الثلاثاء، 10 نوفمبر 2009

عبودية على الطريقة المغربية

عبودية على الطريقة المغربية

يبدو أن عيد العمال لهذه السنة في المغرب سيكون شبيها بمجلس عزاء. فعلى بعد ثلاثة أيام من فاتح ماي قدمت الطبقة الشغيلة المغربية خمسة وخمسين ضحية لألسنة النيران في أحد معامل الحي الحسني بالدار البيضاء.
حسب الناجين من المحرقة فالمعمل كان لديه اسم آخر معروف بين العمال، وهو عكاشة، نسبة إلى سجن عكاشة الشهير بالدار البيضاء. وسبب إطلاق العمال لاسم السجن على معملهم هو كون صاحبه يغلق عليهم أبوابه بالمفاتيح حتى يضمن عدم خروج أحدهم خلال أوقات العمل. ولذلك فالذين ماتوا لم يموتوا احتراقا فقط، بل ماتوا بسبب الاختناق، وبعد ذلك تفحموا بألسنة اللهب.
في قانون الشغل ليس هناك بند ينص على اعتقال العمال داخل مكان العمل. لكن في قانون العبودية هناك وجود لهذا البند. وليس رب المعمل الذي احترق فيه كل هؤلاء المغاربة وحده من يلجأ إلى اعتقال العمال بإغلاق باب الخروج في وجوههم، وإنما هناك كثير من المصانع والمعامل في الدار البيضاء كما في غيرها من المناطق الصناعية تقوم بنفس السلوك.
ويجب أن نكون أغبياء لكي نصدق أن مفتشيات الشغل لا علم لها بهذه الاعتقالات الجماعية للعمال. كما يجب أن نكون بليدين لكي نصدق أن مفتشي الشغل لا يكونوا يعرفون أن العمال الذين احترقوا كانوا يتقاضون 1200 درهم في الشهر، وأن عقود عملهم لم تكن تتجاوز ثلاثة أشهر.
إن هذه الكارثة الإنسانية التي وقعت تضع الدولة والحكومة أمام مسؤوليتهما الكاملة. الدولة التي لم يصل ممثلها في الداخلية إلى عين المكان إلا بعد مرور ثمان ساعات على اندلاع الحريق. فالدولة التي تسمح بوجود معامل تشغل العمال مقابل هذه التعويضات المهينة وبلا ضمانات قانونية وداخل أماكن عمل تنعدم فيها شروط السلامة، يجب أن تتحمل مسؤوليتها فيما وقع. والحكومة التي فيها وزارة للشغل تقبل بأن يستمر في المغرب الرق والاستعباد تحت غطاء العمل اليومي، يجب أن تتحمل مسؤوليتها فيما وقع.
ومصالح الوقاية المدنية التي لم تصل إلى مكان الحريق إلا بعد ساعة من اندلاعه، يجب أن تتحمل مسؤوليتها فيما وقع. وأن يعرف الجالسون في إدارتها المركزية في الرباط والذين يتباهون بسيارات المصلحة الجديدة، أن الحرائق لا يتم إخمادها بالخراطيم المثقوبة، كما وقع لرجال الإطفاء الذين جاؤوا ليخمدوا حريق المعمل فأضاعوا ساعة أخرى يبحثون عن مكان التزود بالمياه وضيعوا نصف المياه عندما عثروا عليها في الأرض بسبب تلك الثقوب.
مشكلتنا نحن المغاربة هي أننا نخسر الأموال الطائلة لاقتناء المعدات الباهظة ونأتي حتى نصل إلى التفاصيل الصغيرة والأساسية لتشغيل المعدات الثمينة ونصاب بالبخل. وما لا تريد أن تفهمه الإدارة العامة لرجال الوقاية المدنية أنه حتى ولو كانت لديها أحسن سيارات الإسعاف وأمهر الإطفائيين وكل مياه العالم، فإنها لن تستطيع أن تخمد حريقا صغيرا إذا كانت خراطيم سيارات إطفائها مثقوبة.
ولو أن الإدارة الجهوية للوقاية المدينة بالدار البيضاء قررت استغلال ذلك المقر المجهز الذي منح لها مجانا في تجزئة قصبة الأمين والذي تبلغ مساحته 1500 متر مربع، والذي لا يبعد عن مكان الحريق سوى بخمس دقائق، لربما كانت الكارثة أهون.
وكانت الكارثة ستكون أهون لو أن شركة «ليديك» فكرت في وضع مركز مياه للطوارئ كما ينص على ذلك قانون المناطق الصناعية. ولكي يفهم مدير «ليديك» مدى تقصير شركته في ضمان السلامة للمواطنين الذين تجني أرباحها من جيوبهم فقد كان عليه أن يأتي لكي يرى منظر تلك الطفلة الصغيرة التي وقفت بمحفظتها باكية أمام المعمل حيث تحترق أمها داخله دون أن يستطيع أحد إنقاذها.
عندما أرسل المستشارون التسعة التابعون للكونفدرالية الديمقراطية للشغل استقالاتهم من مجلس المستشارين إلى عكاشة، رئيس المجلس طبعا وليس السجن، اعتقد الجميع أنهم كتبوا استقالتهم للتو. إلى أن نشرنا خبرا يتحدث عن كون هذه الاستقالات تكون عادة مكتوبة منذ اليوم الأول لدخول المستشار إلى المجلس. هكذا يتحكم نوبير الأموي في مصير مستشاريه.
وما لا يعرفه كثيرون أيضا هو أن هذا التقليد ليس تقليدا يلجأ إليه الراسخون في النقابة فقط، بل حتى الباطرونا صاروا يطلبون إحضار من يرغب في العمل لديهم لاستقالته أولا.
وموظفو مصالح المصادقة على الوثائق في المقاطعات تعودوا المصادقة على استقالات يتقدم لهم بها عمال وعاملات يشتغلون في قطاع النسيج والألبسة والمواد الغذائية في المناطق الصناعية، عليها أجرة العامل التي لا تتعدى في بعض المناطق 250 درهما في الشهر، وطلب استقالة مكتوب بدون وضع تاريخه. بحيث يتحكم رب العمل في مصير عماله، وعندما يريد طرد أحدهم ما عليه سوى أن يضع تاريخ الاستقالة في المكان المخصص لذلك.
عندما يتحدث وزير المالية عن عزم الحكومة ربط الحزام والشروع في تطبيق سياسة تقشف لمواجهة مصاريف الحوار الاجتماعي مع النقابات، فإنه يقصد بذلك أن الدولة ستبحث عن تلك الثقوب التي تضيع منها ملايير الخزينة العامة من أجل سدها.
ولعل أول ثقب يجب أن تضع الحكومة أصبعها عليه هو الثقب الكبير الذي عرته محرقة الدار البيضاء. فهناك اليوم مئات الآلاف من العبيد الذين يشتغلون من عشر إلى ست عشرة ساعة يوميا برواتب لا تتعدى ألفا وستمائة درهم في الشهر، بعقود عمل مؤقتة لا تتعدى ثلاثة أشهر.
إن أول من يجب على الحكومة متابعتهم ومراقبتهم ومحاسبتهم هم مصاصو الدماء هؤلاء الذين يستعبدون مئات الآلاف من المغاربة في معاملهم ومصانعهم الشبيهة بالمعتقلات، ويضيعون على مديرية الضرائب وصندوق الضمان الاجتماعي وصناديق التقاعد ملايير الدراهم.
وليس صدفة أن صاحب المعمل المحترق بالدار البيضاء سارع بمجرد سماعه باندلاع الحريق إلى إنقاذ يخته الذي كان يحتفظ به داخل المعمل الذي يعتقل داخله عماله.
في كل المدن الكبرى هناك اليوم قطاع تحت أرضي يشغل عشرات الآلاف من الأيادي العاملة في ظروف لا إنسانية وبدون ضمانات قانونية. تحت العمارات وفوق الأسطح، وفي مرائب السيارات، يشتغل الآلاف بعلم مصالح المراقبة في العمالات، وبعلم مفتشي مندوبيات الشغل. إنه اقتصاد متوحش يستفيد منه القلة على ظهر طبقة كادحة تبحث عن مقابل تشتري به الخبز لكي تبقى على قيد الحياة.
وشخصيا أعتقد أن الرواتب المهينة التي يصرفها أرباب المعامل والمصانع للنساء اللواتي يشتغلن عندهم، هي السبب وراء اختيار بعضهن احتراف الدعارة. فثلاثمائة درهم التي يصرفها لهن رب العمل في الأسبوع يحصلن عليها منذ الزبون الأول على رصيف المدينة. ولو كانت أجور العاملات في المعامل والمصانع توازي الجهد والساعات التي يقضينها في العمل، لما كانت لدينا في شوارعنا كل تلك الجيوش من العاهرات اللواتي تتزايد أعدادهن بشكل مخيف.
إن أبسط شيء يمكن أن تقوم به الدولة بعد هذه الكارثة الإنسانية هو إعلان حالة الحداد في المملكة وتنكيس الأعلام في جميع مؤسسات البلاد. فما وقع ليس حادثا عاديا، وإنما محرقة رهيبة تميط اللثام عن حقيقة فاجعة، وهي أن المغرب لازال يعيش عصر العبودية.
كما أن هذه المحرقة لا يجب أن تمر دون أن يقدم كل من له نصيب من المسؤولية فيها الحساب. وإذا كان فيصل العرايشي مدير القناتين الأولى والثانية قد وجد أن احتراق خمسة وخمسين مواطنا مغربيا حتى الموت مسألة لا تستحق تعديل برامج سهرته الليلية، واستمرت قناتاه في الرقص والطرب على أغاني حجيب بينما ما يفوق مائة عائلة تبكي قتلاها وتبكي معهم قلوب الأغلبية الساحقة من المغاربة، فإن كل من لازال يحمل في دمه ذرة من الإنسانية يطالب بتطبيق العدالة، حتى لا يتعرض المزيد من المواطنين للشواء في معامل تتحول فجأة إلى أفران.
عزاؤنا واحد في هؤلاء الشهداء، الذين ماتوا غدرا وهم يمارسون أحد أقدس أنواع العبادات وهي العمل. وإن لله وإنا إليه راجعون.

0 التعليقات:

إرسال تعليق