الجمعة، 13 نوفمبر 2009

الدرس الإسباني

الدرس الإسباني

في الوقت الذي تشكو فيه المدن السياحية في المغرب من نزول نسبة ليالي المبيت، وينش فيه الكثير من أصحاب الفنادق الدبان في أكادير ومراكش، لم يجد أحد المسؤولين في جهاز المخابرات المغربية من شيء آخر يصنعه مع بداية موسم العطلة الصيفية وفترة الذروة بالنسبة للسياحة المغربية، سوى أن يعلن عبر وكالة المغرب العربي للأنباء عن تفكيك حوالي ثلاثين خلية إرهابية في المغرب كانت تستعد هذا الصيف لشن هجمات إرهابية على مركبات ومواقع سياحية.
عندما سمعت الخبر قلت في نفسي أي سائح مجنون سيفكر في القدوم لقضاء عطلته في المغرب عندما سيسمع مثل هذه الأخبار المرعبة. وهل يفكر الذين اختاروا هذا التوقيت «الصيفي» لنشر هذا الخبر المخيف في مستقبل صناعة المغرب الوحيدة التي هي السياحة.
خلال هذا الوقت الذي تلعب فيه المخابرات لعبة تحويل المغرب إلى «بوعو» يظهر للأجانب من الخارج كما لو كان مصنعا لإنتاج الخلايا الإرهابية التي لا تفكر سوى في تفجير الفنادق والمركبات السياحية، تنشغل مدينة واحدة في إسبانيا اسمها «ساراغوسا» تصل فيها درجات الحرارة صيفا إلى أكثر من أربعين درجة باحتضان معرض للماء سيدوم أربعة أشهر من المنتظر أن يستقبل أكثر من ثمانية ملايين سائح.
المغرب الذي يعتبر دولة لديها قرون طويلة من التاريخ تسعى وزارة السياحة فيه جاهدة منذ سنوات إلى تحقيق رؤية عشرة ملايين سائح في أفق 2010، بينما مجلس مدينة إسبانية واحدة قادر على تنظيم واحتضان معرض في أربعة أشهر سيجذب أكثر من ثمانية ملايين سائح إلى المدينة. هل هناك درس في السياحة أكبر من هذا.
وما على الذين يرمون الملايير من النوافذ بسبب مهرجانات غنائية وفنية لا تعود على المدن التي تحتضنها بأية تنمية اقتصادية، عدا الأزبال وفواتير الكهرباء التي تتركها الشركات المنظمة لمجالس المدن لكي يدفعوها من أموال دافعي الضرائب كما يحدث في مهرجان الصويرة، سوى أن يتأملوا فكرة هذا المعرض الذي يدور حول موضوع الماء. فربما يقتنعون بأن إنشاء معرض حول فكرة ناجحة أحسن ألف مرة من تبديد الملايير على مغنيات الدرجة الثالثة. وأمامهم مدينة «ساراغوسا» التي من المستحيل الآن أن تعثر على سرير واحد فارغ في كل فنادقها، كما أن ثلاثة ملايين تذكرة لدخول المعرض بيعت حتى قبل أن يفتح أبوابه.
وفي الوقت الذي تعتذر فيه موظفات الاستقبال في فنادق «ساراغوسا» بأدب للسياح الراغبين في قضاء عطلتهم بالمدينة من أجل زيارة معرض الماء، بسبب عدم وجود أسرة فارغة، تضع موظفات الاستقبال أياديهن على خدودهن بانتظار أن يطل سائح جديد في أكادير ومراكش. وفي مراكش وحدها نزلت نسبة الامتلاء في فنادقها من 69 بالمائة إلى 63 بالمائة لشهر ماي وحده. هكذا فقدنا في مراكش وحدها نسبة 16 بالمائة من السوق السياحي الفرنسي، و18 بالمائة من السوق البلجيكي، و13 بالمائة من السوق البريطاني، و17 بالمائة من السوق الإيطالي.
يجب أن تكون لوزارة السياحة الجرأة لكي تعترف بأن سياحتنا تعاني من أمراض مزمنة يجب الكشف عنها وعلاجها قبل أن تجهز على الجسم السياحي بأكمله. فالذين يعتقدون أن السياحة محتاجة فقط لكي تنجح إلى الفنادق المصنفة والأسرة والمسابح وملاعب الغولف والرحلات الجوية البخسة، واهمون جدا.
في حديث لي مؤخرا مع مدير إحدى المؤسسات الطبية اعترف لي بأنه استطاع أن يقنع بمجهوده الخاص مدير شركة جوية عملاقة بالقدوم إلى المغرب من أجل صفقة ضخمة، بعد أن كاد هذا المدير الذي يساوي وزنه ملايير الدولارات أن يذهب بصفقته إلى تونس. والسبب هو أن المدير يعاني من قصور كلوي مزمن، ويجب أن يجري تصفية للدم كل يومين. وبما أن مراكش بكاملها ليست فيها مؤسسات طبية تليق بمكانة الضيف، فقد تدبر صاحبنا المغربي الأمر لكي يجري تصفية للكلي في إحدى العيادات الخاصة. وهكذا قبل مدير شركة الطيران القدوم إلى مراكش وربح المغرب الصفقة.
الدرس الذي نستخلصه من هذه الحكاية هو أن السياحة الحقيقية تتطلب بالإضافة إلى التفكير في إيواء السياح وإطعامهم توفير بنية تحية للخدمات الصحية. فالسائح يمكن أن يمرض أو أن يصاب في حادثة سير كما يحدث دائما في المغرب. فهل سنبقى دائما كلما وقعت حادثة سير في نواحي مراكش نسخر مروحيات الدرك لحمل الجرحى إلى مستشفيات المدن المجاورة لتلقي العلاج.
لعل الجميع يذكر كيف كان المغرب سيفقد ميزانية تصوير أحد أفلام «براد بيت» بسبب عدم توفر أية مصحة خاصة في المغرب على مكان يمكن أن تنزل فوقه طائرة مروحية للمستعجلات. ولولا تحويل سطح إحدى مصحات الدار البيضاء إلى أرضية نزول في آخر لحظة لذهب منتج الفيلم الضخم إلى بلد آخر ليصور لقطته.
إنهم يفكرون في بناء الفنادق والمركبات السياحية وملاعب الغولف، كما لو أن السائح سيأتي وسيبقى سجين هذه الفنادق والمركبات. وهناك مكانان في المغرب إذا قدر الله وزارهما السائح فإنه يتخذ فورا قرار مغادرة المغرب وعدم العودة إليه مطلقا. المستعجلات والكوميسارية. وفي هذين المكانين يظهر للسائح الوجه الحقيقي والمخيف للبلد الذي يوجد في ضيافته. ففي المستعجلات يفهمون أن الروح في المغرب لا تساوي فرنك، وحتى الدماء التي كانوا يعطونها للجرحى مجانا أصبحت اليوم بالمقابل. وإذا لم يكن معك مال تشتري به الدم فيمكنك أن تنزف في قاعة الانتظار حتى «تخوا من الدم على خاطر خاطرك».
أما مراكز الأمن فمن بابها الرئيسي «تشدك الخلعة». خصوصا عندما يخامرك شك في كونك أخطأت العنوان ودخلت إلى خربة من الخرب المهجورة.
ولهذا السبب فتحت الإدارة العامة للأمن مقرات خاصة بالسياح، محاطة بالزجاج وفيها مكيف هوائي وحاسوب وهاتف. ومع ذلك لازال كثير من السياح تحت تأثير الصدمة يقصدون أول مقر للأمن عندما يتعرضون للسرقة، وهناك ينسون «بزاطيمهم» التي ضاعت منهم ويفتحون أفواههم مندهشين من منظر رجل الأمن العرقان الذي يلبس كم في عز الصيف، وهو يضرب بأصابعه على آلة كاتبة «تعقل على جد النمل» لكي يكتب شكايتهم. وأول شيء يستغرب له السياح في مراكز الأمن هو اتساخ الحيطان وانعدام كراسي الانتظار وانعدام وسائل العمل، وإن وجدت فإن أغلبها يليق بمتحف للآلات النادرة وليس بإدارة.
أحد رجال الأمن في الدار البيضاء أجابني عندما سألته لماذا لا يشبه كرسي عندهم أخاه الكرسي، بأن ما أراه من مكاتب ودواليب ليس سوى هبة تبرع بها أحد المواطنين عندما زارهم واكتشف أن وضعهم يؤهلهم لكي يعلنوا إدارتهم إدارة منكوبة. وعميد آخر للأمن بالدائرة الأمنية للحي الحسني قال لأحد زملائنا عندما دخل مكتبه ليستخرج بطاقته الوطنية الجديدة مرحبا بك، قبل أن يكتشف أنه لا يتوفر في مكتبه على كرسي للضيوف، فاعتذر بخجل. واشتكى من ضيق المكان الذي تسبب في إصابة ثلاثة من موظفاته بالإغماء أثناء العمل.
التفكير في مستقبل السياحة بالمغرب هو التفكير في تطوير مفهوم الخدمة. سواء كانت طبية أو أمنية أو اجتماعية. والكارثة أن مفهوم «الخدمة» يوجد على آخر سلم أولويات الكثير من أرباب الفنادق والمطاعم والمؤسسات السياحية. وهناك من لازال يعتقد في المغرب أن وضع أكلة في لائحة الطعام شيء والأكلة كما سيقدمها للزبون شيء آخر. وعندما تطلب مثلا بيتزا بالكروفيط، كما هي مكتوبة في اللائحة، فيمكن أن يحضرها لك النادل بدون كروفيط وعندما تسأله أين ذهب الكروفيط، يقول لك مبتسما «ما بقاش»، وينتظر منك أن تتفهم الأمر، وأن تدفع ثمن البيتزا كما هو مكتوب في لائحة الأسعار. وبالفرنسية من فضلكم.
ولهذا فما سيخرج على السياحة المغربية هو «الطنز» والجشع واعتبار السياح، سواء منهم المغاربة أو الأجانب، مجرد مغفلين يجب «تجعيبهم»، على رأي تجار مراكش.
ثم هناك مسألة أساسية ينتبه لها الأجانب بينما نحن لا نكاد نعيرها اهتماما، وهي النظافة. ولعل كثيرا من السياح يقررون عدم العودة إلى المغرب بسبب مراحيض مطاعمه ومقاهيه العفنة. أما المراحيض العمومية فيجب أن تترك وصيتك قبل أن تفكر في دخول واحدة منها بدون قناع واقي من انبعاث الغازات القاتلة.
وفي كل مطاعم ومقاهي العالم تدخل خدمة دورة المياه ضمن الخدمات التي يقدمها المحل، إلا في المغرب، يجب أن تدفع ثمن الورق في باب المرحاض.
ثم بيني وبينكم ماذا تقترح المدن السياحية المغربية للسياح غير العلب الليلية والشواطئ والمطاعم. لا متاحف ولا معارض ولا مركبات ثقافية ومسرحية تنشط الحياة اليومية. تاريخ حافل بالمعارك والانتصارات والأمجاد والقلاع والأسوار والأسلحة، قرون من الحضارة والسلالات الملكية والقراصنة والثوار والعلماء، مركونة إلى النسيان.
إذا بقينا على هذا الحال فيمكن أن نقول وداعا لرؤية عشرة ملايين سائح التي تهذي بها وزارة السياحة منذ سنوات. تلك الرؤية التي حققتها على أرض الواقع مدينة إسبانية واحدة في أربعة أشهر، وحضر افتتاح معرض الماء فيها عباس الفاسي، دون أن يفلح ماء المعرض في إيقاظه من السبات.

0 التعليقات:

إرسال تعليق