الخميس، 12 نوفمبر 2009

ستار من الدخان

ستار من الدخان

في الوقت الذي تخوض فيه الأميرة لالة سلمى حربا مفتوحة ضد التدخين في المغرب، عبر جمعيتها المكافحة لأمراض السرطان، يحلو للبعض أن يخوض حملته الخاصة للترويج لأنواع فاخرة من السجائر. وهكذا رأينا في أسبوع واحد حملتين متناقضتين تماما. حملة الأميرة لمكافحة التدخين داخل المؤسسات التعليمية وأماكن العمل، وحملة لترويج كتاب يتوسع في شرح محاسن السيغار الكوبي ويعرض قصص سقوط خمسة عشر شخصية مغربية مشهورة في عشقه. هكذا نعرف من خلال كتاب «السيغار الكوبي في أرض المغرب» (منشورات لاكروازي دي شومان)، أن عمر القباج مدير فندق حياة ريجنسي «أقلع» عن تناول القهوة وعوضها بتعاطي السيغار. حتى أننا نعثر على شهادات لبعض مدمني السيغار يحكون أنهم وقعوا في الإدمان منذ عمر مبكر، كرشيد التلمساني مدير مؤسسة «أونا» الذي يقول أنه تعلم شرب السيغار الكوبي في العائلة. رغم أن المؤسسة التي يشرف عليها رشيد التلمساني تعتبر راعيا أساسيا من رعاة حملة الأميرة لالة سلمى لمحاربة التدخين. أما بالنسبة إلى صارم الفاسي الفهري، رئيس غرفة موزعي الأفلام، فتصوير الأفلام مناسبة حقيقية لتدخين السيغار الكوبي. وحسب عبد القادر الرتناني، صاحب فكرة الكتاب، فالسيغار الكوبي ليس حكرا على الأغنياء فقط، بل هو وسيلة يمكن أن تساعد حتى الفقراء على فتح بعض الأبواب الموصدة. ويستشهد على ذلك بالرسام مهدي قطبي الذي فتح له السيغار الكوبي أبواب الإليزي وأصبح من مستشاري الرئيس الفرنسي السابق وودع الفقر وضيق ذات اليد وأصبح اليوم من كبار الرسامين ومصممي الأساور والأزياء. في الحملة التي تقودها الأميرة لالة سلمى ضد التدخين، ليس هناك فصل بين أنواع التبغ ومراتبه. فالتدخين يشمل التبغ الأسود والتبغ الأشقر والسيغار الكوبي والشيشة والحشيشة. ولذلك فاختيار هذا التوقيت بالضبط لإصدار كتاب يشجع المواطنين على تعاطي السيغار لكي تنفتح أبواب النجاح أمامهم على مصراعيها، أمر يدعو فعلا للحيرة. خصوصا عندما نرى كل هؤلاء الشخصيات الاجتماعية المرموقة تحكي قصصها مع تعاطي السيغار منذ حداثة السن. فأية رسالة يريد المشرفون على الكتاب إرسالها إلى قرائهم يا ترى. صدور هذا الكتاب ذكرني بكتاب أصدره لوران جوفران يتحدث عن توأم السيغار الذي لا يفارقه وهو الكافيار. لكنه لا يعرض لقصص سقوط بعض الشخصيات في حب الكافيار، وإنما يتحدث بالضبط عما يسمى في فرنسا «يسار الكافيار». عندما قرأت مقالات في الصحافة الفرنسية حول الكتاب تأسفت لافتقارنا لمثل هذه الكتب التي تكشف ورقة التوت عن عورة بعض هؤلاء اليساريين البرجوازيين والشيوعيين السابقين الذين ليس لهم من الشيوعية سوى ربطة العنق الحريرية الحمراء التي يلبسونها مع قميص «بيير كاردان» والذي يساوي ثمن الواحد منه راتب عامل بروليتاري عن شهر كامل من العمل ! يساريو الكافيار والسيغار يوجدون بيننا، بعضهم لم يحدث أن اشتغل طيلة حياته بشيء آخر غير الشعارات والخطب. لم يرفعوا طيلة حياتهم النضالية بندقية أخرى غير بندقية الصيد لقتل الوقت (وبعض الحيوانات البريئة) في غابة معمورة، أليس كذلك يا أستاذ عبد الواحد الراضي. لقد اكتشفوا باكرا أن أحسن طريقة لتحقيق حلم البورجوازية الموعودة هو الوقوف على يسار الطريق بانتظار مرور عربة السلطة المصفحة. وعندما مرت العربة تزاحموا على باب الدخول واحتلوا المقاعد الأمامية وأخذتهم العربة نحو الحكم. اليوم غيرت السلطة عربتها بجرار فلاحي يحرث الحقل السياسي بلا رحمة. ولعل أكبر مثال ليساريي الكافيار والسيغار في المغرب هم هؤلاء اليساريون الذين يريدون اليوم العودة إلى أحلامهم البروليتارية القديمة، بعد أن أمضوا فترة بيات شتوي في الحكومة وصلت إلى عشر سنوات. ومن يسمع فتح الله والعلو يتحدث اليوم عن ضرورة تشبيب الحزب وقادته، وعن نهاية زمن الزعامة التاريخية والحاجة إلى الكفاءة، يحاول أن يقرص نفسه لكي يتأكد من أنه لا يحلم. وكأن والعلو نسي أنه كان طيلة حكومتين مسؤولا عن تدهور القدرة الشرائية للمواطنين، وإثقال كاهل الطبقات الشعبية بأنواع غريبة من الضرائب لم يسمعوا بهامعه. هو الذي كان يخبط الطاولات في البرلمان دفاعا عن هذه الطبقات الشعبية التي حملته إلى الحكومة. والجميع يتذكر عندما كان يأتي إلى كلية الحقوق ويركن سيارته الإركات أمام الباب ويدخل لكي يعطي محاضراته في علم الاقتصاد، مذكرا الطلبة بأن الدولة المتخلفة اقتصاديا هي الوحيدة التي يلجأ وزراء ماليتها إلى الضريبة على القيمة المضافة لإنقاذ الخزينة. كان المغاربة ينتظرون يوم الأربعاء لكي يرونه في البرلمان يرغي ويزبد ويضرب بقبضته فوق الطاولة متحديا الحكومة ومخططاتها الخماسية البليدة. وعندما ركب عربة السلطة المصفحة فرض الضريبة على القيمة المضافة حتى على بوربوار نادل المقهى. زعماء يساريون كثر تحولوا إلى مجرد بورجوازيين لا علاقة تربطهم باليسار ولا بمبادئه. الحبيب المالكي الذي لم يضايقه أبدا أن يكون على رأس وزارة الفلاحة أو وزارة التعليم، فكل الوزارات عندنا تسير بعقلية القطيع، والذي اتضح أنه يحب الشوكولاته أكثر مما يحب الكتاب الأحمر، هو أيضا واحد من أولئك اليساريين الذين نجحوا في التحول إلى بورجوازي يحرص على ماركة الشوكولاته التي في دولاب مكتبه أكثر مما يحرص على مبادئ الحزب. يدافع عن تعليم جيد للجميع، في الوقت الذي لا يضايقه أن يرى رفاقه في الحكومة يبعثون بأبنائهم إلى الخارج ليتابعوا دراستهم بعيدا عن مدارس وزارته التي أفلست. واليوم يأتي لكي يصف لنا ملامح القائد الحزبي والذي يجب أن يكون منتخبا ويتمتع بخبرة ميدانية. وكأنه يقول للاتحاديين بأن قائدهم القادم هو الحبيب المالكي. لأنه منتخب في بجعد ولديه خبرة سنوات طويلة في الحكومة. ولا يهم إن كانت هذه الخبرة هي التي أوصلت التعليم في المغرب إلى المراتب الأخيرة في الترتيب العالمي. واليازغي الذي كاد أن يفقد حياته عندما انفجر في وجهه طرد ملغوم أيام المعارضة، ماذا يصنع الآن. لقد شيد بناية فخمة لمقر الحزب يمكن أن تخلطها بسهولة ببورصة لتداول الأسهم. انتهى وزيرا بدون حقيبة. لهذا ستبقى تجربة اليسار في الحكم بالمغرب تجربة فاشلة، لأنها أسندت إلى يساريي الكافيار والسيغار اتضح أن طموحهم كان هو ضمان بطاقة العضوية في نادي الأغنياء والبورجوازيين. من مجرد بروليتاريين تحول بعضهم إلى ملاك أراضي وضيعات، ومن مجرد محامين عاديين تحول بعضهم إلى أصحاب مكاتب خبرة وشركات برؤوس أموال عملاقة، ومن مجرد شعراء من الدرجة الثالثة إلى رموز ثقافية تحمل شعار الحداثة. والواقع أن هؤلاء اليساريين الذين يريدون أن يقدموا أنفسهم اليوم كجزء من الحل لأزمة الاتحاد الاشتراكي، ليسوا في الواقع سوى جزء من الأزمة نفسها. فالحل هو القطع نهائيا مع يساريين من هذا الصنف، والبحث عن جيل جديد بدماء جديدة غير ملوثة بدخان السيغار وبقع الكافيار. لذلك فما نحتاج إليه اليوم ليس كتابا حول السيغار الكوبي وإنما حول يساريي السيغار، كتاب يرسم لنا ملامح يساريي الكافيار في المغرب، حتى يعرف المغاربة من أين أتوا، ماذا كانوا يملكون، أين كانوا يسكنون، وكيف صاروا وكم أصبح لديهم في البنوك وأين أصبحوا يقيمون. الآن نفهم لماذا لم يستطع الاتحاديون الذين كانوا في الحكومة تطبيق قانون من أين لك هذا الذي ظلوا يدافعون عنه عندما كانوا في المعارضة. فيبدو أنهم أدركوا بحاستهم اليسارية عمق تلك الحكمة المغربية التي تقول «هبش تجبد حنش». فالأحسن للجميع ترك الحناش في غيرانها، لأنها إذا أخرجت بالقوة يمكن أن تلدغ. ويساريو الكافيار عندنا يبدو أنهم لا يريدون أن يلدغوا من الجحر ذاته مرتين !

0 التعليقات:

إرسال تعليق