الجمعة، 13 نوفمبر 2009

الشمس والغربال

الشمس والغربال

خصصت مجلة «ماريان» الفرنسية عددها 586 لموضوع مهم جدا حول المال والسياسة والصحافة والأخلاق، وكتب «جون فرانسوا خان» مقالا مفصلا بعنوان «عندما يشتري المال الإعلام»، شرح فيه كيف أن أغلب الصحف والمجلات والقنوات التلفزيونية الفرنسية هي في ملك إمبراطوريات مالية تتحكم في المعلومات والأخبار التي تنشرها وسائل الإعلام التي وضعوا أسهمها، ومعها الصحافيون، في جيوبهم.
وهكذا فمجموعات مالية مثل «داسو» و«لاغاردير» و«أرنو» و«بولوري» و«بينول» يتقاسمون جرائد مثل «لوموند» و«لوفيغارو» و«ليزيكو» وجرائد منتصف النهار وجرائد الشرق. وما يجمع بين هذه الامبراطوريات المالية الفرنسية هو كونها اصطفت وراء الرئيس الفرنسي «ساركوزي» خلال حملته الانتخابية. وكانت حربهم الإعلامية إلى جانب المرشح «ساركوزي» شرسة، خصوصا ضد منافسته «سيغولين روايال» التي حملت عليها صحافة الرئيس بقسوة واقتحمت عليها بوقاحة غرفة نومها وعبثت في دولاب ملابسها الداخلية.
السياسيون ورجال الأعمال يعرفون خطورة الإعلام أكثر من غيرهم، ولذلك يسعون دائما لفتح دفتر شيكاتهم المنفوخ لكي يكون هذا الإعلام، خصوصا الأكثر تأثيرا وانتشارا، عند أقدامهم. ولذلك نرى كيف تتحول بعض المقاولات الصحافية إلى شركات عملاقة لها محطاتها الإذاعية ومنشوراتها المختلفة ومطابعها، من خدمة القارئ عبر مده برؤوس الأقلام، إلى خدمة رجال الأعمال مقابل رؤوس الأموال.
عندما طالب أكثر من ثمانين نائبا في البرلمان عبر لائحة تحمل توقيعاتهم بإنشاء لجنة لتقصي الحقائق في الأراضي التي تم تفويتها لمجموعة الضحى، كتبت نادية صلاح رئيسة تحرير جريدة «ليكونوميست»، الجريدة الأكثر مقروئية عند الأطر حسب دراسة مهمة نشرتها «لافي إكونوميك»، أن خضوع عباس الفاسي لمطلب تأسيس هذه اللجنة سيكون فاجعة.
هذه ليست أول مرة تقف فيها نادية صلاح إلى جانب الحكومة، فقد سبق لها أن وقفت معها عندما كان السعيدي وزيرا للاقتصاد والخوصصة، وهاجمت ميلود الشعبي عندما رفع دعوى قضائية ضد الوزير يتهمه فيها بالقذف في حوار أجرته معه «ليكونوميست». وعندما أحضر السعيدي شهوده إلى المحكمة، شهدوا ضده، ومنهم العمراني والي الرباط الذي شهد لصالح الشعبي.
ورغم ذلك انتهت قضية الشعبي ضد وزير الاقتصاد بحفظها في الرف. واستمر السعيدي في بيع ممتلكات الدولة، وباع «لاسامير» بثمن بخس، وعندما خرج من الحكومة حصل على منصب مدير «لاسمير»، وبعدها أسس شركته الخاصة في المحاسبة المالية، وهو الآن يدير معاملات مجموعة الضحى المالية ككوميسير حسابات.
لماذا وقفت نادية صلاح إلى جانب السعيدي، ببساطة لأن وزير الاقتصاد والخوصصة كان مساهما في رأسمال الشركة المصدرة للجريدة التي ترأس تحريرها نادية صلاح، إلى جانب مجموعة «أونا» وبعض البنكيين ورجال الأعمال الآخرين.
ولا بد أن الزميل خالد الجامعي يتذكر أيام نادية صلاح الأولى في الصحافة عندما جاءت إلى مكتبه بجريدة «لوبنيون» تطلب عملا، فكلفها بإعداد صفحة اقتصادية أسبوعية. ومنذ ذلك الوقت ظهرت أولى مقالاتها موقعة باسمها المستعار «نادية صلاح»، عوض اسمها البلجيكي الحقيقي.
وقد كانت الصحافية المتدربة تشتغل على صفحتها الأسبوعية انطلاقا من مكتب صغير في وزارة المالية إلى جانب مكتب وزير الاقتصاد الذي كان من المعارضة. وعندما كانت جريدتا «العلم» و«لوبنيون» الاستقلاليتان تكتبان مقالات نارية عن الظرفية الاقتصادية الصعبة والمعالجة الحكومية المتعثرة، كانت صفحة نادية صلاح الاقتصادية الأسبوعية تعطي لقارئها انطباعا بأن الاقتصاد المغربي بين أيدي أمينة.
وهذا طبعا انفصام في الشخصية لا يمكن أن تعثر له على مثيل إلا في صحافة حزب الاستقلال.
إذا كنا نعرف أن وقفة «ليكونوميست» إلى جانب السعيدي وزير الاقتصاد والخوصصة كانت بفضل أسهمه في الجريدة، فكيف نفسر وقفة «ليكونوميست» إلى جانب أنس الصفريوي ومجموعته العقارية. الجواب يمكن أن نعثر عليه في ركن صغير من أحد الأعداد الأخيرة لمجلة «لوجورنال»، حيث نقرأ عن «احتمال» شراء الصفريوي مدير الضحى لأسهم في شركة «إكوميديا» التي تملك «ليكونوميست» و«الصباح» و«راديو أطلنتيك». إلى حدود اليوم لم يصدر عن «إكوميديا» أو مجموعة الضحى ما يكذب هذا الخبر. مما يعني أنه «قد» يكون صحيحا.
واضح أن الصفريوي، إذا ما صدق خبر «لوجورنال»، يبحث عن قلعة إعلامية يتحصن بها ضد «الغزوات» التي يتعرض لها هذه الأيام. وهذا عمل مشروع في حذ ذاته. فرأس المال جبان بطبعه ويبحث دائما عن خندق يحتمي داخله من القصف الذي يمكن أن يأتي من الأماكن التي لم يتوقعها قط.
ولعل ما شجع الصفريوي على استثمار أمواله في الإعلام، هو رؤيته لعدوه اللدود ميلود الشعبي يشتري أسبوعية «الحياة» لكي يحولها قريبا إلى يومية.
ورؤيته لعزيز أخنوش وزير الفلاحة والصيد البحري، وراء مجموعة «كراكتير» التي تصدر «لافي إكونوميك» الاقتصادية المتخصصة ومجلات نسائية بالفرنسية والعربية. ووسط هذا «السباق نحو التسلح»، نعثر على كاتب الدولة في الداخلية السابق فؤاد علي الهمة، وهو يستعد لإصدار جرائده الخاصة. كما نعثر على رأسماليين وبنكيين كبار يستعدون لإطلاق قنواتهم التلفزيونية وإذاعاتهم الخاصة.
والواقع أن «قضية الضحى» شكلت ترمومترا حقيقيا لقياس درجة حرارة الجسم الصحافي المغربي. وبعيدا عن أي سوداوية أستطيع أن أقول بأن مؤشر الترمومتر يخبرنا بأن هذا الجسد معتل ومصاب باضطرابات مزمنة في جهاز مناعته، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالمناعة ضد مقايضة المال مقابل المعلومة.
هناك صحف ومجلات قامت بواجبها وتكلمت حول هذه القضية التي يمكن أن تتحول إلى فضيحة وطنية، وهناك من فضل عدم المغامرة برأسه وضرب صفحا عن الحديث في الموضوع من أصله، مثل السلهامي مدير «ماروك إبدو» الذي رفض نشر حوار مع الشعبي أجراه معه أحد صحافييه، بحجة أنه لا يريد الدخول في صراع مع أي أحد. وهناك من أخذ على عاتقه تخصيص صفحات مجلته أو جريدته للدفاع عن الصفريوي ومجموعته، مقابل تزيين صفحات هذا الدفاع بإشهارات ملونة لمشاريع الضحى وعقاراتها في أكادير ومراكش وتمارة وغيرها من المدن.
نحن في «المساء» فضلنا أن نمتنع عن تجديد عقدنا الإشهاري السنوي مع «الشعبي للإسكان»، في الوقت الذي يصعب أن تعثر فيه اليوم على جريدة يومية أو أسبوعية أو مجلة لا يربطها عقد إشهاري سنوي مع مجموعة الشعبي. حتى تلك التي لا تبيع شهريا في المغرب كله أكثر مما تبيعه «المساء» يوميا في مدينة صغيرة نائية.
أكثر من ذلك، عندما قررنا أن نرمي حجرا في البركة الآسنة بسبقنا لنشر «ملف الضحى»، أوقفنا عقدنا الإشهاري السنوي مع «الضحى»، مع أننا، ربما، الوحيدون الذين لديهم عقد سنوي إشهاري مع «الضحى». وطيلة نشرنا للملف لم ننشر إشهارا واحدا لا لمجموعة الشعبي ولا لمجموعة الضحى. حتى لا تختلط صفحات الجريدة على القارئ ويمزج بين المقال الصحافي والمقال الإشهاري. وخلال هذا الوقت أرسلنا رسالة إلى رئيس اتحاد مقاولات المغرب، بما أن مقاولتنا التي تشغل أكثر من 150 فردا عضو في هذا الاتحاد، نطلب منه توضيحات بخصوص عدد من المؤسسات العمومية والخاصة تقاطعنا إشهاريا، وإلى حدود اليوم لا زلنا ننتظر الجواب.
وعندما كنا منشغلين باستجواب كل الأطراف التي يرد ذكرها في «ملف الضحى»، توصلنا بدعوة من مسؤولين كبار في المجموعة العقارية، بوساطة من صديق سابق مشترك بيننا. وكان العرض هو أن تقوي المجموعة من شراكتها مع «المساء»، مع إمكانية أن ترقى هذه الشراكة إلى مستوى الاستشارة الإعلامية لصالح «الضحى». وأن تفتح المؤسسات التي تقاطعنا صنبور الإشهار، وطبعا هذا العرض ليس مجانيا، بل بالمقابل. فقط يجب علينا أن نحدد السعر. والمطلوب بالمقابل هو الإعراض عن نشر أي شيء حول «ملف الضحى» في «المساء». يعني ببساطة أن نقايض رؤوس الأقلام برؤوس الأموال.
صحيح أننا في مجموعة «مساء ميديا» نبيع أكثر من الآخرين، لكننا لا نشترى. وهذا هو الفرق. ولذلك رفضنا التستر على هذا الملف الخطير، ونشرناه على حلقات، وتبعتنا الجرائد والمجلات الأخرى، كل حسب خطه التحريري. وقامت زوبعة في فنجان البرلمان، وعقد جطو الوزير الأول السابق ندوة صحافية يبرر فيها الظروف التي تمت فيها عملية تفويت الأراضي للضحى، وخرج كبير الباطرونات حفيظ العلمي يهاجم الشعبي في القناة الثانية، وتبعه وزير الإسكان حجيرة في القناة الأولى يلوك الكلام نفسه. ورد عباس الوزير الأول الحكاية كلها إلى صراع مصالح بين مليارديرين متنافسين، فيما وصف وزير المالية موقف الشعبي بسلوك عصابات المافيا.
أما شباط، عمدة فاس الذي تبرع على الضحى بهكتارات من أجود أراضي الدولة في وسط فاس، فلم يجد ما يتهمني به شخصيا للدفاع عن نفسه سوى مقال كتبه له أحد خدمه في جريدته «غربال القرويين» يصفني فيه بكوني مجرد جدي في قطيع الشعبي، وأنني أتسلم راتبي من ولي نعمتي ثم أنشر ما يوحى به إلي بدون حياء. قبل أن يضيف بنبرة تهديدية مبطنة «إن للحرية معالم وللنقد حدودا، وإذا ما تم تكسير هذه المعالم وتجاوز تلك الحدود فإن المسألة تتطلب أمورا أخرى قد لا تكون في صالح طرف من الأطراف..».
أن يصفني شباط بالجدي، فهذا ما يدخل في صميم تربيته وأخلاقه ومستواه. وأنا لن أنزل إلى هذا المستوى المنحط لكي أبحث له عن وجه الحيوان المناسب الذي تميل إليه تقاسيم وجهه لكي أنعته به. فالله تعالى خلقنا على أحسن صورة، وليس من ديننا تشبيه بني آدم بالحيوان، حتى ولو كان بعضنا يستحيي الحيوان من حمل وجهه. لكن أن يهددني شباط باللجوء إلى أمور أخرى قد لا تكون في صالحي، فهذا ما يجعلني أحمله مسؤولية كلامه أمام وزير الداخلية ووزير الاتصال، خصوصا وأنني تعرضت قبل أشهر لاعتداء همجي كاد يكلفني حياتي لم تصل بعد مصالح الأمن إلى الواقفين وراءه.
إنك تستطيع أن تصدر جريدة اسمها «غربال القرويين» للدفاع عن الباطل وشتم من ينتقدونك وتهديدهم، لكنك حتما لن تستطيع أن تخفي الشمس بالغربال. فشمس الحقيقة تظهر دائما عندما تنقشع الغيوم الداكنة.

0 التعليقات:

إرسال تعليق