الأربعاء، 18 نوفمبر 2009

حشومتكم

حشومتكم

ما الذي يدفع وزيرا سابقا للثقافة ظل محسوبا على اليسار، مثل جاك لانج، إلى فقدان أعصابه وكتابة رسالة إلى وزيرة العدل رشيدة داتي يسألها فيها سؤالا كبيرا هو «هل مازلنا في فرنسا نعيش في دولة الحق». السبب في هذه الغضبة المفاجئة هو الطريقة الاستفزازية التي تم بها اعتقال أحد الصحافيين لتقديمه أمام العدالة بتهمة قذف تافهة تعود إلى سنة 2006.
وختم جاك لانج رسالته لوزيرة العدل بقوله «إنني أشعر بالخجل من بلدي». وليس جاك لانج وحده من عبر عن إدانته لطريقة العدالة الفرنسية الفجة في التعامل مع الصحافي، وإنما الرئيس ساركوزي نفسه خرج من صمته وحاول رمي الكرة من ملعبه إلى ملعب وزيرة العدل التي صرحت للصحافة بعد تلقيها لخبر اعتقال الصحافي بأن رجال الأمن والقضاء قاموا بواجبهم، ووعد الرئيس بتسليط الضوء الكامل على هذه القضية، بعد أن «سلط» رجال أمنه على الصحافي من أجل اعتقاله.
وفي كل وسائل الإعلام الفرنسية هناك اليوم شبه إجماع على اعتبار ما قامت به العدالة الفرنسية مخجلا وخطيرا ويسير في منحى إضعاف سلطة الصحافة. لذلك خرج وزراء ورؤساء الأحزاب ومثقفون وسياسيون عن صمتهم وسجلوا موقفهم المنحاز لحرية الصحافة والتعبير.
فهناك اليوم في فرنسا رغبة مبيتة من طرف ساكن الإليزي لتكميم أفواه الصحافيين الذين يمارسون ضده معارضة شرسة، ويسخرون من طريقة الرئيس الملكية في الحكم. فسيادة الرئيس أصبح لا يقبل أن تمارس الصحافة الفرنسية حقها في السخرية من جلالته. وبمجرد ما نزلت إلى الأسواق دميته التي صممتها إحدى الشركات وأعطت للفرنسيين إمكانية ممارسة هواية غرز الإبر فيها على طريقة «سحر الفودو»، لجأ جلالة الرئيس إلى القضاء لكي يوقف بيع الدمى. لكن القضاء رفض أن يتم استعماله في مصادرة حق الفرنسيين في السخرية من رئيسهم الذي اختاروه، وخسر الرئيس القضية وظلت الدمى تباع على الإنترنيت، محققة رقم مبيعات قياسيا. فساكن الإليزي إذا أراد من الصحافة أن تتوقف عن السخرية منه، فما عليه سوى أن يغادر الرئاسة ويعود إلى بيته.
عندنا في أجمل بلد في العالم أصدر القضاة حكما بالإعدام في حق الجريدة الأولى في المغرب، وقضوا بتغريمها 612 مليون سنتيم لصالح القضاة الأربعة، وحجزوا على حساباتها البنكية، وعرضوا حوالي مائة عائلة تعيش مباشرة من هذه المؤسسة للبطالة. ولم يكتفوا بذلك، بل أصدروا قبل أن يجف الحبر الذي حرروا به حكم إعدامهم الأول، حكما ثانيا لصالح محامي القضاة الأربعة «النقيب» زيان، ومنحه القاضي رحال، تعويضا قدره 60 مليون سنتيم عقابا لنا على نشر خبر متابعة سعادة «النقيب» أمام القضاء من طرف سيدتين ورجل.
ويبدو أن الجهات التي تحرك القضاء لتصفية حساباتها مع الصحافة المستقلة فكرت في إعطاء زيان أتعابه من ظهرنا، وحددتها في ستين مليونا. فالرجل بذل جهدا كبيرا في الترافع لصالح القضاة، ويستحق أتعابا تليق بمقامه. خصوصا وأنه محتاج إلى هذه الأتعاب، على الأقل لكي يؤدي بها غرامات شركة «ريضال» الثلاث التي لازالت في ذمته بعدما ضبط رجال الشركة زيان يستغل كهرباء «ريضال» في إنارة فيلته عن طريق أخذ خيط من عمود الضوء بالشارع. وهذه الواقعة تعطينا فكرة عن زعيم حزب سياسي ليبيرالي اقترح خلال الحملة الانتخابية الأخيرة عشرة أيام، في حالة التصويت عليه، لحل كل مشاكل المغرب المستعصية. زيان يريد حل مشاكل المغرب في عشرة أيام فيما هو لم يحل حتى مشكله مع شركة «ريضال» التي تطالبه بدفع غرامات المخالفات التي في ذمته.
إن ما يبعث على الشفقة ليس هو استقواء الجهات التي تريد إخراس صوت «المساء» بوزير حقوق الإنسان السابق، ومحامي الحكومة، فهذا الأخير يقول في كل مكان أنه سيخصص ما تبقى من عمره للنضال من أجل إغلاق هذه الجريدة، وإنما استغلال هذه الجهات للصمت المخجل الذي انخرطت فيه الأحزاب السياسية المسماة تقدمية وفرقها في البرلمان. وهو صمت أقرب ما يكون إلى الرضى والتواطؤ منه إلى اللامبالاة.
وفي الوقت الذي يكتب وزير الثقافة الفرنسي السابق جاك لانج لوزيرة العدل معبرا عن خجله من بلاده بعد ما وقع للصحافي المعتقل، سمعنا وزير الاتصال عندنا، الشيوعي السابق خالد الناصري، يقول لوكالة أنباء أجنبية أن الجميع في المغرب يدين «المساء»، وأن الاختلاف فقط على مبلغ الإدانة. وهو نفس الوزير الذي قال في برنامج القناة الثانية «وماذا بعد»، عندما سأله حميد برادة، وهو يغالب النوم، «ماذا ستصنعون في قضية «المساء»، فرد عليه الناصري وهو يفرك يديه «ما عليهم سوى أن يدفعوا». حدث هذا حتى قبل أن تصدر محكمة الاستئناف حكمها في حقنا، وكأن سعادة الوزير كان متأكدا من أن الحكم سيكون بالدفع. وهاهي المحكمة تعطيه الحق وتحقق بشارته الشيوعية «المباركة».
أما الوزير بدون، السي محمد اليازغي، ضحية الأظرفة الملغومة خلال سنوات الرصاص الذي منعت جريدته «المحرر» أكثر من مرة، فقد صام عن التعليق على الحكم الملغوم الذي صدر ضد «المساء» حتى كتبنا مقال «الخطايا السبع»، حيث أشرنا إلى مسؤولية وزارة العدل في هذا الحكم الظالم. ففكت عقدة لسانه وقال لنشرة المغاربية بقناة الجزيرة أن الاتحاد الاشتراكي لا يتحمل أية مسؤولية في هذا الحكم. وكأن عبد الواحد الراضي، الذي يتبع لوزارته القضاة الأربعة الذين سمح لهم المجلس الأعلى للقضاء بمقاضاة «المساء»، ينتمي إلى حزب الخضر وليس إلى الاتحاد الاشتراكي.
نعم يا سعادة الوزير بدون، الاتحاد الاشتراكي يتحمل المسؤولية السياسية في كل الأحكام القاسية والظالمة ضد الصحافة المستقلة، منذ عهد بوزوبع إلى عهد الراضي. اللهم إذا كان الحزب يخلي مسؤوليته من كل ما يقوم به وزراؤه في الحكومة التي يشاركون فيها باسمه، عملا بالحكمة التي تقول «ياكل مع الذيب ويبكي مع السارح».
وعدا هذين الوزيرين اللذين نفى أحدهما مسؤولية حزبه في الحكم، فيما الثاني رأى فيه تحقيقا لإجماع وطني، فإن كل الوزراء الآخرين، سياسيين وتيكنوقراطيين، بلعوا لسانهم وأحجموا عن إعطاء رأيهم في الحكم.
وأكبر الصامتين هو الوزير الأول الذي لم يحملنا يوما في قلبه، فقد تعود على استدعاء الصحافة جميعها إلى بيته إلا نحن، وكأنه يخشى على نفسه أن ننقل إليه عدوى الجرب. وفضل الوزير الأول أن يتصرف وكأن الإجهاز على أكبر جريدة عنده في البلد مسألة تافهة لا تستحق منه حتى مجرد تصريح.
والكارثة أن جريدته التي يرأس تحريرها رئيس شبيبة الحزب، عبد الله البقالي، لم تنشر حتى بيان النقابة الوطنية للصحافة المتضامن مع «المساء»، والتي يشغل فيها عبد الله البقالي «يا حسرة» نائب الرئيس.
في فرنسا قامت القيامة لمجرد أن صحافيا اقتيد أمام المحكمة بالقوة. فخرج الرئيس ووزيرة العدل ووزراء الحكومة عن صمتهم ونظموا الندوات الصحافية لتطمين الرأي العام بأن العدالة ستأخذ مجراها باستقلالية.
وعندنا يجهزون على الصحف والصحافيين أمام صمت الحكومة ووزرائها، وأمام الغياب شبه الكامل للبرلمان داخل مؤسسة الشعب.
إن الأولى بالتعبير عن خجله من الانتماء لبلده ليس هو «جاك لانج»، وإنما هم المغاربة بسبب وزرائهم الذين يخافون حتى من التعبير عن موقف بسيط. مجرد موقف، رغم أن فيهم التقدميين واليساريين والشيوعيين.
نخشى أن يأتي علينا اليوم الذي نكون فيه مضطرين لرفض الامتثال لهذه العدالة التي أصبحت فاقدة لرشدها. فنحن نحترم القضاء ونمتثل أمامه كلما دعانا للوقوف بين يديه. لكننا نحترم القضاء العادل والمستقل، أما القضاء الانتقامي وقضاء التصفيات الذي يريد أن يزرع في قلوبنا الرهبة والرعب منه ومن رجاله، فهذا قضاء ترفضه النفس الأبية ولا يستحق أن يمتثل له الإنسان الحر.
نخشى على أنفسنا وعلى القضاء وعلى البلد من ذلك اليوم. لذلك سنظل نصرخ ملء حناجرنا ونحن نرى قضاءنا يتعرض لكل هذه المهازل «أليس بينكم رجل رشيد».

0 التعليقات:

إرسال تعليق