السبت، 14 نوفمبر 2009

القفز الثلاثي على التاريخ

القفز الثلاثي على التاريخ

نهاية الأسبوع الماضي قررت أن أبقى مساء في البيت وأتابع أخبار العالم عبر التلفزيون. واكتشفت أن تعليقات الصحافيين يمكن أن تكون طريفة أحيانا. مثلا عندما يتحدث الصحافي عن عملية عسكرية في العراق اسمها «بشائر الخيرات». هل يمكن أن تحمل عملية عسكرية بشائر الخير. اللهم إذا كان اقتحام البيوت وتصفيد أهلها وطرحهم أرضا، أو ربما تفجير المنزل بمن فيه، يعتبر دليلا من «دلائل الخيرات».
مع الاعتذار لسيدي محمد بن سليمان الجزولي.
لحسن الحظ أن أخبار الرياضة يتركونها إلى آخر النشرة، هكذا يجعلونك تنسى كوارث العالم قليلا وهم يقدمون لك إنجازات الرياضيين وأرقامهم القياسية. وقد أثار انتباهي كون الأشقاء العرب في القنوات الفضائية عندما يتحدثون عن تأهل رياضي مغربي إلى الربع أو نصف النهائي يذكرون اسم المشارك وينسبونه للعرب قائلين «تأهل المشارك العربي كذا في رياضة كذا». وعندما يخسر صاحبنا ينسبونه للمغرب، ويفتتحون تعليقهم هكذا «خسر المشارك المغربي كذا في رياضة كذا». هكذا عندما يفوز مغربي يصبح بطلا عربيا، أما عندما يخسر يرجعونه إلى جنسيته الأصلية.
لكن أهم ما أثارني في آخر مباراة للملاكم المغربي رضوان بورشوق ضد نظيره البرازيلي هو إقدام صاحبنا في نهاية المباراة التي خرج منها منهزما على معانقة خصمه، بل وحمله بين ذراعيه عاليا مثل طفل صغير. عندما رأيت هذه اللقطة فهمت أن الملاكمة المغربية شعرت بالوحدة والغربة في بكين، فبسبب خروج كل الملاكمين مهزومين اشتاق أغلبهم إلى عيش لحظة فرح صغيرة، فلم يجد بورشوق بدا من طلب»اللجوء العاطفي» عند خصمه، فاحتضنه واقتسم معه فرحة فوزه عليه.
وربما كانت هذه الحركة التي قام بها الملاكم المغربي وهو يعانق خصمه الذي بقي مشدوها أمام هذه «الروح الرياضية» العالية للمغربي، فيها رسالة إلى جامعة الملاكمة واللجنة الأولمبية التي جاءت باللاعبين المغاربة وهم في كامل كسلهم العضلي. فربما أراد أن يشمت فيهم جميعا وهو يرفع خصمه البرازيلي عاليا ويقتسم معه فرحته. وكأنه يقول لهم «نعم لقد هزمني وهو يستحق نصره لأنه استعد أحسن مني للألعاب الأولمبية، وليست لديه جامعة للملاكمة كتلك التي لدينا ولم يأت إلى بكين في وفد نصفه لا علاقة لهم بالرياضة كالوفد الذي جاء معنا».
لسوء حظ المغرب أن اللجنة الدولية للألعاب الأولمبية لم تضف بعد إلى منافساتها رياضة «القفز على الحقائق». وإلا لكانت نوال المتوكل قد أنقذت المغرب بحصولها على ميدالية الشرف في هذا النوع الرياضي. فرغم كل الإخفاقات التي مني بها الوفد المغربي ورغم خروجه في بعض المباريات بصفر نقطة، كما هو حال ذلك الملاكم الذي منذ أن صعد إلى الحلبة وهو يغطي وجهه بذراعيه ويتلقى الضربات مثل كيس رملي، فإن نوال المتوكل وصفت الحصيلة الرياضية للوفد المغربي في منافسات بكين بالمشرفة. يا إما أن نوال المتوكل لا تفهم المعنى اللغوي للتشريف في القاموس العربي، وهذا مستبعد رغم أنها استغلت حضورها في بكين للدفاع عن اللغة الفرنسية كلغة للأولمبياد، ويا إما أنها تريد أن تحجب الشمس بالغربال، وهذا مخجل.
ويبدو أن الحفل الراقص الذي نظمته نوال في سفارة المغرب ببكين على شرف الوفد الرياضي والرسمي المشارك في الأولمبياد، قد أنساها مرارة الفشل الذي حصده المغرب في كل المنافسات الرياضية. خصوصا وأن نوال المتوكل والجنرال حسني بنسليمان ظهرا كمن يريد «تسبيق العرس بليلة»، فنظموا حفلا رسميا لتكريم «أبطال» لم يصمد أغلبهم فوق حلبات المواجهة أكثر من مقابلة. وقد كانت فكرة السفير مسلية عندما أحضر راقصات صينيات وألبسهن تاملحافت وصباط الطالون ورقصن أحواش على شرف المدعوين. أحد المغاربة علق وهو يرى كيف تجيد تلك الصينيات رقصة أحواش، بأننا لن نستغرب إذا سمعنا إحدى هؤلاء الراقصات تغني إحدى أغاني الحاجة الحمداوية.
لا أعرف لماذا أعادتني شكوى أحد لاعبي الجيدو المغاربة من كونه لا يتوفر حتى على «السبارادرا» التي يضمد بها أصابعه، بصورة سبق وأن رأيناها في ألعاب كوريا الأولمبية السابقة، عندما رأى الجميع كيف أن أحد رافعي الأثقال المغاربة كان ينتظر عندما يأتي دوره للتباري أن يسلمه أحد زملائه المشاركين الأجانب «السمطة» الجلدية التي يحزم بها وسطه، لأن جامعته أرسلته بدون حزام ولا مستلزمات رياضية.
كما ذكرتني بلقطة أخرى لأحد لاعبي الجيدو المغاربة في منافسة دولية رموا له بذلة الكيمينو إلى الحلبة لكي يلبسها بعد أن قرر الحكم أن بذلته التي جاء ليشارك بها لا تستجيب إلى المعايير القانونية نظرا لقصر أكمامها. ولسوء حظ لاعب الجيدو المغربي فإن الكسوة التي رموا له كانت أقصر، فوقف أمام الحكم وأمره بمد ذراعيه لكي يرى أين تصل الأكمام، فانحسرت الأكمام إلى الوراء وأصبحت «كسوة نص كم»، فأقصاه الحكم ومنح الفوز لخصمه الذي لم يكن محتاجا لمنازلته.
وهذا يذكرنا بأولئك الذين كانوا يأتون إلى الحمام بدون معدات ويريدون الاستحمام «بيليكي» على ظهور عباد الله. فيطلبون من المستخدم أن يمنحهم غرسون نسيه أحدهم ، ويدخلون بأيديهم فارغة. فهذا يأخذون منه الشامبوان، وذاك يأخذون منه الصابون، وآخر يطلبون منه أن يحك ظهورهم. وفي الأخير يلتقطون ماكنة حلاقة تخلى عنها أحدهم ويكرطون وجوههم وأماكن أخرى ويخرجون لينشفوا ويلبسوا نفس الثياب التي كانت على ظهورهم.
عندما تعبت من تتبع أخبار «أبطالنا» في الأولمبياد عبر قنوات أشقائنا العرب الفضائية، يممت وجهي شطر العقلانية الأوربية وقفت عند القناة الفرنسية الخامسة. وكم ضحكت لوحدي في البيت مثل مجنون وأنا أرى فيلما حول قصة توأمين في العهد الفرعوني. ويحكي الفيلم عن قصة توأمين كتبا رسالة إلى الفرعون يشتكيان إليه ضياع حقهما في الإرث بعد تخلي والدتهما عنهما واغتيال والدهما في مؤامرة دبرتها أمهما مع عشيقها الشاب.
سبب الضحك ليس قصة الفيلم الفرنسي، فالقصة مشوقة. وإنما كون أحداث الفيلم تدور في العهد الفرعوني القديم، على أرض النيل الأزرق. غير أنه من خلال الصور نكتشف أنه مصور في وارزازات. والفراعنة والعبيد والتجار والسبايا كلهم مغاربة. هكذا نكتشف وجه يونس ميغري في دور كاتب عمومي في العصر الفرعوني، وخلود البطيوي في دور الزوجة الخائنة التي تآمرت مع عشيقها، الذي ليس شخصا آخر غير الممثل بهلول، لقتل زوجها، الذي ليس شخصا آخر غير الممثل خيي.
ستقولون لي أين المشكلة، مادام المخرجون السينمائيون غير مطالبين بتصوير أفلامهم في نفس الأماكن التي تدور فيها قصص هذه الأفلام، وإلا لماذا تصلح الأستوديوهات أصلا.
المشكلة هي أن خيي عندما قتله بهلول بتواطؤ مع عشيقته خلود البطيوي، ثم حنطوه وكفنوه، سمعنا صوت الطلبة وهم يقرؤون سورة يسن عليه. وكان صوت الطلبة يطغى على صوت المعلق الفرنسي الذي كان يشرح كيف أن جثة الموتى في العصر الفرعوني كانت تترك في الصحراء إذا لم يكن مع عائلته مصاريف لتغطية تكاليف مراسيم الجنازة الباهظة.
ولعل المثير في هذه الحكاية هو أننا لأول مرة في تاريخ العلوم والآثار الفرعونية نكتشف أن القرآن نزل قبل الإنجيل، وأن الفراعنة كانوا مثل المسلمين تماما يحضرون الطلبة لكي يقرؤوا ما تيسر من الذكر الحكيم على جنازة موتاهم. بقي فقط أن نرى المعزين الفراعنة وهم جالسين حول «قصاعي الكسكسو بسبع خضاري».
والظاهر أن الفرنسي مخرج الفيلم لا يقشع في الدارجة واللغة العربية شيئا، ولذلك طلب من الممثلين والكومبارس المغاربة أن يثرثروا فيما بينهم بالدارجة المغربية، لأن حواراتهم على كل حال ليست سوى «ثرثرة فوق النيل» لتأثيث الصور. مع الاعتذار لنجيب محفوظ.
وهكذا سمعنا لأول مرة مصريين يعيشون في العصر الفرعوني يعبدون الله من دون الفرعون ويسبحون باسمه قرونا طويلة قبل ظهور المسيحية والإسلام ويقولون «لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم». وليس هذا فحسب، فمن خلال لقطة في أحد الأسواق الفرعونية نستطيع أن نلمح أحد الكناويين وهو جالس يعزف على هجهوجه ويحرك رأسه كما يصنع كناوة في مهرجان الصويرة.
لا شك أن علماء الآثار المصرية والباحثين المتخصصين في علم الأهرامات، سيجدون صعوبة كبيرة في فهم حضور الطلبة وسورة يسن والهجهوج والكناوي، في عصر الفراعنة. لكن بما أن الفيلم تم تصويره في المغرب، فإن الدهشة تزول، وعلى المخرج الفرنسي أن يحمد الله لأن مخرجيه المساعدين والممثلين والكومبارس المغاربة لم يدسوا له بين مشاهد الفيلم صورة أحد أعمدة الكهرباء التي يعلقون فيها صور الملك محمد السادس.
فنحن أبطال لا يشق لنا غبار في خلط الأوراق والحقب والتواريخ والأزمنة. ولو أن اللجنة الدولية للأولمبياد فكرت يوما في تخصيص مسابقة للقفز الثلاثي على الحقب التاريخية، دون قراءتها طبعا، لكنا أول من يحرز ميدالية ذهبية في هذا الصنف الرياضي.
للأسف لم يولد بعد من يفهمنا جيدا في هذا العالم.

0 التعليقات:

إرسال تعليق