الجمعة، 13 نوفمبر 2009

نشيد المنهزمين

نشيد المنهزمين

عندما يشاهد الناس كل هذه الآلاف المؤلفة من المهاجرين يعودون إلى موطنهم مع حلول الصيف، يغبطونهم كثيرا. فهم بنظرهم محظوظون لأنهم يأتون إلى المغرب مرة في السنة، وليسوا مجبرين على العيش فيه إلى نهاية أيامهم.
الناس الذين يشاهدون بعض هؤلاء المغاربة المهاجرين في التلفزيون وهم يشتغلون في الحقول، وهم يقتسمون بيوت الصفيح، أو هم واقفون في الصف بمعاصم مربوطة إلى بعضها البعض بانتظار ترحيلهم، يعتقدون أن هؤلاء الأشخاص فقدوا أحاسيسهم ومشاعرهم وجمعوها في رزمة وتركوها وراءهم في وطنهم إلى أن يرجعوا ذات يوم ويكون بمستطاعهم استيلامها. الناس في الضفة الأخرى يظنون أن هؤلاء جاؤوا مرفقين فقط بعضلاتهم، أما كرامتهم فقد وضعوا فوقها مكعبات الثلج وحبات الكافور حتى لا تفسد، وتخلوا عنها خلف البحر. الكرامة، سبق أن رأيت كثيرين داسوا فوق هذه الكلمة.
الناس في الغالب واهمون، لأن هؤلاء الكائنات التي تقطع البحر كل يوم، سرا وعلانية، عندما يفتحون في نقطة التفتيش بالجمارك حقائبهم، وعندما يمزق رجال خفر السواحل أكياسهم البلاستيكية السوداء، التي تنفع غالبا حرس السواحل كبصمات لمعرفة المغاربة من غيرهم، غالبا ما تقفز إلى عيونهم البوليسية ألبومات صور العائلات مدسوسة بعناية بين الثياب. صورة الأم التي توفر دعاءها الصالح كل يوم في صناديق الغيب، صورة الأخت التي باعت أقراطها وحليها، وربما معها شيئا آخر، لكي توفر ثمن تذكرة السفر، صورة الأب المتقاعد عن العمل، وعن الحياة، بعينيه المليئتين بالأسى، وشاربه الأصفر بسبب التبغ الرديء، صورة الإخوة الصغار الذين يتصورون المكان الذي ذهب إليه أخوهم أو أختهم على هيئة مدينة كبيرة للألعاب، ولذلك لا يتوقفون عن مطالبته كلما تحدث معهم في الهاتف عن إرسال درجات هوائية مع أول ساعي بريد. فيما الأم كل ما تطلبه هو أن لا يتخلى عن إيمانه. أما هو فيتمنى ألا يتخلى إيمانه عنه في تلك البلدان الباردة.
وعندما يصلون إلى الضفة الأخرى يخرجون هذه الصور ويضعونها في إطارات بجانب رؤوسهم، لتكون آخر شيء يرونه قبل النوم. في سنوات هجرتي السابقة، كثيرا ما شاهدت بعضهم ينصت لواحدة من تلك الأغاني الشعبية التي تتحدث عن الأم البعيدة والغربة في بلاد الآخرين. وكم من مرة شاهدتهم يغرقون في بكاء صامت يشبه بكاء الأمهات عندما يباغتهن ذلك الحزن الغامض الذي لا يعرفن سببه.
كانت الصور التي أخذت معي سببا قويا لكي أرفض فكرة الهزيمة والعودة من حيث أتيت منذ العام الأول. وكنت كلما شعرت بأنني أصبحت لقمة سائغة في فم الحنين أخرج ألبوم الصور وأتفرج عليه. هنا في هذه الصورة كنت في سنتي الجامعية الأولى، مليئا بالأحلام الكبيرة إلى درجة أنني كنت أعتقد أنني الوحيد الذي يعرف ماذا يريد. هنا في هذه الصورة أقف خلال الإضرابات مع مجموعة من الطلبة، بأحلام مهشمة قليلا لكن بأطراف كاملة. هنا في صورة أخرى أركض وأركض كما لو أن العالم كله يركض خلفي. هنا في هذه الصورة أمرن عضلاتي في النادي كما لو أنني أعدها، دون أن أدري، لما سيأتي من تعب وعرق. هنا في هذه الصورة أرى أبي ممددا على جنبه ينظر إلي تلك النظرة الغامضة التي لم افهم يوما معناها، يبتسم في الصورة كما لو أنه يسألني ما الذي أتى بي إلى هذه الأرض الغريبة، وكم عيدا آخر سيمضي دون أن ترجع لتزورني في قبري. أغلق ألبوم الصور وينزل ستار شفاف من الدموع ويختفي وراءه كل شيء.
وكل ما يتبقى لك وأنت تغلق ألبوم الصور لكي تصنعه هو أن تردد ذلك النشيد الحربي الذي كان يردده جنود الفايكونغ عندما يواجهون خصمهم في المعركة، يتوعدون العدو وهم يضربون سيوفهم بدروعهم ويقولون «هنا أرى أبي، هنا أرى أمي، هنا أرى إخواني وأخواتي وكل أجدادي، ينادون علي لكي ألحق بهم». وكان هذا النشيد الحماسي يرفع من معنويات الجنود فيقاتلون بلا رحمة وبلا خوف متأكدين من أن أجدادهم ينظرون إليهم من ثقب في الغيب ويشاهدون بسالتهم في القتال والدفاع عن سلالتهم.
عندما يخرج المهاجرون صورهم العائلية فلهذا الغرض بالضبط. فكأنما يقرعون سيوفا غير منظروة بدروع غير منظورة، مرددين النشيد لكي يقطعوا رأس الحنين ويحملوه منتصرين ويسلموه للغربة، مرددين في وجهها أنهم لا يخشونها وأنهم هنا لكي ينازلوها حتى الموت. لقد فقدوا في سبيلها آلاف الشباب ومازالوا مصرين على مجابهتها بآلاف الشباب الآخرين.
سيأتون إلى حربك أيها الغربة على ظهور المراكب، مثل فايكينع جدد. وكل أسلحتهم هي صورهم العائلية وبصماتهم التي يأخذونها لهم في الملفات عندما يأسرون أحدا منهم في الطريق إليك. من يسقط منهم في سبيلك يتركونه للبحر ويأتي في اليوم الموالي من يعوضه.
نحن جيش عاطل عن الحرب يبحث عن قضية رابحة يموت من أجلها. نحن فيلق مشاة تعلم الملاحة في آخر لحظة. لم يعرف سادتنا كيف يصنعون لنا مصيرا يليق بنا في وطننا فذهبنا نبحث عنه في أوطان أخرى.
وها نحن نرى إخواننا وأخواتنا يركبون المراكب كل يوم، مثل فايكينع جدد، شاهرين عضلاتهم العطشانة للعمل مكان السيوف، مرددين في نشيد واحد «هنا نرى إخواننا، هنا نرى أخواتنا، هنا نرى أباءنا وأمهاتنا وكل أجدادنا، إنهم ينادون علينا ويطلبون منا أن نلتحق بهم»... في الضفة الأخرى من المتوسط

0 التعليقات:

إرسال تعليق