدولة لم تعتذر لأنها لا تريد أن تعتذر عن شيء وتأتي مثله في اليوم الموالي. لذلك قررت أن تترك الباب مفتوحا على احتمال إعادة النفخ في نفس الجمر القديم لكي يشتعل من جديد ويحرق المزيد من الضحايا. ومن يدري، ربما في المستقبل القريب سنسمع بهيئة إنصاف ومصالحة جديدة تضع قوائم بضحايا العهد الجديد وتدفع لهم تعويضات من أموال دافعي الضرائب، كما حدث مع ضحايا العهد القديم. وطبعا فهم لا يدفعون التعويضات للضحايا من جيوبهم، ويعملون بالمثل القائل «من ليحيتو لقم ليه».
إذا عمل السيد شكيب بنموسى بنصيحتي وشاهد فيلم «أشباح غويا» سيلاحظ أن أهم شخصية في الفيلم هي شخصية الرسام غويا. فالتاريخ لم يحتفظ بأسماء القساوسة ولا باسم التاجر الثري ولا حتى بالقس المتطرف، بل احتفظ برسومات غويا التي أرخت لتلك المرحلة المظلمة من تاريخ إسبانيا، وكشفت الوجه البشع للكنيسة ومحاكم تفتيشها الرهيبة.
كذلك الأمر بالنسبة للصحافي، فمهمته ليست هي تكرار السائد من الأفكار والمواقف الرسمية، وإنما مساءلتها وإخضاعها لامتحان السؤال. والسؤال هو الابن الشرعي للشك. والإسلام عندما تحدث عن الشك وصفه بأن بعضه إثم، ولم يقل كله إثم.
أختم بواقعة يوردها حسنين هيكل في كتابه «زيارة جديدة للتاريخ» ، إذا كان بنموسى يفضل الكتب على الأفلام، يحكي فيها عن زيارته للمغرب صحبة جمال عبد الناصر سنوات الستينات. واستغل الجنرال أوفقير مناسبة وجود حسنين هيكل إلى جانب عبد الناصر واشتكى للحسن الثاني الطريقة السيئة التي يتناوله بها في كتاباته. فقال له عبد الناصر أن كل الصحافيين لديهم حساسية من وزراء الداخلية. وسأل هيكل أوفقير عن مفهومه للأمن، فقال له أن الأمن بالنسبة إليه هو أن يدخل المواطنون بيوتهم وهم آمنون على أنفسهم وممتلكاتهم. فنبهه هيكل إلى أنه يتحدث عن أمن الناس، أما هو فيتحدث عن أمن الأفكار. فقال له أوفقير أن أمن الأفكار بالنسبة إليه هو أن يتصدى لكل من يخالف السائد ويخرج عن الإجماع الرسمي. فنظر إليه هيكل وقال له :
- لحسن الحظ أنك لم تكن وزير داخلية في عهد بني قريش، وإلا لكنت اعتقلت النبي محمد صلى الله عليه وسلم منذ اليوم الأول لظهور دعوته...

0 التعليقات:

إرسال تعليق