الاثنين، 9 نوفمبر 2009

نادي الشاربان

نادي الشاربان
رشيد نيني

لم ينزعج أحد من الفكرة التي تقدم بها لحسن الداودي عن فريق العدالة والتنمية في البرلمان برفع الضريبة على الاستهلاك الداخلي للخمور، بالقدر الذي انزعجت منها بعض المنابر الصحافية الناطقة بالفرنسية. فقد رأت مثلا أسبوعية «لافي إكونوميك» الاقتصادية المتخصصة في هذه الزيادة تهديدا مباشرا لرؤية 2010 السياحية وعشرة ملايين سائح الذين تحلم بهم وزارة السياحة. ورأت فيها أسبوعية أخرى تشجيعا مباشرا للكرابة الذين سيستغلون ارتفاع أسعار الخمور بسبب الزيادة في الضريبة لتطوير إنتاجهم التقليدي من الماحية. فيما رأت فيه أسبوعية ثالثة استعمالا واضحا للدين للتفريق بين المغاربة على أساس مستواهم المادي.
وحسب لحسن الداودي الذي يستغرب كيف أن ارتفاع الضريبة على الاستهلاك الداخلي شملت كل المواد الاستهلاكية الأساسية للمغاربة، إلا الخمور، فإن الرفع من هذه الضريبة سيصعب على الطبقات الفقيرة اقتناء المشروبات الكحولية إذا ما تم الرفع من أسعارها. وسيقتصر استهلاكها على الطبقات المرفهة والغنية فقط.
هل صحيح فعلا أن تجارة الخمور في المغرب يمكن أن تعول على طبقة المرفهين لكي تستمر في تحقيق كل هذه الأرباح السنوية التي تقدر بالملايير. لا أعتقد، فأكبر مستهلك للخمور في المغرب هم المغاربة المنحدرون من الطبقات الوسطى والفقيرة. وأغلب المغاربة لا يشربون مثلما يشرب الشعوب المتحضرة، وإنما يشربون من أجل أن يسكروا. والفرق كبير بين من يشرب كأسا أو كأسين من النبيذ مع طعام الغذاء أو العشاء، وبين من يجلس من الخامسة مساء وقد وضع أمامه كتيبة كاملة من «بولعوان» أو «موغرابي» لا يقوم عنها إلا وقد أفرغها كاملة في جوفه.
ولعل أحد المشاكل العويصة التي أصبحت تشكو منها أغلب الهيئات الدبلوماسية هي كيف يدعون بعض الصحافيين والسياسيين والمثقفين المغاربة لحفل خاص أو مناسبة وطنية يقيمونها في سفاراتهم أو مقرات إقاماتهم، دون أن يضطروا لإخراجهم محمولين على الأكتاف بسبب عدم قدرتهم على الوقوف.
وكم صحافيا ذهب لكي يغطي ندوة يعقبها كوكطيل فيه مشروبات روحية، فنسي ليس فقط التغطية وإنما أيضا نفسه وباب منزله وبات في الشارع.
المغاربة لا يعرفون كيف يشربون. لأن أغلبهم يشرب لكي ينسى وليس لكي يتذوق. وربما كان المغاربة الشعب الوحيد الذي بمجرد ما يشرب أحدهم حتى يبدأ في البكاء، وآخرون يشربون وينخرطون في موجة من الضحك، وهناك نوع آخر يكون أكثر هدوءا من حمل وديع، وبمجرد ما يسخن رأسه حتى تزنزن له الذبانة في أذنيه ويتحول إلى ثور هائج يحطم كل شيء يجده أمامه.
والخمور لم تكن أبدا في يوم من الأيام حكرا على الأغنياء. بل إن الفرق الوحيد بين خمور الفقراء وخمور الأغنياء هي أن لكل واحد خمرته التي يستحق. وهناك فنادق وعلب ليلية يكون فيها زبائن يستطيعون فتح قناني تساوي فيها القنينة الواحدة من النبيذ راتب موظف في السلم الحادي عشر. وهناك بارات حقيرة يشرب فيها مغاربة الطبقة الوسطى والفقيرة بيرة وطنية تصلح أكثر لعلاج الجروح بسبب نسبة الكحول المرتفعة فيها، ويسكرون بنبيذ تستطيع رائحته الحامضة أن تصيب فيلا بالغيبوبة.
ولعلكم ستستغربون إذا عرفتم أن المغاربة يستهلكون حوالي ثلاثين مليون لتر من النبيذ في العام. بمعدل يفوق بكثير الاستهلاك الفردي للحليب. الذي عرفت أسعاره بالمناسبة ارتفاعا مهولا، خصوصا حليب الأطفال الرضع.
كل هذا لكي نشرح بأن المغاربة يشربون كثيرا. ربما أكثر من اللازم. والذين يخشون على السياح والأجانب من ارتفاع الضريبة على الاستهلاك الداخلي للكحول ما عليهم سوى أن يذهبوا إلى «مرجان» و«أسيما» لكي يتأكدوا من أن زبائن شركات إنتاج الخمور في المغرب الحقيقيين ليسوا سياحا ولا أجانب، وإنما مغاربة أبا عن جد. ولو عولت هذه الشركات على أولئك السياح والأجانب الذين يقصدون هذه الأسواق لاقتناء زجاجة نبيذ وبيرتين مرة في الأسبوع، لكانت أفلست وهبطت الريدو منذ سنوات طويلة.
لذلك ففي رأيي المتواضع تبقى القضية التي طرحها لحسن الداودي قضية مهمة جدا. وربما يجدها بعض الزملاء مادة للسخرية بحكم ارتباط منابر بعضهم بعقود إشهارية مع شركات إنتاج الخمور. وهذا ما نراه عندما تقترب المناسبات والاحتفالات، حيث تعير بعض المجلات والجرائد صفحاتها لأنواع الروج والويسكي والفودكا بأسعار تفضيلية.
لكن الحل بنظري لن يكون بالاقتصار فقط على الرفع من الضريبة على الاستهلاك الداخلي للكحول. لأن هذا سيزيد من أرباح الخزينة العامة، وسيزيد من أرباح الشركات المنتجة للخمور التي ستلجأ إلى الرفع من أسعار مشروباتها في الأسواق. والذي سيدفع الثمن هو المستهلك المنتمي إلى الطبقات المتوسطة والفقيرة. وبنظري فالدولة تخاف من زيادة ثمن البيرة والروج أكثر من خوفها من زيادة ثمن الخبز والزيت، لأنها إذا غامرت بالزيادة في هذه المواد «الحيوية» فإنها ستجلب عليها غضب وسخط الملايين من الأعضاء الدائمين في نادي «الشاريبان».
لذلك فالمطلوب من المعارضة في البرلمان أن تقوم بمثل ما تقوم به معارضات الدول التي تعاني اليوم من مشاكل صحية واجتماعية وأخلاقية بسبب ارتفاع استهلاك المشروبات الكحولية بين المواطنين، وخصوصا الشباب. كما هو الحال بالنسبة للمغرب.
المغاربة سيستمرون في الشرب حتى ولو ارتفع ثمن الشراب. والمدمن على الشرب يستطيع أن يتدبر ثمن شرابه بكل الطرق الممكنة، بل بأحطها وأعنفها أحيانا. لذلك فالتوعية تبقى أهم سلاح للحد من انتشار تعاطي المشروبات الروحية. وهنا يتحمل الإعلام العمومي مسؤولية أساسية، وإذا كان من جهة يجب شن حرب برلمانية ضدها لكي تستفيق من سباتها وتلعب دورها التربوي الذي من أجله أنشئت، فهي وسائل الإعلام العمومية. يجب التنديد بصمتها المطبق كلما تعلق الأمر بخطر الإدمان الذي يتهدد الملايين من المغاربة. ويكفي الآن من هذا الخطاب المنافق الذي يريد أن يقنعنا بأن من يحارب انتشار تعاطي الكحول فإنما يحارب أحد أهم موارد الخزينة العامة للمملكة (حوالي 774 مليون درهم سنويا). إن من يحلل الوضع بهذه الطريقة الاقتصادية السطحية يكشف عن قصور كبير في رؤيته للمستقبل. فهو ينطبق عليه ما يقوله المغاربة في هذا الخصوص «شاف الربيع ما شاف الحافة». فهو يرى الأرباح ويتجاهل أن خزينة المملكة ستكون مجبرة بعد سنوات قليلة على تحمل مصاريف الرعاية الطبية والاجتماعية التي سيتسبب فيها الإدمان للمواطنين. ولماذا سننتظر المستقبل، مادامت وزارة النقل والتجهيز نفسها اعترفت أن نسبة مهمة من حوادث السير يقف وراءها الخمر.
هذا دون أن نتحدث عن الأسر التي تتمزق بسبب الإدمان، والطاقات الخلاقة التي نفقدها يوميا بسبب الغرق في بئر الشرب اليومي الذي بلا قرار. ويعلم الله كم فقد المغرب بسبب الإدمان من كاتب كبير كان يمكن أن يعطي الكثير لبلده، وكم فقد المغرب من صحافي لامع كان يمكن أن يحمل لواء هذه المهنة إلى أبعد خندق. لكنهم سقطوا في الطريق عبيدا للويسكي والفودكا والروج الرخيص. بعضهم يبيع قلمه ليشرب وبعضهم الآخر كسر قلمه وجلس ينتظر ثملا نهايته.
إن أهم شيء يجب أن تنادي به المعارضة في البرلمان هو إجبار وزارة الصحة على تبني مشروع عاجل لإنشاء مراكز عمومية للعلاج من الإدمان. وإجبار الإعلام العمومي على فتح النقاش في برامجه للحديث عن هذا الطابو وتحطيمه، حتى يتشجع المدمنون على تقبل مرضهم والقبول بالخضوع لعلاجه.
في آخر حلقة من برنامج «مبعوث خاص» على قناة إم 6 الفرنسية، تحدث البرنامج عن وجود نسبة كبيرة من المدمنين على الكحول في المدارس الفرنسية الكبرى. ودقوا ناقوس الخطر بسبب كل تلك الحفلات الأسبوعية التي يتعاطى فيها الطلبة كل أنواع المشروبات الروحية. كما أعطوا نماذج لطلبة تابوا وأقلعوا عن الشرب بعدما ضيعوا مستقبلهم التعليمي وشارفوا على الانتحار أكثر من مرة.
إذا كانت فرنسا العلمانية تأخذ مستقبل شبابها على محمل الجد، وتحذرهم من مخاطر الكحول على الصحة العامة والمستقبل العلمي لفرنسا، فلماذا يخاف المغرب المسلم من اقتحام هذا الطابو. ولماذا يصاب بالخرس أولئك المنادون بتحطيم الطابوهات كلما تعلق الأمر بالخمور وأثرها السلبي على مستقبل المغرب. مجرد سؤال.

0 التعليقات:

إرسال تعليق