الجمعة، 13 نوفمبر 2009

جمع راسك

جمع راسك

خلال الأسابيع الأخيرة وقعت «مناظر» مخجلة في مدن مغربية مختلفة لشخصيات وازنة في عالم المال والأعمال والصحافة والجيش. «مناظر» تعطينا صورا مقربة عن طريقة تفكير مالكي السلطة في العهد الجديد.
قبل ثلاثة أسابيع تقريبا، وفي أحد الشوارع الرئيسية التي تخترق قلب طنجة، أوقف رجل سيارته بجانب سيارة رجل آخر، ونزل منها غاضبا بسبب خلاف بسيط على مكان إيقاف السيارة. بعد حصة سريعة من الشتم المستنبط من قاموس «السوق» (ما دمنا في طنجة) سيلجأ الرجل الغاضب إلى استعمال الحجارة لتكسير زجاج سيارة خصمه. وعندما ستتطور الأمور إلى «المشانقة»، سيستعمل صاحبنا هاتفه للاتصال بأعلى موظف للأمن في طنجة لكي يطلب مساعدته لأنه وقع ضحية جماعة إرهابية. بسرعة البرق سيحضر عناصر الشرطة وسيقودون الرجلين إلى ولاية الأمن. وهناك سيكتشفون أن صاحبنا لديه جواز سفر دبلوماسي. وأن اسمه ببساطة هو الخباشي، مدير وكالة المغرب العربي للأنباء. لذلك سيغادر مقر الولاية بالسرعة ذاتها الذي دخل بها، بعد أن أخذ المنصوري، مدير مكتب الدراسات والمستندات والرئيس المباشر الحقيقي للخباشي علما بالموضوع، وسيقضي رجال الأمن وقتا طويلا في مطالبة الشاب الذي تعرضت سيارته للاعتداء، وبعض أطرافه أيضا، إلى نسيان الأمر، وعدم التمسك بالشكاية.
وهكذا عاد الخباشي، مدير وكالة الأنباء، من طنجة بعد أن تم طي هذا الملف بأقل الفضائح الممكنة. فالخباشي صديق ياسين المنصوري، الذي أصبح واحدا من عائلته بعد أن تزوج إحدى أخوات زوجة هذا الأخير، أصبح يشعر بأنه فوق القانون، لأنه أفلت من ملف قضائي كان سيتابع فيه بتهمة الاعتداء على ممتلكات الغير.
ولعل المتأمل في مشوار الخباشي المهني، يكتشف أن الرجل لديه قدرة كبيرة على التسلق المهني والارتقاء الطبقي. فبعد أن كان موظفا إداريا عاديا في مكتب الموارد البشرية بوكالة المغرب العربي للأنباء، سينزل من الإدارة إلى قاعة التحرير باللغة الفرنسية بمساعدة صديقه «الموس» الذي أصبح «يمضيه على جوج وجوه» عندما ترقى إلى منصب مدير ليذبح به كل من «يطلع» اسمه في اللوائح السوداء لمكتب الدراسات والمستندات.
بعد ذلك سينتقل الخباشي إلى غانا ليشتغل في مكتب الوكالة هناك. ولم تمض سوى سنوات قليلة حتى انتقل إلى نواكشوط حيث أبلى البلاء الحسن، خصوصا بعد الانقلاب الأول الفاشل الذي «غطاه» من الرباط حيث كان يقضي عطلته السنوية. بعد ذلك سيقترحه ياسين المنصوري ضمن لائحة الذين سيوشح الملك صدورهم خلال زيارته لنواكشوط. وبفضل كل النقط التي جمعها الخباشي خلال عمله بموريتانيا سيدخل إلى المغرب لكي يلتحق مباشرة كمدير لوكالة المغرب العربي للأنباء.
المثال الثاني جاءنا من مراكش، حين انتظر الكلونيل خلا بن سيدي الأستاذ العروي أمام باب الثانوية التي تجتاز فيها ابنته امتحان البكالوريا، وبمجرد ما لمح الكولونيل الأستاذ حتى «شنق» عليه ومزق قميصه وحاول خنقه. وبالإضافة إلى الاعتداء الجسدي كان لا بد من أن يهدد الكولونيل الأستاذ باغتصابه واغتصاب عائلته. فيبدو أن لدى بعض رجال الأمن مشكلة حقيقية مع أعراض المغاربة، يجب أن ينكب عليها الأطباء وعلماء النفس. فبمجرد ما تحتك بأحدهم حتى يهددك بإجلاسك على القرعة واغتصاب «طاسيلتك» عن بكرة أبيها.
وعندما نتأمل سبب كل هذه العنترية من جانب الكولونيل، نجد أن هذا الأخير لم «يسرط» كيف أن أستاذا مكلفا بحراسة التلاميذ يتجرأ على منع ابنة كولونيل في الجيش، يأتمر بأوامره المئات في الفوج الثاني بحامية مراكش، من الغش في الامتحان. فقرر أن يعلم هذا الأستاذ أصول الأدب، ووصفه أمام الشهود بالحمار الذي لا يعرف شيئا، رغم أن الأستاذ قضى ستة وثلاثين سنة من عمره في التعليم.
ورغم محاولات الاعتذار التي قام بها الكولونيل عندما استفاق من «سكرته» السلطوية، وذهابه إلى الثانوية لمطالبة المدير بالعمل على سحب شكاية الأستاذ، إلا أن الأستاذ قرر أن يذهب إلى القضاء ليسترجع كرامته المهدورة.
وإذا كان الأستاذ العروي قد قرر التمسك بحقه في إعادة اعتباره، فإن مواطنا آخر بالدار البيضاء، وهذا هو المثال الثالث، قرر التخلي عن شكايته ضد مولاي حفيظ العلمي، رئيس اتحاد مقاولات المغرب.
وأصل الحكاية التي وقعت في قلب الدار البيضاء بدأ بخلاف بسيط على الطريق بين هذا المواطن وابن مولاي حفيظ العلمي، الذي لم يضيع الوقت واتصل بوالده الذي حضر خلال دقائق قليلة.
وهنا سيعطي مولاي حفيظ العلمي مثالا لا يليق به كرئيس للمقاولين المغاربة. فقد قدم نفسه أولا للرجل بأنه هو الذي يربي أمثاله. رغم أن الرجل طلب منه أن يهدئ من أعصابه لأنه يعرف من يكون ويقطن بالقرب منه ولا حاجة لكي يشتمه. لكن مولاي حفيظ زاد فيه أكثر من اللازم، فسأله الرجل «شكون بغيتي تكون»، فرد عليه بجواب لازال الجميع يحاول فهم مغزاه إلى اليوم وقال له «أنا اللي كنحكم المغرب».
ولأن مولاي حفيظ العلمي يعتقد أنه يحكم المغرب فقد قال للرجل متحديا أنه إذا تجرأ ومس شعرة واحدة من ولده فإنه سيبيت في ثلاجة الموتى.
بعد أن بردت أعصاب رئيس «الباطرونا»، ووصل إلى علمه أن الرجل ذهب إلى مخفر الأمن لوضع شكاية برفقة شاهدة تطوعت للإدلاء بشهادتها، اتصل به، بعد أن اكتشف وجود علاقة دموية (طبعا غير تلك التي كاد يتسبب فيها) بينه وبين صاحب الشكاية. فتم طي الملف وسحب الرجل شكايته و«مريضنا ماعندو باس».
هذه إذن ثلاثة نماذج لثلاث شخصيات تمثل ثلاث مؤسسات، وكالة الأنباء الرسمية، القوات المسلحة الملكية، ومؤسسة اتحاد مقاولات المغرب، أعطت أمثلة واضحة، وفي الشارع العام وأمام الملأ، على ما يسمى في القانون بالشطط في استعمال السلطة.
في البلدان الديمقراطية، عندما يقترف مثل هؤلاء المسؤولين تصرفات منافية للقانون، ويسعون إلى جمعها وطيها قبل أن تصل إلى الصحافة، هناك تصرف آخر تقوم به الدولة لكي تلجم جموح تلك الشخصيات. لأن ما يقترفونه من زلات وهفوات لا يلطخ سمعتهم كأشخاص فقط، وإنما يلطخ سمعة المؤسسات التي يمثلونها ويتحدثون باسمها.
وحتى ولو اضطر المتضررون لسحب شكاياتهم ضد هذه الشخصيات، بسبب الترغيب تارة أو بسبب التهديد تارة أخرى، فإن الدولة تبقى مطالبة بالقيام بما يسمى بالفرنسية «Le Rappel a lordre»، أي «جمع راسك» كما يقول المغاربة.
والغريب في هذه الوقائع الثلاث المتشابهة والتي تعكس استخفاف «أبطالها» أنها وقعت في أسبوع واحد تقريبا في طنجة والدار البيضاء ومراكش. وبعدها اندلعت أحداث سيدي إفني، حيث شمر الفرسان الثلاثة الضريس والعنيكري وبنسليمان (مع الاعتذار لأليكسندر ديما) عن سواعد الشطط في استعمال السلطة ضد مدينة بأسرها.
لذلك فقد أصبح من الضروري اليوم إعادة الاستماع إلى أغنية الغيوان التي يقول فيها العربي باطمة «يا جمَّالْ رد جْمَالك علينا». فيبدو أن هذه الجمال المغرورة بنفسها (على وزن «الدب المغرور بنفسه» في سلسلة اقرأ) يجب أن يمسك لجامها أحد، حتى تقلع عن الخبط في الشوارع خبط عشواء.

0 التعليقات:

إرسال تعليق