السبت، 14 نوفمبر 2009

الدبلوماسية «النشيطة»

الدبلوماسية «النشيطة»

حسب قصاصة لوكالة الأنباء الفرنسية نشرتها الصحافة في عدد الأمس، نقرأ أن المحامي السويسري اتهم سلطات طرابلس باحتجاز والدة وشقيق موكله «رهينتين» في ليبيا». وأضافت الجريدة في مقالها أن السلطات الليبية عمدت إلى اعتقال والدة وشقيق الخادم المغربي من أجل الضغط عليه لتقديم تنازل عن الدعوى، في حين لم يصدر عن الدبلوماسية المغربية أي موقف بهذا الخصوص بعدما اعتبر المجلس الأعلى للجالية أن الملف ليس من اختصاصه.
وكتبت جريدة الوزير الأول، الذي توجد وزارة الخارجية ضمن وزارات حكومته، أن طرابلس تواصل اعتقال الأم المغربية لممارسة الضغط، وأن «الأشقاء» الليبيين يشترطون سحب شكاية الخادم المغربي والخادمة التونسية ضد ابن العقيد القذافي لإطلاق سراح الأم وابنها.
لكن الصحافة الرسمية الصادرة يوم الجمعة، وصحافة «المخابرات المغربية»، لديها رأي آخر في الموضوع. فوالدة وأخ السائق المغربي الذي اتهم نجل معمر القذافي بإساءة معاملته في سويسرا، لم يكونا معتقلين في جماهيرية العقيد الديمقراطية العظمى، ولم يتعرضا لأية إساءة أو تعسف من قبل السلطات الليبية. والدليل على ذلك هو أنهما وصلا إلى المغرب ليلة الأربعاء آمنين مطمئنين.
وأضافت الصحافة الرسمية، متهمة في الطريق كل الصحافيين الذين عابوا على الدبلوماسية المغربية صمتها بخصوص هذه القضية بأنهم ينشرون المغالطات، بأن «هناك تقليدا شكل دوما إحدى دعامات الدبلوماسية المغربية وهو السرية في التعامل والتي هي السمة المميزة للعمل وكفاءته».
لدي سؤال بسيط جدا أرجو أن يتسع له صدر هؤلاء المهللين بهذا النصر الدبلوماسي «السري» الباهر. إذا لم تكن والدة وأخ الخادم السابق لحنيبعل القذافي قد تم اعتقالهما في ليبيا، فلماذا تحركت «الآلة الدبلوماسية المغربية الفعالة» في طرابلس، وأية قضية حساسة هذه التي اشتغلت الدبلوماسية المغربية عليها بسرية إلى أن توصلت إلى حل مشرف حولها من «الأشقاء» الليبيين. لا دخان بدون نار. إذا كانت الدبلوماسية المغربية قد تحركت في سرية كاملة، بدون بيانات أو بلاغات كما يحدث في كل الدول الديمقراطية، وتدخلت لدى سلطات طرابلس خلال الأيام الأخيرة، فلأن مشكلا دبلوماسيا وقع بين البلدين، وإلا ما الداعي إلى التحرك بكل هذه «السرية» و«الفعالية» في هذه العطلة الحكومية. بل ما الداعي إلى رجوع الأم وابنها إلى المغرب في هذه الفترة بالضبط ماداما يعيشان بسلام في جنة العقيد الديمقراطية العظمى.
إننا نعرف خروب بلادنا جيدا، ونعرف أن المخابرات المغربية تستطيع أن تجعل والدة خادم ابن الرئيس تقول أمام العالم بأسره أنها لم تكن معتقلة هي وابنها في مكان سري عند العقيد، وأنها كانت معززة مكرمة في ضيافة قائد الثورة. وليس هذا فحسب، يمكنهم أن يجعلوها تعترف بأن ليبيا أجمل بلد في العالم وأن المهاجرين المغاربة يتمتعون بحقوق لا يحلم بها أشقاؤهم في سويسرا نفسها، وأن السلطات الليبية وحرصا على سلامتها نقلتها إلى فندق خمس نجوم محروس بفريق خاص من حرس الثورة عندما انتهى إلى علمهم أن ابنها وضع شكاية ضد ابن الرئيس في سويسرا.
هكذا ستظهر الصحافة التي تحدثت وكتبت حول اعتقال الأم وابنها في سجون العقيد في وضع مضحك، مادام أن المعنية بالأمر تقول الصحافة الرسمية وصحافة المخابرات المغربية على لسانها أنها لم تكن معتقلة ولا هم يحزنون.
واضح أن الدبلوماسية المغربية شعرت بالإحراج عندما أرسل المحامي السويسري مبعوثا خاصا إلى الملك يطلب منه التدخل لإطلاق سراح الأم المعتقلة رفقة ابنها في ليبيا. بعدما اعتبر المجلس الأعلى للجالية أن الملف ليس من اختصاصه، وكأن المجلس الأعلى للجالية متخصص في شؤون جالية سكان كوكب الزهرة.
وواضح أيضا أن هناك صفقة سرية تم عقدها بين الرباط وطرابلس لإقبار هذا الملف. وليس مستبعدا أن نسمع اليوم أو غدا أن الخادم المغربي الذي اتهم ابن العقيد بإساءة معاملته وضربه قد تنازل لهذا الأخير وسحب شكايته. فالمدعي العام السويسري في جنيف استبعد إمكانية طي الملف لأغراض سياسية، وأكد أن النيابة العامة لم تتعرض لأي ضغط من وزارة الخارجية الفدرالية لأن هذه الأخيرة تحترم استقلالية القضاء. استقلالية القضاء، هذه الجملة التي لا يفهمها المسؤولون لا في الرباط ولا في طرابلس.
ولذلك طالبت السلطات الليبية سويسرا بتقديم اعتذار لها على معاملتها «القانونية» لحنيبعل القذافي. فالأعراف الليبية المعمول بها في الجماهيرية الديمقراطية تعطي المشغل حق ضرب مشغليه متى أحب، كما تعطيه حق طردهم وقتما أحب. وأبناء العقيد مشهورون بتحديهم لقوانين الدول الديمقراطية، ويصرون على نقل فوضاهم وتخلفهم إلى شوارع العواصم المتقدمة. وقبل مدة ألقي القبض على أحد أبناء القذافي يسير بسرعة جنونية في الاتجاه المعكوس في جادة الإليزي. وتم إطلاق سراحه بكفالة وكاد يتسبب في أزمة دبلوماسية بين باريس وطرابلس.
تريد الدبلوماسية المغربية «النشيطة» أن تظهر اليوم حنكتها وفعاليتها لأنها استطاعت أن تتدخل بسرية تامة لإعادة أم وأخ الخادم السابق لابن الرئيس الليبي. وتريد أن تقدم هذا الإنجاز الدبلوماسي عبر صحافتها الرسمية كما لو كان مشابها للجهود الدبلوماسية التي بذلتها فرنسا والدول الغربية لإعادة الرهينة «بيطانكور» إلى عائلتها من بين مخالب خاطفيها في الأدغال الكولومبية.
وإذا كانت الدبلوماسية المغربية متعودة على الاشتغال بسرية وفعالية، وتقيم وزنا لرعايا المملكة في الخارج، كما تردد صحافتها مثل ببغاوات، فلماذا لم تتحرك لإنقاذ مئات المهاجرين المغاربة الذين يتكدسون في سجون العقيد مثل الحيوانات. أليس هؤلاء المهاجرون الذين قادهم حظهم العاثر إلى واحة الديمقراطية الليبية العظمى مغاربة يحملون جواز السفر المغربي ويستحقون أن تتفاوض الدبلوماسية المغربية، سرا وبفعالية، من أجل إعادتهم إلى أرض الوطن. أم أن هؤلاء ليسوا مورطين في قضية بطلها ابن الرئيس المدلل، ولذلك فقضيتهم لا تعني الدبلوماسية المغربية في شيء.
ماذا صنعت الدبلوماسية المغربية «النشيطة» للمختطفين مجهولي المصير إلى اليوم، بوعلام والمحافظي. هل أعادتهما إلى أرض الوطن، هل أقفلت ملفهما ونسيتهما بهذه السرعة مع أنهما موظفان كانا يشتغلان لحسابها في العراق.
ماذا فعلت الدبلوماسية المغربية «النشيطة» عندما طاردت قوات الأمن الإسبانية المهاجرين المغاربة في شوارع مورسيا ومقاهيها قبل شهر وطرحتهم أرضا وضربتهم أمام الملأ فقط لكي تتفقد هوياتهم. ماذا صنعت غير بيان تافه عبرت فيه عن قلقها من هذه التصرفات.
على وزارة الخارجية أن تفهم أنها ليست مجبرة على التصرف بسرية عندما يتعلق الأمر بقضية أصبحت قضية رأي عام. خصوصا وأن ميزانية وزارة الخارجية تخرج من جيوب دافعي الضرائب. ولذلك فعدم إصدار أي بيان أو بلاغ أو توضيح في هذه القضية يعبر عن ازدراء واضح للرأي العام الوطني. وزارة الخارجية ليست جهازا سريا يشتغل في الظلام حتى يخاف من إصدار البيانات. اللهم إذا كلفت الخارجية صحافة «المخابرات المغربية» بالنيابة عنها في شرح تقاليدها العريقة في العمل بسرية وفعالية للرأي العام.
دعونا نكون متفائلين أكثر من اللازم ولنتصور أن الدبلوماسية المغربية تحركت في السر لتسوية ملف عائلة المغربي الذي يتابع قضائيا ابن الرئيس الليبي في سويسرا. فماذا تراها ستفعل هذه الدبلوماسية من أجل مساندة هذا الخادم المغربي قضائيا ضد ابن الرئيس الليبي، هل ستعين له السفارة المغربية بسويسرا فريقا من المحامين للترافع لصالحه، أم هل ستضغط عليه من أجل سحب شكواه وطي الملف.
على العموم فالدرس الوحيد الذي يمكن أن نستخلصه من هذه الحكاية هو أن الفرق كبير بين الديمقراطية والتخلف. وعلى القضاء المغربي أن يتأمل جيدا حرص النيابة العامة السويسرية على استقلاليتها عن وزارة الخارجية، وحرصها على أن تأخذ هذه القضية مجراها الصحيح والعادل، حتى ولو كان المدعى عليه ابن رئيس دولة والمدعي مجرد خادم.
على العدالة المغربية أن تتأمل هذا الدرس جيدا وهي تغض الطرف عن متابعة الكولونيل التريكي الذي زور محضرا رسميا لكي يغطي على شخص داس مرتين حارسا بسيارته الجاكوار في فندق «أونفتريت بالاس» بالصخيرات، وكل ما استطاع أن يصنعه ضده صهره الجنرال حسني بنسليمان هو أنه أعفاه من مهمته وأرسله إلى بيته لكي يستريح.
المضحك في كل هذه الحكاية أن صحافتنا الرسمية وصحافة «المخابرات المغربية» أصبحوا يعطون الدروس في الديمقراطية والدبلوماسية لدولة مثل سويسرا. وكم أتمنى أن ترد سويسرا بنشر كشف بحسابات كل زعمائنا وجنرالاتنا ومسؤولينا الكبار وأرصدة زوجاتهم وأبنائهم في بنوكها السويسرية الأمينة. حتى نعرف كم هرب كل واحد منهم من ثروات هذا الوطن الذي يدعون خدمة مصالحه في السر والعلن.

0 التعليقات:

إرسال تعليق