الثلاثاء، 10 نوفمبر 2009

عباس والنفق

عباس والنفق

أخيرا قررت المحكمة متابعة مدير أحد السجون بتهمة القتل غير العمد. وتعود وقائع هذه الحادثة عندما وضع المعتقل محمد قطراب سنة 1999 حدا لحياته بواسطة حزام سرواله داخل زنزانته. ويواجه مدير السجن تهمة التقصير في أداء الواجب، على اعتبار أنه لم يتحمل مسؤوليته الكاملة كمدير للسجن في تجريد السجين من حزام سرواله كما ينص على ذلك القانون قبل إيداعه زنزانته.
ستقولون وأخيرا نسمع أن مديرا على رأس مؤسسة رسمية سيقف أمام القضاء عوض أن نكتفي برؤية صغار الموظفين يساقون إلى التحقيق ويجرجرون أمام المحاكم. لكن بعض السوداويين منكم سيقولون أن سجون المملكة المغربية عرفت عشرات، بل مئات حالات الانتحار بأحزمة السراويل وشفرات الحلاقة والأسلاك الكهربائية، ومع ذلك لم نسمع ذات يوم أن مدير أحد السجون التي وقعت داخلها عمليات الانتحار هذه وقف بين يدي القضاء بتهمة التقصير في أداء الواجب، فماذا وقع حتى أصبحنا نسمع عن محاكمة المديرين مكان الموظفين الصغار.
ببساطة لأن مدير السجن الذي يقف أمام القضاء هذه الأيام اسمه «بيير فرانك كولومبي»، وليس عباس أو بوشعيب. ولأن القاضية التي حركت الدعوى اسمها «ماري أوديل» وتوجد في محكمة بباريس وليس في إحدى محاكم الرباط.
أما نحن فقد هرب الوزاني تاجر المخدرات الدولي من سجن القنيطرة بعد أن اشترى الطريق، وبعده هرب تسعة من معتقلي السلفية الجهادية من حي الإعدام والمؤبد بعد أن حفروا نفقا مر من تحت مكتب المدير، ومع ذلك لم يظهر لأي قاضي أو وكيل للملك أن يوجد اتهاما لمدير السجن بالتقصير في أداء الواجب. كل ما سمعناه هو وزير العدل يتحدث في البرلمان عن القانون الذي لم يعد موجودا في المؤسسات السجنية.
وكأن السيد عبد الواحد الراضي يتحدث عن مؤسسات سجنية في بلاد الواق واق وليس في المغرب الذي توجد فيه المؤسسات السجنية تحت مسؤوليته المباشرة.
لا بد أن عبد الواحد الراضي عندما اعترف بأن القانون لم يعد يحترم في سجون المملكة اعترف ضمنيا بحقيقة خطيرة جدا يحاول البعض مداراة أشعتها بالغربال. وهي أن الدولة عجزت عن تدبير شؤون حوالي ستين ألف سجين مغربي يوجدون قانونيا تحت عهدتها. وإذا كانت الدولة غير قادرة على تدبير شؤون بضعة عشرات من الآلاف من المواطنين السجناء فكيف ستقنعنا بأنها قادرة على تدبير شؤون ثلاثين مليون مواطن مغربي يوجدون خارج السجون، ويدخلون قانونيا تحت مسؤوليتها.
وقد كان على وزير العدل أن يقول الحقيقة كاملة وأن يعترف بأن القانون لم يعد يحترم داخل المؤسسات السجنية كما لم يعد يحترم خارج أسوار هذه المؤسسات.وهذا ما يضرب هيبة الدولة في الصميم.
إن فرار كل هؤلاء السجناء بتلك الطريقة المثيرة، لا يستدعي فقط إعفاء مدير السجن ومتابعته قضائيا بتهمة التقصير في أداء الواجب، وإنما يجب أن تمتد المساءلة القانونية إلى داخل دهاليز وزارة العدل لتطرق باب مكتب لديدي الكاتب العام للوزارة، الذي يدير قطاع السجون منذ ثمانية أشهر في غياب مدير مكلف بهذا القطاع.
لكن بما أننا في المغرب فإن الذين سيؤدون ثمن هذا الإهمال والتسيب في المؤسسات السجنية هم الحراس والموظفون الصغار الذين اعترف وزير العدل بأنهم يشتغلون فوق طاقتهم.
وبالإضافة إلى الحراس والموظفين الصغار هناك أيضا من يحاول تحميل الصحافة جزاءا من المسؤولية كذلك. ولعل عادة البحث عن مشاجب لتعليق الأخطاء الحكومية أصبحت رياضة مفضلة لبعض الوزراء، وما تصريح وزير المالية الأخير بخصوص ارتفاع أثمان العقار في المغرب سوى دليل واضح على أن هناك دوائر حكومية تسعى إلى نزع المصداقية عن الصحافة وإلصاق تهمة اختلاق الأخبار الكاذبة لإبراء الذمة الحكومية أمام الرأي العام. فقد قال سعادة الوزير، الذي دخل الحكومة في جبة التجمع الوطني للأحرار وانتهى فوق جرار «حركة لكل الديمقراطيين» ، أن ارتفاع أسعار العقار في المغرب ليس سوى «كلام جرائد» وأن على المنعشين ألا يثقوا في ما تكتبه هذه الجرائد. بقي له فقط أن يتهم الجرائد بوقوفها وراء غلاء أسعار المواد الأولية لكي تكتمل الصورة.
ويبدو أن وزير المالية صلاح الدين مزوار، الذي لم تفلح رياضة كرة السلة التي يزاولها في أوقات الفراغ بتذكيره بكل تلك السلال الثقيلة التي يحملها المواطنون المغاربة إلى الأسواق كل صباح، يجهل أن مشكلة الدولة والحكومة أنها لا تأخذ على محمل الجد كل ما تنشره الصحافة. لأن وزارة العدل مثلا على عهد الراحل محمد بوزوبع لو أنها أخذت على محمل الجد كلام عبد الله زعزع الذي صرح سنة 2003 لجريدة «كزابلانكا» التي كان يدير تحريرها الزميل تافنوت، والذي قال فيه أنه سبق له أن حفر بمشاركة رفاقه إدريس الركاب ومحمد السريفي نفقا من أجل الهرب عندما كانوا معتقلين في سجن القنيطرة، وأنه متأكد من أن ذلك «الورش» الذي لم يكتمل ولم يسعفهم في الهرب لاستفادتهم من العفو سنة 1989، هو النفق نفسه الذي استعمله المعتقلون التسعة من أجل الهرب مؤخرا.
ولعل هذا ما يفسر الكمية القليلة من الأتربة التي ضبطت في زنزانات المعتقلين، والتي صرح وزير العدل بأنها خمسة أطنان، دون أن يستدعي وسائل الإعلام لتصوير كل هذه الأطنان ونشرها لكي يراها الرأي العام، في كل الدول الديمقراطية.
إن أول شيء كان على وزارة العدل وإدارة السجون أن تصنعه بمجرد صدور مثل هذا التصريح الخطير هو فتح تحقيق عاجل للتأكد من تصريحات عبد الله زعزع، خصوصا وأنه يتحدث عن نفق يتعلق بواحدة من أهم المؤسسات السجنية التي تؤوي معتقلين أدينوا في ملفات لها علاقة بالإرهاب.
لكن شيئا من هذا لم يحدث. لأن كل ما ينشر في الصحافة هو مجرد كلام «زايد ناقص».
وحتى عندما ظلت الصحافة المستقلة تشير إلى أن الغرفة الثانية في البرلمان انتهت صلاحيتها وتحولت إلى جهاز يعرقل صدور مشاريع القوانين، لم يشأ أحد أن يتوقف لحظة للتمعن في عمق هذا المطلب. إلى أن صحا عباس يوم الاثنين ووجد أن تسعة برلمانيين يمثلون الكنفدرالية الديمقراطية للشغل غادروا بدورهم مقاعدهم بمجلس المستشارين (أو الشاشارين كما يحلو لأحد أعضائه الأميين أن يسميه)، وبدؤوا يهددون بشن إضراب عام قد يشل البلاد عن آخرها.
وحتى قبل أن يستوعب عباس خبر فرار تسعة معتقلين من السفلية الجهادية من سجن القنيطرة بفضل النفق، فاجأه تسعة أعضاء آخرين من مجلس المستشارين بفرارهم من الغرفة الثانية، هذه المرة بسبب النفق المسدود الذي وصل إليه الحوار الاجتماعي بين الحكومة والنقابات.
وهكذا فمشكلة المغرب اليوم هي مشكلة أنفاق في نهاية المطاف. ما إن نغادر نفقا حتى ندخل في آخر، ولا ضوء يلوح في آخر النفق.
ولعل الدرس التي نستخلصه من رواية عبد الله زعزع، إذا صدقت طبعا، هو أن النفق الذي تحفره اليوم ولا تردمه يمكن أن يأتيك منه الريح غدا. أو كما يقول المغاربة «اللي حفر شي حفرة يطيح فيها».

0 التعليقات:

إرسال تعليق