الثلاثاء، 10 نوفمبر 2009

حلل وناقش

حلل وناقش

نشرت أغلب وسائل الإعلام أسماء ضحايا محرقة الدار البيضاء. بعض الجرائد لم تحترم حتى حرمة الأموات، وعرضت بالإضافة إلى أسماء الضحايا صور وجوههم التي أكلتها النيران وصور أطرافهم المتفحمة وأصابعهم التي سقط عنها اللحم. دون أدنى احترام لأخلاقيات المهنة أو لمشاعر عائلات الضحايا الذين شاهدوا صور بعض أقربائهم المتفحمين في بعض الجرائد حتى قبل أن يواروهم الثرى.
الجميع الآن يعرف أسماء الضحايا، لكن الجميع أيضا يريد أن يعرف أسماء المسؤولين عن هذه المحرقة، التي رد والي الدار البيضاء محمد القباج أسبابها إلى كثرة المستخدمين داخل المعمل، وليس إلى تهاون مصالح ولايته في مراقبة المنشآت الصناعية ومدى احترامها للقانون.
فكما للضحايا أسماء وملامح (أو ما تبقى منها)، فإن للمسؤولين عن هذه المحرقة أسماء وملامح.
إن الذي يجب أن يتحمل مسؤوليته الكاملة في ما وقع هو وزير الداخلية شكيب بنموسى. لماذا، لأنه الوصي المباشر على جهاز الوقاية المدنية. وبعده تأتي مسؤولية الجنرال اليعقوبي قائد الوقاية المدنية ثم الجنرال بن زيان، إضافة إلى القائد الجهوي للوقاية المدنية بالدار البيضاء، الكولونيل مصطفى الطويل.
لماذا تتحمل الوقاية المدنية الشق الأكبر من المسؤولية في محرقة الدار البيضاء. أولا لأنه بدون موافقة القيادة الجهوية للوقاية المدنية لا يمكن لأي مشروع صناعي أو سياحي يدخل ضمن المشاريع المسماة «ERP» أي «المؤسسات المستقبلة للمواطنين» أن يرى النور. فكل مشاريع المسارح أو قاعات السينما أو البنوك أو المستشفيات يتطلب فتحها أمام العموم الحصول على موافقة مكتب دراسات لديه تفويض من القيادة الجهوية للوقاية المدنية بدراسة كافة الطلبات التي ترد عليها من المستثمرين والمقاولين والمنعشين العقاريين. وقبل أن يعطي القائد الجهوي موافقته على المشروع، يخضعه للجنة تعمل بالمكتب التقني تتبع قانونيا للقيادة الجهوية للوقاية المدنية.
والمدهش في المعمل المحترق أن صاحبه استطاع الحصول على رخصة من القيادة الجهوية للوقاية المدنية رغم أنه لم يحترم في بنايته أي شرط من شروط السلامة المنصوص عليها في دفتر التحملات الذي يفرضه مكتب الدراسات المكلف بالمراقبة.
وحسب قوانين الوقاية المدنية فإنه يمنع إعطاء موافقتها لمنشأة صناعية يلجأ صاحبها إلى وضع شبابيك حديدية كإطارات للنوافذ، لأن هذه الشبابيك من شأنها أن تعيق وصول رجال الوقاية المدنية إلى الداخل في حالة نشوب حريق. وهو ما وقع بالفعل في معمل شركة «روزامور»، بحيث اضطر رجال الوقاية المدنية إلى هدم جزء من حائط المعمل بعد أن تعذر عليهم الدخول من النوافذ. وحسب شهادة أحد رجال المطافئ فقد كانوا يسمعون استغاثة العمال داخل المعمل بينما كانوا يهدمون الحائط، لكن الوقت الذي قضوه في الهدم كان كافيا لكي يحترق العمال جميعهم في الداخل.
أما الإخلال الثاني بالقانون فهو افتقار المؤسسة التي تشغل حوالي 150 عاملا وعاملة في نشاط تحفه المخاطر كصناعة الأفرشة التي تعتمد في تركيبتها على مواد مستخلصة من المنتجات البترولية القابلة للاشتعال السريع، فهو افتقارها إلى جهاز داخلي لمكافحة الحرائق. فمؤسسات من هذا القبيل يفرض عليها القانون أن تكون مقراتها مجهزة بنظام إنذار ضد الحرائق. وهو نفس النظام الذي يوجد في الأسواق الممتازة والمجمعات التجارية الكبرى، بحيث أن سحابة دخان صغيرة كافية لإطلاق إنذار صوتي يعقبه انطلاق رشاشات مائية تكون عادة مثبتة في السقف.
أضف إلى ذلك أن باب السطح يجب أن يكون مجهزا بما يسمى في لغة الوقاية المدنية بـ«العوارض المضادة للارتباك»، وأن يظل مفتوحا توقعا لأية عملية إخلاء مفاجئة للعمال.
كل هذه الشروط القانونية تم القفز عليها بجرة قلم، ومنحت للمصنع ورقة «الموافقة» السحرية من طرف القيادة الجهوية للوقاية المدنية. وحتى عندما جاء ممثل الجماعة وممثل الوقاية المدنية ومصالح الوكالة الحضرية المختصة في التعمير لكي يعاينوا البناية قبل إعطائها الضوء الأخضر لاستغلالها من طرف مالكها، لم يسجل أحد من هذه الهيئات الثلاث أي اعتراض على هذه المخالفات الخطيرة التي تهدد سلامة المستخدمين وحياتهم.
إلى أن وقعت الكارثة واحترق ما يزيد عن ستين مواطنا، فسمعنا أن وزارة الداخلية على لسان شكيب بنموسى تبشرنا بأنها ستفتح تحقيقا معمقا وشفافا بخصوص المحرقة، وأن لجنة وزارية سترى النور لتحديد المسؤوليات مكونة من وزارة الصحة ووزارة الداخلية ووزارة التشغيل ووزارة التجارة والصناعة ووزارة الصحة، وكذا السلطات المحلية.
كان على وزير الداخلية أن يتحمل مسؤوليته الكاملة في ما وقع وأن تكون له الجرأة لكي يعلن أمام الرأي العام أنه يتحمل نصيبه من المسؤولية في المحرقة هو وجميع الوزارات التي ستكون لجنته التي «سترى النور».
فلو قامت وزارة الصحة عبر مندوبيتها بتطبيق القانون عند زيارة مسؤولها للمصنع، وقررت إغلاقه لأنه لا يحترم المعايير الصحية المنصوص عليها في دفتر التحملات، لما وقع ما وقع.
ولو قامت وزارة الشغل عبر مندوبيتها بتطبيق القانون عند زيارة مفتشيها للمصنع، وقررت متابعة صاحبه بتهمة اعتقال العمال واستعبادهم مقابل أربعة دراهم ونصف للساعة، وعدم تطبيق أي بند من بنود قانون الشغل، لما وقع ما وقع.
ولو قام عامل المنطقة الحاج فوقار وسلطته المحلية التابعان لوزارة الداخلية بإرسال لجان المراقبة مرتين في السنة لتفقد أحوال المستخدمين وتطبيق معايير السلامة في أماكن العمل، كما ينص على ذلك القانون، لما وقع ما وقع.
هؤلاء هم المسؤولون الحقيقيون عن المحرقة يا سادة. الجرأة السياسية تفترض أن يتحملوا مسؤوليتهم بكل شجاعة، عوض أن يقدموا أنفسهم أمام الرأي العام كمنقذين سيشكلون لجنة وزارية لتحديد المسؤوليات. أية مسؤوليات سيحددون ما داموا هم المسؤولون في نهاية المطاف.
عندما فشل نيكولا ساركوزي في تطبيق سياسته الجديدة، جاء إلى التلفزيون واعتذر أمام الفرنسيين واعترف بجرأة بتحمله لمسؤوليته في الأزمة التي تعيشها فرنسا حاليا. أما عندنا فالاعتراف بالمسؤولية عند حدوث الأزمات لازال أمرا بعيد المنال. بل إن المسؤولين يسبقون الضحايا أحيانا في البكاء على مآسيهم،جريا على المثل المغربي الذي يقول «الموالين الميت صبرو والعزايا كفرو».
وعلى هامش هذه المحرقة البشعة سجلت بعض الملاحظات العابرة والتي قد تكون لها دلالات عميقة تفيد في فهم علاقة السلطة بالمواطنين.
خلال عملية إطفاء الحريق حضرت إلى مكان الكارثة ما يفوق خمسين سيارة، موزعة بين سيارات الأمن والقوات المساعدة وحافلات تحمل عناصر «البلير»، كلهم مجهزين بوسائل التدخل السريع، من أسلحة وقنابل مسيلة للدموع، وألبسة واقية من الحجارة والحرائق.
في مقابل هذا الجيش الأمني والعسكري، حضرت إلى عين المكان أربع سيارات إطفاء، أغلب خراطيم مياهها مثقوبة. وأغلب رجال المطافئ الذين استنفرتهم القيادة الجهوية للوقاية المدنية متدربون جاؤوا ليواجهوا أول حريق في حياتهم المهنية. وفي مقابل التجهيزات الأمنية التي جاءت سيارات الشرطة والتدخل السريع مجهزة بها لقمع أية حركة احتجاجية، جاء الكثير من رجال الإطفاء بدون خوذة واقية وبدون قارورة أكسجين. مما انتهى بخمسة منهم في مستعجلات الحي الحسني بسبب الاختناق.
أما الجنرال حسني بنسليمان فقد استنفر مروحية لكي تحلق فوق مكان الحريق، ليس لإنزال عناصر الإنقاذ فوق سطح المعمل المحترق، وإنما لكي يلتقط ركاب المروحية صورا جوية للمحرقة.
حلل وناقش.

0 التعليقات:

إرسال تعليق