الاثنين، 9 نوفمبر 2009

الفالطة بالكبوط

الفالطة بالكبوط

يتضح يوما عن يوم أن أكبر عائق أمام تقدم المغرب هو الإفلات من العقاب. تأملوا معي الأمثلة التالية لكي تفهوا أكثر.
منذ ما يزيد عن سنة ونحن ننبه وزارة الداخلية إلى أن عاملها في خنيفرة، المهندس أحمد شويحات الذي جلبه مزيان بلفقيه إلى عمالة خنيفرة بحكم انحداره من مسقط رأس المستشار الملكي، يتكبر عن استقبال المواطنين وممثليهم للاستماع إلى مشاكلهم. لكن لا أحد في وزارة الداخلية أعطانا أذنه. بل بالعكس، تغاضى وزير الداخلية عن أخطاء عامله المدلل، رغم مواكب جنازات الأطفال الذين قتلهم البرد والمرض الغامض في قرى أنفكو وتونفيت، والتي تتكرر كل سنة مع وصول موسم الثلج.
وقبل ثلاثة أشهر كتبت في هذا العمود حول مأساة أحد القضاة المتقاعدين الذين أمر عامل خنيفرة باستعمال القوة العمومية لإفراغه من بيته الوظيفي الذي ظل لسنوات يراسل وزارة المالية لكي تبيعه له، تماما كما فعلت مع ابن وزير العدل الراحل بوزوبع الذي وافق له وزير المالية السابق والعلو على تفويت قطعة أرضية بأغلى حي بالرباط بثمن بخس. وعوض أن يتلقى القاضي المتقاعد جوابا ايجابيا تلقى قرارا بإفراغ البيت الذي يوجد وسط المدينة ويسيل له لعاب أكثر من منعش عقاري.
وهكذا وجد القاضي المتقاعد أثاثه وحاجياته مرمية في الشارع، بأمر من العامل. ولم يكد يدور العام حتى وجد العامل نفسه مجبرا هو الآخر على إخراج أثاثه من سكنه الوظيفي لكي يحل به عامل آخر من أبناء المنطقة، يعول عليه الخنيفريون لكي يفتح مكتبه أمامهم ويكون قريبا منهم منصتا لمشاكلهم.
فقد نجح العامل شويحات في جلب غضب الملك عليه بعد زيارته الأخيرة لخنيفرة. فوجد أن المشاريع الخاصة بالتنمية البشرية لم تنفذ، والطريق إلى أنفكو لم تبدأ. وحتى العمال الذين اشتغلوا في الطريق التي سيمر منها الملك لم يتقاضوا أجورهم. والطامة الكبرى أن سعادة العامل عوض أن يخصص ميزانية المجلس الإقليمي لإنجاز مشاريع لصالح السكان، أخبر أعضاء المجلس أنه حول الميزانية لبناء قصر فاخر للملك. والكارثة أن خنيفرة في الأخير بقيت «لا ديدي لا حب الملوك»، فلا قصر ملكي فاخر تم تشييده، ولا مشاريع تنموية تم إطلاقها، ولا اعتمادات مالية بقيت في مكانها.
وبعد كل هذا التقصير الفادح في المسؤولية، يتم إعفاء العامل من مهامه وعزله دون أن يقدم للمحاكمة، حتى تعرف الدولة ودافعو الضرائب أين صرفت أموالهم، ولماذا تعثرت مشاريع التنمية في إقليم خنيفرة، وما هو نصيب العامل من المسؤولية في هذا الفشل والتسيب الذي طال المال العام.
المثال الثاني من القنيطرة، فقبل أربعة أشهر، أسالت عملية فرار الوزاني تاجر المخدرات الدولي الملقب بالنيني من سجن القنيطرة مدادا كثيرا. وتحدث الجميع عن عملية ارتشاء واسعة أغرقت إدارة السجن في دوامة من التحقيقات لم تسفر عن توقيف المدير، بل أطاحت برؤوس بعض الموظفين الصغار فقط.
وهكذا بقي المدير نفسه على رأس إدارة سجن القنيطرة، واستطاع السجين الفار أن يدخل إلى إسبانيا وأن يسخر في أحد تصريحاته من سجانيه الذين اشتراهم بماله.
ولن تفهم وزارة العدل أنها بإبقائها على نفس المدير الذي فر في عهده أكبر وأخطر مروج للمخدرات، تكون قد ارتكبت خطأ فادحا، إلا عندما نجح تسعة من أخطر سجناء السفلية الجهادية في الفرار عبر نفق مر من تحت مكتب المدير وانتهى في حديقته. آنذاك فهمت وزارة العدل أن توقيف المدير بات أمرا ضروريا. ولو أن وزارة العدل اتخذت الإجراءات العقابية الصارمة والضرورية ضد المدير بعد فرار تاجر المخدرات الشهير، ووضعت مكانه مديرا آخر، لفهم المدير الجديد الدرس وعرف أنه إذا فر من سجنه أحد المعتقلين فيجب عليه أن يستعد لترك مقعده لغيره. هكذا يتصرفون في الدول الديمقراطية، «الفالطة بالكبوط». وسياسة عدم الإفلات من العقاب هي الضامن الوحيد لاحترام القانون والحرص على تحمل المسؤولية بما يلزم من جدية ويقظة.
أما أن يجازى المخطئون بالتغاضي عن زلاتهم، وأحيانا بترقيتهم إلى مناصب أعلى جزاء لهم على كوارثهم، فهذا ما يشجع كل مسؤول على الاستهتار بالمسؤولية الملقاة على عاتقه.
ولعل ما يشجع بعض المسؤولين الأمنيين اليوم على إعادة ممارسات الماضي في حق المواطنين، من اعتقال تعسفي وتعذيب في مخافر الأمن وانتهاك لأعراض وكرامة المعتقلين، وسلخ المتظاهرين في الشوارع، هو أن الجلادين الذين سبقوهم لم يدفعوا ثمن جرائمهم التي ارتكبوها ضد المغاربة، ومنهم من لازال مصرا على البقاء في منصبه، مذكرا الجميع بالماضي فيما يشبه «قليان السم».
وإفلات هؤلاء الجلادين السابقين من العقاب هو أكبر تشجيع للجلادين اللاحقين على الاجتهاد في تقليدهم، وربما التفوق عليهم.
وربما يجب أن ننتظر زيارة ملكية أخرى إلى تطوان لكي يتم إعفاء والي الأمن هناك والذي كثر الحديث عن علاقته مع مسؤولين نافذين في النيابة العامة، والتي تجمد شكايات المواطنين ضد بعض رجال سعادة والي الأمن. وآخر مثال على هذه القدرة «التجميدية» شكاية مواطن تحرش به رجل أمن معروف بفرعنته في تطوان، لم يتورع عن محاولة حشو عصاه في مؤخرة مواطن وتهديده بالاغتصاب أمام الملأ. وهناك اليوم في تطوان عريضة وقعها أكثر من 300 مواطن يطالبون فيها السلطة بفتح تحقيق في هذه الجريمة ويعبرون عن استعدادهم لتقديم شهادتهم في المحكمة.
لو كان أمثال هذا الشرطي يعرفون أن استعمال عصيهم لإهانة كرامة المواطنين يمكن أن تكلفه وظيفته التي يأكل منها خبزه، لما تجرأ على القيام بهذا السلوك الذي لا يشرف جهازا يشرف على حماية أمن المواطنين وكرامتهم. لكن التساهل مع مقترفي مثل هذه السلوكيات هو الذي يشجع البعض على التمادي فيها. ويجب هنا أن لا ننسى ضحية سابقة لهواية حشو العصي في أجهزة المواطنين في مراكش قبل سنة، أدت إلى وفاة الضحية بسبب مضاعفات الاعتداء.
ولعل أكبر عملية إفلات من العقاب عرفها المغرب المعاصر هي إفلات مهندسي فضيحة النجاة التي تعتبر أكبر عملية نصب رسمية على ثلاثين ألف شاب مغربي. والفضيحة الكبرى هي أن المسؤول الأول الذي كان حينها وزيرا للشغل، استطاع أن يترقى في المناصب بعد هذه الفضيحة إلى أن أصبح وزيرا أول.
أما العقاب فلم يفلت منه الضحايا، خصوصا عندما ينزلون إلى ساحة البرلمان ليطالبوا بمحاسبة المسؤولين عن مأساتهم.
وليس ضحايا «نجاة» عباس الفاسي وحدهم من لا يفلتون من العقاب، بل كل من جاء إلى ساحة البرلمان يطالب بحقه في الشغل. وهذه المجزرة اليومية التي تحدث في قلب الرباط اكتشفها بالصدفة فؤاد عالي الهمة قبل يومين وهو في طريقه إلى البرلمان لحضور افتتاح الدورة الربيعية. واحتج فؤاد بشدة على قوات التدخل السريع الذين اختلطت في عصيهم دماء المعطلين وصحافي من قناة البي بي سي، وحتى المواطنين العابرين، وأمرهم بالتوقف عن الضرب. واقتحم جموع المحتجين وتفقد المغمى عليهم وأخذ ملفات مطالبهم ودخل البرلمان بعد أن وعدهم بالاجتماع مع من يمثلهم.
هذا «التدخل» الشجاع يتطلب وقفة مع رئيس فريق الأصالة والمعاصرة ومؤسس جمعية حركة لكل الديمقراطيين. أولا يجب تذكير السيد فؤاد عالي الهمة بأن «جدول الضرب» الذي يستظهره المعطلون عن ظهر قلب أمام البرلمان انطلق منذ أكثر من عشر سنوات. أي عندما كان السيد فؤاد وزيرا منتدبا في الداخلية. وكانت أوامر سلخ المعطلين تخرج من وزارة الداخلية، ولم يثبت أن فؤاد عالي الهمة عبر عن موقف معارض لهذه القرارات «التأديبية» في حق المعطلين، أو طالب بمحاكمة ومحاسبة هؤلاء الجلادين الجدد الذين يعطون الأوامر بسلخ دكاترة البلاد وأطرها. لذلك فاستغلاله لمأساة هؤلاء المعطلين اليوم عندما غادر وزارة الداخلية استغلال في غير محله.
ثانيا نريد أن نفهم بأية صفة سيحاور فؤاد عالي الهمة لجنة الحوار التي تمثل المعطلين، هل يمثل وزير الشغل أم يمثل الوزير الأول. وبأية قوة سحرية استطاع أن يقنعنا بقدرته على إيقاف آلة القمع التي تعمل يوميا في أجساد أبناء المغاربة، نحن الذين رأينا كيف حاول قبل أسبوع ثلاثة من ممثلي السكان في مجلس المدينة بالدار البيضاء مجرد التدخل للدفاع عن مواطن اعتقلوا سيارته بالصابو، فانتهوا جميعهم في مخفر الأمن في حالة اعتقال.
لو عوقب المسؤولون الأمنيون الذين يعطون الأوامر لسلخ المعطلين في الشارع بتهمة الشطط في استعمال السلطة لما كان فؤاد عالي الهمة مجبرا على استعمال حصانته البرلمانية لتوقيف «المسلسل الزرواطي» الذي انطلق عندما كان سعادته وزيرا منتدبا في الداخلية.
إن ما نحتاج إليه اليوم في المغرب هو الكف عن معاقبة الصغار فقط، وتوسيع دائرة العقوبات لكي تشمل القطط السمينة أيضا. أما قتل الميت والمشي في جنازته فقد أصبحت مسرحية مملة تبعث على القرف أكثر من شيء آخر.

0 التعليقات:

إرسال تعليق