الثلاثاء، 10 نوفمبر 2009

خدوش وخدوش

خدوش وخدوش

أخيرا «أفرجت» ولاية الأمن بتطوان عن تقرير الطبيب الشرعي حول موت المواطن أحمد الدواس يوم 15 أبريل الجاري، والذي خرج المئات من المشيعين وراء جنازته قبل أيام. يقول التقرير الذي وزعته وكالة المغرب العربي للأنباء أن المواطن أحمد توفي نتيجة «نزيف رئوي ناتج عن تسمم بعد ابتلاعه لكيس بلاستيكي يحتوي على كمية من المخدرات القوية، بعد أن ألقي عليه القبض في الشارع العام بالفنيدق».
لولاية الأمن بتطوان روايتها، وللشهود الذين عاينوا اللحظات الأخيرة التي سبقت وفاة جارهم أحمد رواية أخرى. وقد ضمنوها في مراسلة مصحوبة بتوقيعات12 شاهدا وجهوها لكل من المنظمة المغربية لحقوق الإنسان والجمعية المغربية لحقوق الإنسان بالرباط.
كان من الممكن أن يمر التقرير الطبي لولاية أمن تطوان، كعادة أغلب التقارير الطبية التي تأمر النيابة العامة بإجرائها، دون أن يثير الشكوك في صحة معطياته. لكن بعض التفاصيل الصغيرة التي أهملها التقرير تقود إلى الاعتقاد بأن وفاة المواطن أحمد الدواس ليست سوى الشجرة التي تخفي غابة تتشابك فيها أغصان المصالح بين عناصر فاسدة في الأمن والقضاء ومروجي المخدرات بتطوان.
تقول قصاصة وكالة الأنباء أن الضحية تم توقيفه من طرف الأمن في الشارع العام، بينما تؤكد عائلته ومعها الشهود أن عناصر من رجال الأمن طلبوا من الضحية مغادرة منزله والنزول عندهم. وبمجرد ما ألقوا القبض عليه انهال عليه أحدهم بقبضة مسدسه وأصابه في رأسه جهة الأذن (أخطر منطقة في الرأس) إصابة قوية أحدثت جرحا غائرا وتسبب له في نزيف حاد.
الغريب في الأمر أن التقرير الشرعي عندما يتحدث عن هذا الجرح الغائر، الذي نتوفر على صورة عنه، يصفه بالخدوش. أما والي الأمن فقد ذهب بعيدا في اجتماع أمني بولايته وقال بأنهم لم يمسوا شعرة واحدة في الضحية. وهذه التصريحات ليست جديدة على سعادة الوالي الذي يحاول بكل الوسائل التغطية على تجاوزات بعض رجاله. فقد قال عندما اندلعت فضيحة تهديد أحد رجاله لشاب بالاغتصاب وتحرش به بوضع عصاه في مؤخرته أمام الشهود، بأن هذه القصة مختلقة من أساسها مستشهدا ببيان حقيقة بعثه إلى إحدى الجرائد ونشرته يكذب فيه ما كتبته الجريدة من قبل حول الموضوع.
حسب زوجة الضحية فالشرطي الذي كان يحرس زوجها بعد نقله إلى مقر الأمن، اتصل بها هاتفيا وطالبها بمبلغ عشرة ملايين سنتيم مقابل إخلاء سبيل زوجها. وهذه المعلومة يمكن التأكد منها بالرجوع إلى لائحة المكالمات التي أجراها الشرطي من هاتفه، ولائحة المكالمات التي تلقتها زوجة الضحية على هاتفها. ولا أعتقد أن شركة الاتصالات إذا طالبتها النيابة العامة بمدها بهذه المعلومات ستتردد في ذلك، خصوصا وأن الأمر يتعلق باتهام رجل أمن بالابتزاز.
وعلى ذكر الابتزاز، يجب هنا أن نربط بين موت المواطن أحمد الدواس بين يدي رجال الأمن وبين اعتقال الشرطة القضائية في تطوان لشرطيين وتقديمهما أمام النيابة العامة بتهمة ابتزاز بعض المشتبه في ترويجهم للمخدرات. وحسب معلوماتنا فعدد رجال الأمن المتابعين في هذه الفضيحة الجديدة يقارب السبعة. وتقنية الابتزاز التي توصلت إليها الشرطة القضائية تقوم على اختلاق سيناريو اعتقال أحد المشتبه فيهم عبر استخدام فتاة لاستدراجه إلى أحد المركبات السياحية، وعندما يصل «الصيد» الثمين إلى مكان الفخ يتم اعتقاله واقتياده مصفد اليدين داخل سيارة الشرطة وتهديده بتقديمه في حالة اعتقال بتهمة ترويج المخدرات. وعندما ينضج السيناريو ويشعر المعتقل أنه أصبح تحت رحمة معتقليه تبدأ عملية الابتزاز، والتي تصل إلى عشرات الملايين. وتمنح للمعتقل فرصة الاتصال بمعارفه لإحضار المبلغ المطلوب. المشكلة أن رجلي الأمن اللذين اعتقلا ضحيتهما لابتزازه عوض أن تأتيهما «الأمانة» مع معارفه جاءهما هؤلاء المعارف بالسيوف والشواقير، وأذاقوهما حر «المضا»، وهربوا صديقهم والأصفاد في يديه.
فانتهى أحد رجال الأمن بدون أصفاده في المستشفى يتلقى الإسعافات الأولية تحت ذريعة أنه تعرض لاعتداء من طرف عصابة. لكن بحث الفرقة الوطنية التي حلت بتطوان بعد نشرنا لتفاصيل هذه القصة، قاد إلى وجود عصابة بالفعل، لكن داخل ولاية الأمن هذه المرة.
وعندما نضع شهادة زوجة المواطن أحمد الدواس التي اتهمت رجل الأمن بابتزازها ومطالبتها بعشرة ملايين لإطلاق سراح زوجها، في سياق الاعتقالات الأخيرة التي وقعت في صفوف رجال الأمن بتطوان، نستنتج أن ما تعرض له الضحية قد يكون بالفعل عملية ابتزاز لم يستطع منفذوها التحكم في تطوراتها. ولذلك تم تحوير مشاهد الاعتقال في هذا السيناريو، الذي انتقل بقدرة قادر من أمام بيت الضحية إلى الشارع العام.
ولذلك ربما اعتبر التقرير الطبي الجرح الغائر الذي يوجد تحت أذن الضحية والجرح الذي يوجد تحت حاجبه مجرد خدوش. مع أن الخدوش الحقيقية هي تلك التي أصبحت تعلو وجه ولاية الأمن في تطوان. ولعل طلب إعادة تشريح جثة الضحية من طرف هيئة طبية غير رسمية، وهو الطلب الذي تفكر فيه المنظمات الحقوقية وعائلة الضحية، سيكون هو الفيصل للحسم في تلك الضربات الموجعة التي تلقاها أحمد لحظات قبل وفاته، وهل هي ضربات قاتلة أم مجرد خدوش كما يقول تقرير الأطباء الشرعيين الذين عينتهم النيابة العامة من المستشفى المدني الذي يقوده مندوب وزارة الصحة عبد الكريم مزيان بلفقيه، أخ المستشار الملكي مزيان بلفقيه.
إن هذا الفيلم الرديء الذي يتابعه كل التطوانيين ومعهم بقية الشعب المغربي أصبح مملا بالفعل. خصوصا وأن الطنجاويين تابعوا نسخة منه قبل أشهر عندما تم تفكيك عصابة مكونة من 12 عنصرا من رجال الأمن تقوم بابتزاز تجار المخدرات بالطريقة نفسها. لم ينكشف أمرها إلا عندما اعتقلوا أحد المواطنين في طنجة وطلبوا منه ثمانين مليون سنتيم مقابل تحريره، وعندما لاحظوا تمنعه اقتادوه في سيارة الأمن معصب العينين إلى أن أوصلوه إلى مكان مجهول وخيروه بين تقديم الفدية أو إدخاله إلى معتقل تمارة السري وإخضاعه لأبشع أنواع التعذيب وحشر ملفه ضمن ملفات الإرهاب. وهنا عندما سمع المختطف كلمة الإرهاب أذعن لرغبة المختطفين واتصل بأحد أفراد عائلته وطلب منهم إحضار المبلغ. لكن أحد أفراد العائلة والذي كانت له علاقة قرابة مع مسؤول في ولاية الأمن استفسر هذا الأخير حول وجود تعليمات أمنية باعتقال قريبه، فأخبره هذا الأخير بأنه لم يتلق أي أمر باعتقال أو متابعة المعني بالأمر. وهنا بدأت تنهار أولى الأحجار في حائط هذه العصابة الأمنية التي تخصصت في ابتزاز المشتبه في متاجرتهم بالمخدرات، والتي انتهت باعتقال أكثر من 12 رجل وموظف أمن بولاية طنجة.
ويبدو أن إدارة الشرقي أضريس مطالبة اليوم بفتح تحقيق شامل ومعمق حول ما وقع في تطوان مؤخرا. حتى لا تضطر عائلة الضحية أحمد الدواس إلى اللجوء إلى طلب المساعدة القضائية من إسبانيا كما هددت بذلك في حالة طي الملف في المغرب.
يمكن أن نفهم عجز الأمن عن التصدي للعصابات التي أصبحت تتكاثر مثل الفطر في كل المدن المغربية، بحكم قلة الوسائل الممنوحة لرجال الأمن. لكن أن نرى بين وقت وآخر كيف تتشكل عصابات من بعض رجال الأمن أنفسهم لابتزاز المواطنين تحت تهديد السلاح، فهذا ما يهدد السلم والأمن الاجتماعي للمواطنين.
لقد كنا نتمنى أن نرى المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان يتبنى الدفاع عن مثل هذه القضايا، بحكم أنها تدخل ضمن الدفاع عن الحق المقدس في الحياة، لكن يبدو أن رئيسه أحمد حرزني متفرغ هذه الأيام كلية لإعطاء الدروس للصحافة المستقلة حول أخلاقيات المهنة، والدفاع عن المنجزات الحقوقية للحكومة في المحافل الدولية. تلك المحافل التي لا يتعب هذه الأيام من مدح مواقف دولها المدافعة عن حصيلة المغرب الحقوقية. وأنا أتحداه أن يقدم لنا دولة ديمقراطية واحدة من تلك الدول التي يتغنى بقصائد غزلها حول المغرب، يتم فيها اعتقال رجال أمن بتهمة الابتزاز دون أن نسمع عن وزير الداخلية يقدم استقالته. عندنا تحدث كل هذه الفضائح ولا يقدم استقالته حتى والي الأمن، بل أكثر من ذلك، يشاهد صور ضحية رجاله في الجرائد بجروح غائرة في الرأس ويملك الشجاعة لكي يقول بأنهم لم يمسوا شعرة واحدة من الضحية.
لذلك على حرزني أن يغير اسم المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، لكي يصبح المجلس الاستشاري لحقوق الحكومة.

0 التعليقات:

إرسال تعليق