السبت، 14 نوفمبر 2009

دموع الجنرال

دموع الجنرال

لعل أحسن من تفوق في إعطاء صورة واضحة عن ألعاب القوى المغربية في بكين هو العداء المغربي حشلاف الذي سقط في الدورات الأولى حول مضمار السباق، وتوقف لكي يعدل من خيوط حذائه الرياضي، فكان آخر متسابق يصل إلى خط النهاية. وهو بذلك يبقى وفيا للرتبة الأخيرة التي سبق له أن حصل عليها في دورة باريس لألعاب القوى سنة 2003.
لحسن الحظ أن العداءة حسناء بنحسي، التي سبق لها أن صرحت أنها تدربت رفقة زوجها بإمكانياتها الذاتية، فعلت كل ما بوسعها لكي تحرز ميدالية برونزية، رأينا بفضلها علم المغرب يرفرف أخيرا في «عش الطيور».
ولعل مدربي الفرق المشاركة في منافسات الأولمبياد، ورئيس جامعة ألعاب القوى ووزيرة الشباب والرياضة مدعوون جميعا إلى تأمل موقف مدرب البطل الأولمبي الصيني «ليو كسيانغ» وبطل العالم في سباق 110 أمتار، الذي قدم اعتذاره للشعب الصيني يوم الاثنين الماضي بسبب تخلي «ليو كسيانغ» عن الدفاع عن لقبه بسبب ألم شديد في قدمه.
وعندما انتهى المدرب من تقديم اعتذاره، غرق في نوبة عميقة من البكاء. هذا مدرب صيني يعتذر ويختنق في دموعه بسب عدم قدرة بطله على الدفاع عن لقبه العالمي في أولمبياد تحتل فيه الصين المرتبة الأولى من حيث عدد الميداليات الذهبية، الفضية والنحاسية المحصل عليها.
من قرأ الأدب الصيني وشاهد السينما الصينية، سيفهم من دون شك لماذا اعتذر المدرب وانخرط في البكاء بسبب تضييع ميدالية إضافية على الصين في الأولمبياد. فالصينيون ينتمون إلى ثقافة آسيوية تعتبر الفشل أسوأ ما يمكن أن يحدث للإنسان. ولذلك ترى الصينيين مهووسين بالعمل والإتقان، منتبهين إلى تلك التفاصيل الدقيقة التي نعتبرها نحن تافهة، في الوقت الذي بدونها يفقد العمل أحيانا قيمته وجماليته.
المغرب ليس دولة وليدة الأمس، بل إننا نحتفل اليوم بالذكرى 1200 لتأسيس المملكة. ولذلك فالمشاركة المخجلة للوفد المغربي في بكين والتي قدمت المغرب كدولة نكرة لم يسمع أحد صدى نشيدها الوطني، ذلك النشيد الذي طالما تردد في الألعاب الأولمبية السابقة، تستدعي أن يقدم جميع المسؤولين والمدربين الذين رافقوا الوفد اعتذارهم إلى الشعب المغربي على هذه الهدية السخيفة التي قدموا له بمناسبة الذكرى 1200 لتأسيس مملكته.
عليهم أن يكفوا عن إلصاق هزائمهم بالحكام، فليس من الطبيعي أن يكون كل حكام العالم لديهم مشاكل مع «الأبطال» المغاربة وحدهم من دون خلق الله أجمعين. المشكلة فينا وليست في الآخرين. علينا أن نفهم هذا جيدا.
إن مشكلتنا الأساسية هي أننا نفتقر إلى الرؤية المستقبلية في كل القطاعات. وما حدث في بكين ليس سوى صورة مصغرة للطريقة العبثية والمزاجية التي تسير بها مجموعة من القطاعات. نريد أن نستعد في ظرف ثلاثة أشهر لكي نذهب إلى الأولمبياد ونأتي بالذهب. نريد أن نضع خطة لإصلاح التعليم في ستة أشهر ثم نطبقها وننتظر نتائجها في العام الموالي، وقد نغيرها في الطريق بأخرى حتى دون أن ننتظر نهاية العام. نريد أن نجلب الاستثمار الأجنبي وشركات الخدمات، وعندما يأتي المستثمرون نعطيهم الأرض بالمجان، ثم نكتشف أننا لا نتوفر على المهندسين الضروريين لتغطية حاجيات هؤلاء المستثمرين. فنتذكر أن علينا أن نكونهم، ونعد بتخريج عشرة آلاف مهندس في القريب العاجل. نريد أن تكون لنا مكتبة وطنية بمواصفات دولية، كتلك التي تنتظر التدشين في الرباط، وعندما ننتهي من بناء الأروقة والمدرجات والقاعات والرفوف، نكتشف أن وثائق المملكة النادرة أغلبها تم نهبه. وكل ما تبقى من الخزانة الوطنية السابقة لا يكفي لملء رف واحد من رفوف المكتبة الجديدة. نريد أن يكون لنا متحف وطني يجمع تاريخنا وتاريخ أجدادنا، وبينما ينتظر الجميع نهاية هذا الورش، يستغرب البعض بماذا ستملأ وزارة الثقافة أروقة المتحف مادامت لا تتوفر على مجموعة فنية واحدة.
نريد أن نخلق مناطق صناعية لتشجيع المستثمرين الأجانب، ثم نعود فنكتشف أن المغرب يستورد تسعين بالمائة من حاجياته للكهرباء من الخارج، وأن المغرب ضيع وقتا ثمينا عندما لم يفكر قبل عشرين سنة في الطاقة البديلة، ثم يشرع المكتب الوطني للكهرباء في توزيع برنامج ومواقيت قطع الكهرباء عن أحياء المدن.
وحتى عندما تضعنا تقارير المنظمات الدولية في مؤخرة الترتيب، يخرج المندوب السامي للتخطيط لكي يكذب كل ذلك، ويطلب من منظمة «البنود» أن تغير معلوماتها بشأن المغرب، فالمغرب بلد متقدم. والرتبة المتأخرة التي تضعنا فيها هذه المنظمات راجعة إلى كون المغرب يعطي معلومات حقيقية حول نموه واقتصاده، وليس مثل البلدان الأخرى التي تزور هذه المعلومات. وعلى هذا الأساس فترتيبنا العالمي هو الرتبة 15 وليس 127 كما تتهمنا هذه المنظمات. وهكذا إذا تبعنا الحليمي في تبريراته فإننا سنكتشف أن المغرب يوجد في مرتبة أحسن من اليابان وألمانيا. وهذا ما يسمونه في العلوم السياسية بنظرية المؤامرة. فالمغرب متقدم ومزدهر، مشكلته الوحيدة هي أنه محسود من طرف جيرانه الذين يتآمرون عليه طيلة الوقت.
مشكلتنا الحقيقية أننا دائما نضع العربة أمام الحصان، ثم نستغرب كيف أن الأمور لا تسير، وفوق هذا وذاك نجلد الحصان ونتهمه بعرقلة السير. إننا نتصرف بعقلية ذلك المقاول الغبي الذي عندما تتوقف إحدى حافلاته يغير الركاب، ولا يفكر أبدا في تغيير قطع غيار حافلته المعطوبة.
لذلك فما يلزمنا اليوم، وبشكل مستعجل، هو الإيمان الراسخ بأن خلاصنا كشعب وكدولة وكنظام يمر حتما عبر التخطيط بعيد المدى. أي ببساطة شديدة أن نتخلى عن رؤية ما تحت أقدامنا، وأن نمد البصر نحو المستقبل.
علينا أن نفهم أن إصلاح التعليم هو الحل، وأن نتائج هذا الإصلاح لن تظهر السنة المقبلة أو حتى خلال الخمس سنوات المقبلة. بل علينا أن ننخرط في هذا الإصلاح وندفع ثمنه مهما كان باهظا ثم ننتظر عشرين سنة المقبلة لكي نرى نتائجه. بمعنى أنه علينا أن نضحي بكل هذه السنوات من أجل الحصول على جيل جديد في المستقبل لديه تكوين علمي يؤهله للبقاء.
إن الثروة الحقيقية للمغرب ليست هي الفوسفاط أو السمك أو السياحة أو حتى تحويلات المهاجرين التي وصلت هذه السنة إلى 279 مليار دولار. فهذه ثروات من الممكن أن تنضب غدا أو بعد غد. الفوسفاط يمكن أن ينهار أمام المنافسة المصرية القادمة في الطريق، والتي تنتج الفوسفاط بتكلفة أقل من المغرب وبالتالي ستبيعه بسعر أقل من السعر الذي يقترحه المكتب الشريف للفوسفاط. السياحة يمكن أن تغير وجهتها لأكثر من سبب، وما نزول مؤشرات السياحة في المغرب في الفترة الأخيرة إلا مثال واضح على هشاشة هذه الصناعة التي تعتبر المراهنة عليها بشكل كبير في اقتصاديات الدول من باب المجازفة.
تحويلات المهاجرين التي ظل يعتبرها المغرب بمثابة الدجاجة التي تبيض ذهبا، يمكن أيضا أن تعرف مسارا آخر. خصوصا مع الجيل الثالث من أبناء المهاجرين الذين يفضلون أكثر استثمار مدخراتهم في بلدان إقامتهم. على ماذا يجب أن يعول المغرب خلال العشرين سنة المقبلة إذن. وما هي ثروته الحقيقية التي يجب أن يحرص عليها من التبذير والنزيف. ثروة المغرب هم أبناؤه. أدمغته التي تهاجر كل يوم نحو بلدان الآخرين. الأدمغة والأطر المغربية تحتل الرتبة الأولى ضمن لوائح المهاجرين في كندا مثلا.
نسبة كبيرة من خريجي المدرسة الحسنية للمهندسين تختار كل سنة أن تغادر نحو فرنسا وأمريكا وكندا.
أطباؤنا وأساتذتنا الباحثون في الفيزياء النووية والبيولوجيا وعلوم الأرض والتخصصات العلمية الدقيقة يجمعون ملفاتهم وشواهدهم ويسجلون أنفسهم في مختبرات البحث ومستشفيات وجامعات العالم المتقدم.
هؤلاء هم المادة الرمادية لهذا الدماغ المغربي التي تضيع في الطريق. وهذا أخطر ما يهدد مستقبل المغرب خلال العشرين سنة المقبلة. لأنه إذا استمر النزيف بهذا الشكل سيجد المغرب نفسه مجبرا على استيراد الأطباء والمهندسين والأساتذة الجامعيين لسد حاجياته العلمية. وسنكتشف أننا عدنا بالمغرب إلى ما كان عليه بعد الاستقلال مباشرة، حينما فتح المغرب ذراعيه للأساتذة والأطباء والأطر من أوربا الشرقية وفرنسا لكي يكونوا أبناء المغاربة الخارجين توا من الحماية.
إن مستقبل المغرب يمر حتما عبر التربية والتعليم والبحث العلمي. لدينا الأدمغة اللازمة، ولدينا الرغبة في البحث والتكوين، ما يلزمنا هو الإرادة السياسية الواضحة لتشجيع قيم البحث والعلم والاجتهاد عوض قيم الغش والكسل والتجهيل التي تمت رعايتها بحرص شديد طيلة ثلاثين سنة الماضية.
لذلك يجب علينا جميعا أن نستوعب درس بكين جيدا. وأن نكف عن البحث عن مشاجب لتعليق الأخطاء. وأول شيء يجب أن يقوم به الرياضيون المغاربة هو الذهاب منذ الغد إلى حلبات التدريب للاستعداد لأولمبياد لندن. وطبعا نفترض أن الجنرال حسني بنسليمان وزبانيته سيقدمون استقالتهم من تسيير الرياضة الوطنية بعد أن أوصلوها إلى حافة الإفلاس. ونحن طبعا لا نطلب منهم أن يذرفوا الدموع أمامنا معتذرين مثلما صنع المدرب الصيني، فالمغاربة من شدة ما لدغوا من الجحر نفسه أكثر من مرة عادوا لا يثقون مطلقا في دموع التماسيح.

0 التعليقات:

إرسال تعليق