السبت، 14 نوفمبر 2009

دبلوماسية الخرفان

دبلوماسية الخرفان

للمغاربة أشكال طريفة ومدهشة، وأحيانا مخيفة في التعبير عن احتجاجهم. بعد استنفاد جميع أشكال الاحتجاج من طرف المعطلين في شوارع الرباط، من شرب للبنزين ومسحوق سم الفئران واقتحام الوزارات وإضرام النار في الأجساد، اهتدى معطلو التجمع المغربي للأطر العليا المعطلة إلى فكرة جهنمية لإفساد المهرجان الموسيقي الذي تنظمه اتصالات المغرب وسط العاصمة. فظلوا يحضرون معهم طيلة ثلاث أمسيات الأدوات المنزلية من«المقالي» و«الطناجر» ويشرعون في العزف عليها موسيقاهم الاحتجاجية الخاصة. وبالإضافة إلى العزف على «الطناجر» نظم المعطلون على شرف زوار العاصمة وسياحها معرضا متجولا لآخر اللوحات التشكيلية التي رسمتها عصي قوات الأمن والقوات المساعدة. وبعضهم يحمل صراحة على جسده لوحات تشكيلية غاية في السريالية، بحيث أن سالفادور دالي نفسه لو شاهدها لظل واقفا أمامها فاغرا فاه من شدة تجريدها، نسبة إلى التجريد من الإنسانية وليس إلى الفن التجريدي طبعا. فما دام متحف الفنون الجميلة الذي دشنه الأشعري وزير الثقافة السابق أكثر من ثلاث مرات، دون أن يظهر هناك من أمل في عهد وزيرة الثقافة الجديدة يبشر بقرب فتح أبوابه في السنوات المقبلة، فإن المعطلين سيتكفلون بتعويض زوار العاصمة وسياحها عن هذا النقص الفني الكبير، وذلك بتحويل أجسادهم إلى لوحات معروضة في الهواء الطلق. وحسب ألوان وآثار الضرب التي تتركها قوات الأمن، بفنية عالية، على أجساد هؤلاء المعطلين، فيمكننا الجزم بكل تأكيد، وهذا ما لن يخالفنا فيه نقاد الفنون التشكيلية، بأن المدرسة التشكيلية التي تنحدر منها قوات العنيكري والشرقي أضريس هي المدرسة التكعيبية. ومن كثرة ما كعبوا المعطلين والمحتجين أمام البرلمان، فإن بيكاسو نفسه لو كان حيا وشاهد كيف يرسم هؤلاء التكعيبيون الجدد لوحاتهم على أجساد المواطنين، لنسي لوحته الشهيرة حول الحرب الأهلية الإسبانية، وبدأ لوحة جديدة مستوحاة من حرب العصابات اليومية بين قوات الأمن والمعطلين في شوارع العاصمة.
وإذا كان المعطلون يحتجون على حكومة عباس الفاسي التي تنصلت من كل وعودها الانتخابية التي شيدتها على أكذوبة التشغيل، بالبنزين والطناجير واقتحام مقرات الوزارات وقطع الشوارع في وجه حركة المرور، فإن مهاجرا مغربيا يئس من استرجاع حقه عبر القضاء فلم يجد من وسيلة لإثارة الانتباه إلى مأساته سوى اقتناء كبش صردي بقرنين ملتويين وذبحه أمام مسجد السنة، على بعد خطوات من القصر الملكي بالرباط.
وقد ضمن المهاجر المغربي ظهور صورته إلى جانب أضحيته مرتديا لافتة من القماش تلخص نقط ملفه المطلبي بالإضافة إلى شعار يقول «شكايتي إلى الله وإليك يا أمير المؤمنين»، في وسائل الإعلام المقربة من القصر، والتي سارعت إلى نشر صورته واقفا على رأس خروفه المذبوح فوق عشب حديقة المسجد، وبالتالي ضمن وصول رسالته إلى من يعنيهم الأمر. ويبدو أن الصحافة الرسمية وجدت هذه الطريقة الجديدة في الاحتجاج على العدالة المغربية من الجنة والناس. ما دام الخطاب السائد في هذه الصحافة منذ الخطاب الملكي الأخير هو جلد القضاء يوميا تقريبا، واستضافة سياسيين ومحللين «محنكين» لكي يشرحوا جسد هذا القضاء المتعفن، ويتدربوا في خياطته كل حسب مهارته ومضاء إبره. لذلك فإن قصة هذا المهاجر المغربي الذي استنفد كل درجات التقاضي دون أن يتمكن من استرجاع ما يعتبره حقه، تفيد كمثال حي لشرح مضامين الخطاب الملكي الأخير حول ضرورة إصلاح القضاء.
فأن يلجأ أحد المواطنين إلى تحويل ساحة مسجد السنة القريبة من المشور الملكي إلى مذبح يحز فوقه عنق الكبش من أجل طلب تدخل ملكي لإنصافه، تحول جديد ونوعي في طريقة احتجاج المغاربة وتعبيرهم عن عدم الرضا عن عدالتهم. ولو أن عادة تقديم الأضحية للأعتاب الشريفة لطلب التدخل أو لاستدرار السماح، لم تبدأ مع هذا المهاجر المغربي، وإنما كانت عادة مخزنية قديمة درج على العمل بها في القصور والمجالس السلطانية.
ولعل الإدريسي القيطوني مدير جريدة «لوبنيون» الناطقة بلسان حزب الاستقلال سيتذكر، عندما سيرى صورة المهاجر المغربي واقفا أمام خروفه المذبوح قريبا من باب المشور، موقفا مشابها عاشه قبل عشرين سنة تقريبا.
فلم يكن القيطوني يعرف أنه سيجلب على نفسه غضب الحسن الثاني عندما ترجم رئيس تحريره خالد الجامعي نص بيان أصدرته إحدى الجمعيات الحقوقية التابعة لحزب الاستقلال ونشره على صفحات جريدة «لوبنيون». وكان من نتائج هذا المقال أن رفعت الدولة المغربية دعوى قضائية ضد مدير «لوبنيون» وحكمت عليه المحكمة بعامين سجنا.
ولم تجد كل تدخلات حزب الاستقلال نفعا في تليين حكم العدالة. وكان هناك من أفتى عليهم فتوى نزلت عليهم كالمن والسلوى، وهي أن الشرفاء في ما بينهم لا يحتاجون إلى عدالة الناس العاديين لتسوية مشاكلهم وخلافاتهم. وما دام القيطوني ينتمي إلى الزاوية الإدريسية، فقد تشكل وفد من شرفاء هذه الزاوية نزلوا من فاس وذهبوا إلى المشور الملكي بالرباط واعتصموا فيه لكي يطلبوا الصفح لأحد أبناء زاويتهم على الخطأ الذي ارتكبه في حق الدولة العلوية.
وطبعا كان لا بد من خروف بين أعضاء الوفد، وعندما وصلوا إلى باب القصر ذبحوا الأضحية هناك تعبيرا عن استدرارهم لعطف الحسن الثاني وطلبهم لرضاه ومسامحته.
وهكذا تم طي الملف ولم يذهب الإدريسي القيطوني إلى السجن ولا هم يحزنون. لحسن الحظ أن «دبلوماسية الخرفان» هذه غابت بغياب الحسن الثاني. وها نحن اليوم نكتشف أنها تعود من جديد، وعلى يد مواطن لا ينتمي إلى أية زاوية من زوايا الشرفاء، دون أن يعني ذلك أنه ليس مواطنا شريفا بالضرورة.
ولعل واحدة من أغرب طرق الاحتجاج التي برع فيها المغاربة مؤخرا، هو قيام فرد من أفراد القوات المساعدة بالسير حافي القدمين نحو مركز القيادة بالرباط ليحتج على حرمانه من حقه في الترقية الأخيرة.
ولولا أن هذا المخزني كان يلبس الكسوة العسكرية وهو يسير حافيا لأمكن خلطه بسهولة بأحد مناضلي الحزب العمالي الذي نزل مناضلوه ذات يوم إلى شارع محمد الخامس بقيادة رئيسه بنعتيق حاملين أحذيتهم فوق رؤوسهم احتجاجا على قانون العتبة الذي صوتت عليه الأحزاب الكبيرة لإقصاء الأحزاب الصغيرة من المشاركة في الانتخابات.
ولعل المغرب هو الدولة الوحيدة في العالم التي ترتبط فيها الترقية بالاحتجاج. فالترقية في كل بلدان العالم مناسبة للفرح والابتهاج، إلا عندنا نحن فهي مرتبطة بالمندبة والنواح.
ولازال الجميع يتذكر ترقية البوليس التي كان من نتائجها المباشرة إضراب مجموعة من رجال الأمن عن العمل في وجدة في سابقة تاريخية من نوعها. خصوصا عندما اكتشفوا أن بعض الذين شملتهم الترقية انتقلوا إلى رحمة الله الواسعة، بينما الأحياء ظلوا في رتبهم.
وعندما تم الإعلان عن ترقية رجال القوات المساعدة كشف المخزني حافي القدمين الشجرة التي تخفي غابة الاحتجاجات، فتشكلت لجنة لإعادة دراسة لوائح الترقيات.
أما العسكر، فمنهم من قضى خمس عشرة سنة بدون ترقية بسبب تقارير المكتب الخامس الذي يضع لوائح بأسماء الضباط الممنوعين من الترقية والذين ينتهون في الحاميات العسكرية، والتي تم استثناؤها جميعها هذه السنة من الترقية. وهناك من الضباط من درس عسكريين ودربهم ووصلوا عليه في الرتبة وفاتوه. فأصبح مطالبا بعد أن كانوا يعطونه التحية العسكرية أن يعطيها لهم هو اليوم. فعن أي احترام للتراتبية العسكرية يمكن أن نتحدث هنا.
وطبعا فتقارير المكتب الخامس حول الضباط لا تناقش، كل من «وثقه» المكتب الخامس بتقرير فيمكن أن يقول للترقية وداعا.
وأحيانا تكون التقارير التي تقود بعض العسكر إلى المحاكمات العسكرية تتعلق بنسيان إعطاء التحية لجنرال، أو عدم الاعتدال في الوقفة عند مرور كولونيل. لكن عندما يتعلق الأمر بتزوير في محضر يقوم به التريكي صهر الجنرال حسني بنسليمان فإن المحكمة العسكرية تسمح في حقها وتغمض عينيها.
فالقانون في هذه البلاد معمول لصغار المواطنين ممن ليس لهم شرف الانتساب إلى العائلات الشريفة.
أما المواطنون «الشرفاء» فلهم قانونهم الخاص الذي يحميهم ويحمي أبناءهم من بعدهم.
نتمنى من المحللين «المحنكين» الذين يتحدثون هذه الأيام في صحافة المخزن عن الفساد القضائي على هامش الخطاب الملكي الأخير، أن يعللوا حديثهم عن الفساد القضائي في المملكة بهذا المثال الفاضح للإفلات من العقاب.
لأن صلب النقاش حول الفساد القضائي يتلخص في سؤال واحد وبسيط، وهو هل نحن جميعا في هذه البلاد سواسية أمام القضاء أم لا. الباقي كله مجرد تفاصيل.

0 التعليقات:

إرسال تعليق