الأربعاء، 18 نوفمبر 2009

مَامَاتْشْ غير خرجو مْصارنو

مَامَاتْشْ غير خرجو مْصارنو

بعد مرور نصف سنة على أحداث السبت الأسود بسيدي إفني يصدر أخيرا تقرير لجنة تقصي الحقائق التي أنشأها البرلمان. ومن خلال صفحاته الستين نستخلص أن الدولة بريئة من القتل والاغتصاب في هذه المدينة المنكوبة، وأن السكرتارية المحلية هي التي تتحمل مسؤولية إشعال فتيل المواجهات، وأن الدولة تتحمل مسؤولية تفريطها في فرض الحزم المطلوب وتحريك قوات الأمن في الوقت الملائم.
وكما يقول المغاربة «الخير ملي كايجي كايجي فدقة»، ولذلك عندما تحركت قوات الأمن بعد فوات الأوان لفرض «النظام» كان تحركها على شكل «دقة للنيف». ولذلك تحدث التقرير في باب تجاوزات الأمن عن ممارسات يمكن تصنيفها في باب الجرائم.
أشار التقرير، الذي أعدته لجنة يترأسها برلماني ينتمي إلى حزب الوزير الأول الذي يقود الحكومة، إلى أن التدخل الأمني أسفر عن مداهمات لعدة منازل وتكسير أبواب بعضها وبعثرة الأثاث وتكسير عدادات كهربائية لعدد من المنازل، كما تحدث عن إيقاف وممارسة العنف ضد عدد من الأشخاص ذكورا وإناثا، فضلا عن السب والشتم والإهانة في حق عدد كبير من المواطنين، بالإضافة إلى فقدان هواتف محمولة ومبالغ مالية وحلي أثناء المداهمات. ويشير التقرير أيضا إلى أن أربع نساء اعترفن بتجريدهن من ملابسهن في مفوضة الشرطة.
بعبارة أخرى فالتقرير يتهم الدولة بارتكاب جريمة استباحة بيوت المواطنين بالعنف والقوة، وبدون التوفر على ترخيص من طرف القضاء للقيام بذلك، وكأن المدينة في حالة حرب. كما يتهم قوات الأمن بارتكاب جريمة النهب والسرقة لممتلكات المواطنين، ويحدد نوعية المسروق. وبالإضافة إلى جريمة اقتحام مسكن الغير بدون موجب قانوني ونهب وسرقة ممتلكات هذا الغير، فالتقرير يتهم قوات الأمن بممارسة السب والشتم والإهانة في حق المواطنين. وقد كانت الصحافة أشارت في حينه إلى أن الألفاظ المستعملة من طرف قوات الأمن كانت جميعها تركز على نعت الباعمرانيين بالانفصاليين وأبناء «الصبليون». ولعل أخطر ما في التقرير هو إيراده لحالة أربع نساء اعترفن بتجريديهن من ملابسهن كاملة في مخفر الأمن من أجل استنطاقهن.
كثيرون سارعوا بعد صدور التقرير إلى القول بأنه يبرئ الدولة من مسؤولية ما وقع في سيدي إفني. وأنا أرى أنه جاء متزامنا مع احتفالات الدولة بالذكرى الستين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان لكي يؤكد كل ما قلناه وكتبناه حول خرق الدولة لأبسط حقوق الإنسان بمجرد ما يحتج هذا الإنسان عليها ويطالبها بحقوقه المشروعة.
من خلال التقرير نكتشف أن الدولة متورطة في اقتحام منازل الغير بالعنف، ومتورطة في نهب ممتلكات الغير بالعنف، ومتورطة في ممارسة التعذيب بشراسة ضد الموقوفين بالضرب، وممارسة التعذيب ضد النساء بتجريدهن من ملابسهن وضربهن في مناطقهن الحساسة.
وبعد كل هذا يريدون منا أن نفرح لأن الدولة لم تتورط في القتل والاغتصاب في سيدي إفني. وكأن التقرير يقول لكل الذين يسألون هل كان هناك قتلى فعلا في سيدي إفني «لا ماماتش غير خرجو مصارنو». وكأن تعرية النساء أمام الرجال المعتقلين و«تزريق» لحومهن بالعصي لا يعتبر قتلا لآدميتهن واغتصابا لكرامتهن وإنسانيتهن وحقهن في معاملة لائقة ببني البشر.
وكأن اقتحام بيوت المواطنين الآمنين بالقوة وتكسير أبوابها ونوافذها بهمجية ليس اغتصابا لحرمة المكان وانتهاكا لعرض أصحابه. وكأن نهب أموال الناس وسرقة حاجياتهم وتحطيم أثاث بيوتهم ليس اغتصابا للممتلكات التي يحميها القانون والشرع.
لو كنا في دولة ديمقراطية تحترم كرامة الإنسان وصدر تقرير عن لجنة تقص برلمانية يتهم قوات الأمن بتعرية أربع نساء في مخفر للأمن من أجل استنطاقهن، لأمر الوزير الأول بفتح تحقيق عاجل في هذه الفضيحة الأخلاقية والحقوقية من أجل توقيف ومحاسبة كل من يثبت تورطه في هذا الفعل المشين والحاط من الكرامة البشرية.
إن أول من يجب أن يطالب بفتح تحقيق في قضية هؤلاء النساء اللواتي تمت تعريتهن وتجريدهن من ثيابهن بالقوة هم الجمعيات النسائية التي تطالب اليوم بعضها بمنح المرأة الحق في المزيد من مقاعد البرلمان والجماعات المحلية، بينما هي في الواقع ليس لها الحق حتى في المحافظة على ملابسها الداخلية في مخفر الأمن بسيدي إفني.
والغريب في تقرير لجنة التقصي أنه يطالب بمتابعة كل من تثبت في حقه التجاوزات، مع أن الجميع رأى كيف أن الوحيدين الذين «ثبتت» في حقهم التجاوزات وتوبعوا وأرسلوا إلى السجن كانوا هم أعضاء السكرتارية، في الوقت الذي لم يتجرأ فيه أي وكيل للملك على تحريك المتابعة في حق أي رجل أمن أو «مخزني»، بالرغم من أطنان الشكايات والشواهد الطبية التي وضعها المواطنون الذين تعرضوا للتعذيب على أيدي هؤلاء الجلادين.
كان على التقرير أن يكون جديا وجريئا وألا يقف عند ويل للمصلين، ويطالب فقط بمتابعة من تثبت في حقه التجاوزات، دون تسميتهم أو الإشارة إلى رتبهم. فالذين أعطوا الأوامر لقوات الأمن وقوات التدخل السريع والقوات المساعدة لكي تحطم أبواب بيوت المواطنين وتعتدي عليهم أمام أهلهم وتقود نساءهم إلى المخافر وتعريهن لاستنطاقهن، ليسوا هم أولئك البوليس و«المخازنية» الذين اقترفوا هذه الجرائم، وإنما الجنرالات والمسؤولون الأمنيون. وإذا كان هناك من مسؤول يجب أن يمثل أمام القضاء لكي يجيب عما جاء في تقرير لجنة التقصي البرلمانية من اتهامات للأمن فهم هؤلاء الرؤوس الكبار، وليس صغار البوليس و«المخازنية». على افتراض أن الدولة ستفتح تحقيقا مع هؤلاء البوليس و«المخازنية» طبعا.
فالمغرب الذي رفع التحفظات عن كل أشكال التمييز ضد المرأة، يجب أن لا يخاف من رفع التحفظات عن اتفاقية محاربة الإفلات من العقاب ضد المتورطين في انتهاكات سيدي إفني، كيفما كانت رتبة المتهمين بهذه الانتهاكات..
يمكن أن نصدق تقرير لجنة التقصي الذي يقول أن الدولة لم تقتل ولم تغتصب أحدا في سيدي إفني. لكن هل بمستطاع هذا التقرير أن يجعلنا نقتنع بأن ما قامت به قوات الأمن عندما حطمت الأبواب ليس اغتصابا لبيوت المواطنين ولحقهم في الأمن، وأن ما اقترفوه من سرقات ونهب للممتلكات ليس اغتصابا للحق في الملكية، وأن ما قاموا به من تعذيب للرجال وتعرية للنساء ليس اغتصابا لكرامتهم.
قبل أشهر دار نقاش بين الحقوقيين على صفحات الجرائد حول ما يمكن أن نسمي به التحرشات التي تعرضت لها بعض النساء في سيدي إفني من طرف قوات الأمن. خصوصا عندما صرحت بعض الضحايا بأن بعض رجال الأمن كانوا يلمسون أطراف حساسة من أجسادهن بالعصي. بعضهم صنف هذه التحرشات ضمن مرادفات الاغتصاب وبعضهم صنفها ضمن مرادفات الشطط في استعمال السلطة لبعض رجال الأمن.
ومهما حاولنا «التعكار» لهذه الممارسات الهمجية، فإن تسميتها الحقيقية تظل هي «الحكرة». ومدينة سيدي لإفني تعرضت لأكبر «حكرة» في العهد الجديد أدت إلى انفلات الوضع وخروجه إلى العنف والعنف المضاد.
لقد رأى الجميع كيف تصرفت الدولة في اليونان بعد مقتل أحد المراهقين على يد رجل أمن. بعد اشتعال الشرارات الأولى للانتفاضة تم اعتقال القاتل وأحيل على القضاء، بدون انتظار لجنة لتقصي الحقائق أو غيرها. وهذا بالضبط ما كان يجب أن يحدث في سيدي إفني. كان يجب أن تحرك متابعات في حق المتورطين في تعذيب المواطنين وإهانتهم ونهب ممتلكاتهم. هكذا سيستعيد المواطنون ثقتهم في الدولة ومؤسساتها. أما أن يكتفي القضاء بإرسال أعضاء من السكرتارية المحلية إلى السجن، وتنقيل بعض رجال الأمن من سيدي إفني إلى مدن أخرى حرصا على سلامتهم، فهذا هو القتل الحقيقي الذي ارتكبته الدولة، وهو ليس قتلا للمواطنين ولكنه قتل للثقة في الدولة التي تحمي المواطن وتصون حقوقه وممتلكاته.
إن أول شيء يجب أن يطالب به البرلمانيون، إن بقي هناك برلمانيون، بعد مناقشة تقرير زملائهم، هو مطالبة الدولة بتعويض العائلات التي ضاعت أو نهبت وسرقت ممتلكاتها خلال مداهمات قوات الأمن لمنازلها. كما يجب عليهم أن يطالبوا الدولة بتقديم اعتذار للنساء الأربعة اللواتي تمت تعريتهن في مخفر الأمن ولجميع من ثبتت في حقهم جريمة تعذيب المواطنين وإهانة كرامتهم والتحقير من أصولهم.
إن هذا هو الاحتفال الحقيقي بالذكرى الستين للميثاق العالمي لحقوق الإنسان في المغرب. وإذا قامت الدولة بهذه الخطوة فإنها ستعيد الثقة للمواطن في دولته ومؤسساتها. أما غير ذلك، فمجرد طبقات متراكمة من «العكر الفاسي» على وجه المغرب لم تعد تنطلي حتى على «البراني» فبالأحرى أن تنطلي على «مالين البلاد».

0 التعليقات:

إرسال تعليق