الجمعة، 13 نوفمبر 2009

قانون الغاب

قانون الغاب

قبل أشهر قررت إحدى شركات التأمين العالمية التي لديها مكتب بالدار البيضاء أن تضع لائحة سوداء للمدن المغربية التي لن» تعتبها» مستقبلا فيها. والسبب هو أن هذه المدن تعيش محاكمها فوضى قضائية وتلاعبا بالملفات وبطئا في معالجتها، فقد وجدت الشركة أنها خلال تواجدها بتلك المدن تكبدت خسارة مالية بسبب تزوير ملفات التأمين جعلت آذان مراقبيها الماليين في الإدارة العامة بسويسرا تقف مستشعرة الخطر.
وهكذا فبعض الشركات العالمية المتواجدة بالمغرب، والتي تعودت في بلدانها على احترام القانون، تجد نفسها مضطرة إلى الحد من استثماراتها عبر تراب المملكة بسبب خوفها من تلاعب القضاء بالأحكام وجرجرة الملفات والارتشاء.
وشركة التأمين العالمية هذه ليست سوى مثال مصغر لشركات أخرى تخشى على رأسمالها وتدخل المغرب كالداخل إلى الغابة. غير أن بعضهم يجد في هذه الغابة الصيد الثمين، ويستغل انعدام الشفافية في الصفقات العمومية لتحقيق أرباح قياسية تستغرب لها الشركة الأم الموجودة في الخارج. ولعل الجميع يستغرب في إسبانيا كيف أن شركة «فاديسا» هبطت هذه الأيام بأربعة وثلاثين بالمائة «دقة وحدة» في بورصة مدريد ، بينما فرعها في المغرب، الذي تملك الضحى خمسين بالمائة فيه، يحقق أرباحا مرتفعة. والسبب واضح، فعندما باعت الدولة لشركة «فاديسا» أراضي بثمن رمزي، فلكي تبني فوقها مشاريع عقارية وسياحية، وعوض أن تلتزم «فاديسا» بدفتر التحملات الذي تعهدت به أمام الدولة خرقته وباعت الأراضي دون أن تكمل فوقها إنجاز المشاريع التي التزمت بها، ولمن باعت ذلك، للضحى طبعا.
وهكذا ذهبت الأرباح إلى أبناك نيويورك وضاعت الدولة في أراضيها التي باعتها بثمن بطاطا.
ومن غرائب الأمور أن بعض الشركات تعاني فروعها العالمية من ضائقة اقتصادية في مختلف ربوع العالم، إلا عندما يتعلق الأمر بفرع المغرب، فيمكن أن يكون، كما هو الحال بفرع فيفاندي المالك لأغلب أسهم اتصالات المغرب، أكثر الفروع دخلا في العالم على الإطلاق. صحيح إذن ما يقال من أن المغرب «كايعطي غير للبراني، أما حنا كايعطينا غير للظهر».
وكم كان مخطئا أنس الصفريوي رئيس «الضحى» عندما اشتكى لأحد الصحافيين من «هجومات» الصحافة عليه بسبب الأراضي التي فوتتها الدولة لشركته بدون مناقصة، وقال أنه لو كان في أمريكا لفتحوا له الأبواب، ولأنه فضل البقاء في المغرب فإن الحساد يتربصون به. ولا بد أن السيد أنس يجهل أنه لو كان في أمريكا لفتحوا له الأبواب فعلا، ولكن أبواب المحكمة الفدرالية تحديدا إذا ما قرأ أحد القضاة حرفا واحدا عن استفادته من امتيازات غير متوفرة لمنافسيه.
والواقع أن ما نسمعه من أحكام قضائية كل يوم ينجح في شيء واحد، وهو إعطاء صورة مخيفة عن المغرب. صورة بلاد قضاؤها يخضع لمنطق آخر غير منطق العدالة. كل محكمة يمكن أن تصدر في قضية واحدة أحكاما مختلفة. ولعل أخطر شيء وقع خلال السنين الأخيرة هو أن القضاء المغربي فقد مصداقيته ليس فقط على المستوى الوطني وإنما حتى على المستوى الدولي. وأصبح المغرب في تقارير المنظمات الاقتصادية العالمية مصنفا ضمن خانة البلدان التي ترتفع فيها نسبة الخطورة بالنسبة للمستثمرين الذين يبحثون عن بلدان ينمون فيها رؤوس أموالهم. فهم يقولون للمستثمرين الذين يفكرون في القدوم إلى المغرب «نتوما وزهركم، تقدرو تربحو لفلوس، تقدرو ترجعو طوال».
إن أخطر صورة يمكن أن تعطيها دولة ما عن قضائها هي صورة القضاء العاجز عن تطبيق القانون على الجميع بدون تمييز. وقضاؤنا المغربي لا يترك مناسبة تمر دون أن يؤكد للمراقبين أنه لا يستطيع أن يجبر الجميع على المثول أمامه.
ولنا فيما وقع في آسفي مؤخرا مثال صارخ على هذا العجز القضائي المزمن. فقد تم اعتقال ثلاث مغربيات رفقة إسرائيليين في بيت معد للدعارة. فيبدو أن هؤلاء اليهود جاؤوا إلى آسفي ليحيوا ليلة الهيلولة على طريقتهم، فانتهوا بإحياء ليلة هيلالة عوض هيلولة، فوجدوا أنفسهم في مخفر الأمن. وعوض أن يتابع الجميع في حالة تلبس أمام القضاء بتهمة الفساد، كما تنص على ذلك قوانين المملكة، تم إخلاء سبيل الإسرائيليين واكتفت المحكمة الموقرة بمتابعة المغربيات لوحدهن. وفي الوقت الذي تعجز فيه محاكمنا عن متابعة إسرائيليين جاؤوا لممارسة الفساد في بلادنا، يرى الجميع كيف تتابع محكمة في تل أبيب رئيس حكومة هؤلاء الإسرائيليين بتهم الفساد المالي.
ويبدو أن هناك جنسيات أجنبية لا يسري عليها القانون المغربي عندما تدخل تراب المملكة الشريفة. وقد رأينا كيف أطلقت محكمة في مراكش سراح سعوديين اعتقلوا بتهمة الفساد وأبقت على الفتيات المغربيات التعيسات، وحكمت عليهن بالسجن. في الوقت الذي اقتادت الشرطة المواطنين السعوديين إلى المطار ورحلتهم باتجاه بلدهم. ومثل هذا «الامتياز القضائي» تمتع به سعودي آخر في أكادير اتهمته زوجته المغربية بنقل فيروس السيدا إليها عمدا، فقررت المحكمة متابعته في حالة سراح، وأتاحت له فرصة مغادرة المملكة بتساهل من شرطة الجمارك.
ولعل مصدري هذه القرارات القضائية التي تضع بعض المواطنين في منأى عن المتابعة القضائية يجهلون أنهم يطعنون صورة المغرب في العمق. لأن هيبة الدولة هي قضاؤها وقوة أحكامه. وإذا كان قضاء دولة ما عاجزا عن جعل جميع من يخرقون القانون مجبرين على الوقوف أمامه والخضوع لأحكامه، فلسنا ندري عن أية هيبة نتحدث.
عندما تمرغ هيبة القضاء في التراب يسود لدى بعض الفراعنة شعور بالتسيب. ويعتقدون أنهم يعيشون في غابة يمكن أن يطحن فيها القوي الضعيف. وعندما نتحدث عن الطحن فليس من باب الاستعارة اللغوية، وإنما الطحن طحين الكامون. وهذا ما وقع لحارسين ليلة السبت الماضي في النادي الليلي التابع لفندق «أونفيتريت» بالصخيرات. فقد طحنهما أحد هؤلاء الفراعنة بسيارته «الجاغوار» عندما حاول الفرار بسرعة هربا من رجال الدرك الذين جاؤوا لتوقيفه بعد الفوضى التي أحدثها في الفندق. فمات أحدهم على الفور بينما يرقد الثاني بين الموت والحياة.
الإحساس بعجز القضاء عن ملاحقة الجميع وإجبار الكل على الامتثال لسلطته، هو ما يفتح شهية البعض على تقمص شخصية عنتر بن شداد العبسي، والاعتداء على الناس في الشارع العام وتهديدهم بإعادة «تربيتهم» بإرسالهم إلى السجن أو إلى مشرحة الموتى، كما قال حفيظ العلمي، رئيس الباطرونا، لأحد المواطنين في قلب الدار البيضاء قبل شهر. أو كما صنع مدير وكالة المغرب العربي للأنباء في قلب طنجة عندما احتكت سيارته بسيارة أحد المواطنين، أو كما صنع كولونيل في مراكش وهو يمسك بخناق أستاذ حرم ابنة سعادته من حقها الطبيعي في «النقلة».
وعوض أن تكون هذه الفضائح بانتظار وزير العدل أو وزير الداخلية أو الوزير المكلف بالدفاع على هيئة أسئلة ساخنة في البرلمان يجب أن يقدموا حولها إجابات للرأي العام، ماذا يصنع البرلمان يا ترى، إنه يجتمع لكي تصوت لجنة العدل بغرفته الثانية على إيقاف المتابعة القضائية ضد المستشار يوسف التازي، الذي «أخطأت» المحكمة في حقه عندما تابعته بالمشاركة في تبديد أموال عمومية.
والواقع أن الذي يجب أن يتابع في هذه القضية هو القاضي الذي أراد أن يطبق القانون وأمر بمتابعة سعادة المستشار يوسف التازي، لأنه اقترف جريمة المساواة بين المواطنين أمام القانون في بلاد لازالت بعض الأسماء العائلية تنعدم رائحتها في لوائح سجون المملكة. فالمحاكم والسجون في المغرب لديها وجوهها وأسماؤها المألوفة. وكما يقول المغاربة «الدنيا بلوجوه والآخرة بالزراوط».

0 التعليقات:

إرسال تعليق