الجمعة، 13 نوفمبر 2009

الفاكتور

الفاكتور

عندما ركب فؤاد عالي الهمة فوق جراره وذهب إلى مراكش لكي يلقي محاضرة أمام حشد من المدعوين، لم يكن ينتظر أن يجد عند مغادرته للقاعة التي أعدتها له ميلودة حازب، التي تضع رجلا في فريق الهمة كمستشارة ورجلا في حزب الاتحاد الوطني الديمقراطي، عشرات الرسائل التي أوصاه أصحابها بإيصالها إلى الديوان الملكي. حتى أن أحد ممثلي السكان خاطب عالي الهمة قائلا «ها العار أسي علي لما وصل هاد الأمانة لسيدنا».
وبمجرد ما غادر عالي الهمة مراكش كان اللسان المراكشي يصوغ للوافد الجديد لقبه الجديد الذي سيلاحقه بلا شك طيلة رحلاته المنتظرة لمختلف مدن المملكة. وهكذا اختار المراكشيون أن يسموه «الفاكتور». فيبدو أن مهمته الجديدة بعد مغادرته لوزارة الداخلية هي هذه بالضبط، أن ينقل رسائل المواطنين إلى الديوان الملكي عند نهاية كل لقاء جماهيري. وربما لهذا السبب اختار رمز التراكتور لفريقه البرلماني، فالتراكتور وحده يستطيع أن يحمل كل تلك الأكياس من الرسائل إلى الرباط. ولهذا السبب يستحق فؤاد عالي الهمة لقب «الفاكتور مول التراكتور» عن جدارة واستحقاق.
ومن يعتقد أن مهمة «الفاكتور» سهلة ما عليه سوى أن يتأمل قراره الأخير بتأجيل لقاء الدار البيضاء إلى يوم أمس الأحد، خصوصا بعد أن أسر إلى عمدة المدينة محمد ساجد بأن بعض الانتهازيين يتاجرون في الدعوات التي تبعثها إدارة «الحركة» ويعيدون بيعها بأثمان مغرية. خصوصا لبعض أصحاب «السوابق» الانتخابية، و«البايرين» حزبيا الباحثين عن تجديد بكارتهم السياسية. فضلا عن بعض البراغيث «المحلية» التي تبحث عن أية «قرفادة» سمينة لكي تلتصق بها وتمتص نصيبها من دماء الوطن.
ومن أجل اكتشاف هؤلاء الانتهازيين الذين يتسللون بين الحاضرين لكي «يتبندو» أمام الكاميرات التلفزيونية التي تتابع أول بأول أنشطة «الحركة»، ستقوم اللجنة التنظيمية بإعادة التفرج على تسجيلات الفيديو للقاءات سابقة، من أجل تفحص تصريحات وسلوكيات المتدخلين بحثا عن رائحة الانتهازية فيها.
ومن سوء حظ الهمة وحركته أن التقدم العلمي في مجال التحاليل الطبية لم يتوصل بعد إلى تحليل يعطي نسبة الانتهازية في الدم. وإلا لكان هذا التحليل أعفى «الحركة» من التفرج على كل التدخلات المملة والسخيفة المسجلة بعد كل لقاء. كما كان سيعفيها أيضا من وجود بعض الانتهازيين داخل دواليبها. مما يسدل ستارا كثيفا حول النوايا الحقيقية لصاحب «الحركة» في هذه الظروف السياسية العكرة. هناك ظروف، كما قال «غريغوار لاكروا»، «يصبح فيها مجرد تصرف عادي شيئا مثيرا للشكوك». أو كما قال «أندري مالرو»، «حقيقة الرجل هي أولا ما يخفيه». وإلى الآن لم نشاهد من الهمة سوى ما يبدبه من نوايا حسنة. في جهل تام بالمثل الفرنسي الذي يقول أن «طريق الجحيم مفروش بالنوايا الحسنة».
وبما أن أصدقاءنا السياسيين لا يحبون الكتاب والمثقفين، لأنهم يكشفون انتهازيتهم المقيتة، فإننا لم نسمع سياسيا مغربيا واحدا يستشهد بفكرة قالها كاتب أو مفكر أو فيلسوف في إحدى مداخلاته أو لقاءاته التلفزيونية.
الوحيد هذه الأيام الذي استوحى اسم مؤسسته من موسيقار عالمي هو «أماديوس». هكذا تأسس قبل أسبوعين في الرباط نادي للتأمل تحت اسم هذا الموسيقار الموهوب، يرأسه ابن الطيب الفاسي الفهري وزير الخارجية، الذي لا يتجاوز عمره 23 سنة. ومن بين أهداف هذه المؤسسة التفكير في مستقبل المغرب والدفاع عن مصالحه في الخارج وحشد الدعم لقضاياه الوطنية.
وهكذا فالمغرب الذي شيبت مشاكله ثعالب السياسة العجوزة، وأسقطت أسنان عتاة الزعماء الحزبيين، ينتظر من ابن الثالثة والعشرين أن يقود جوقة من المفكرين نحو الحل لأزمة المغرب العميقة.
وقد يقول قائل أن الموهبة السياسية والفكرية لا علاقة لها بالسن، فكم من عبقري استطاع أن يبهر العالم وهو في بداية حياته. لكن أن يكون والدك هو الفاسي الفهري وزير الخارجية، وعمك هو عثمان الفاسي الفهري مدير شركة الطرق السيارة بالمغرب، وعمك الآخر هو علي الفاسي الفهري مدير في المكتب الوطني للماء الصالح للشرب، الذي ليست زوجته سوى ياسمينة بادو وزيرة الصحة، التي كان جدها وزيرا للعدل، فهذا ما يجعلك تشك في أن هناك في الأمر شيئا آخر غير الموهبة.
وفي الوقت الذي تنهال فيه هراوات رجال الأمن على ظهور أبناء الشعب أمام البرلمان يوميا، يأخذ أبناء الوزراء والموظفين الكبار مناصب المسؤولية في المؤسسات والشركات العمومية الكبرى. وعندما تصبح سياسة التشغيل في المؤسسات العمومية هي سياسة «باك صاحبي»، فإن العجب يزول بظهور السبب.
ولسبب غامض وجد رشيد السليمي، المدير العام لشركة الإيداع والتدبير، قطب الاستثمار، «يستثمر» في أبناء الاتحاديين. فقد وضع مامون الحليمي، ابن أحمد الحليمي رئيس المندوبية السامية للتخطيط، على رأس إحدى الشركات المتفرعة عن المؤسسة، بينما عين عمر اليازغي، ابن محمد اليازغي الوزير بدون حقيبة، على رأس فرع آخر من فروع صندوق الإيداع والتدبير، بعد أن غادر طنجة التي كان يشغل بها منصبا مهما في شركة «جاكوب دولافون».
وطبعا نحن لا نحسد أبناء هؤلاء الوزراء على هذه النعم، فقط نطلع عليها الرأي العام انسجاما مع واجبنا «الفاكتوري». دون أن نغفل طبعا ترديد تلك الحكمة المغربية التي تقول «سعدات اللي عندو جداتو فالعرس».
ولو كان أحمد حرزني ومعه كل المتضايقين من حرية الصحافة في الطبقات العليا للنظام يقرؤون (شيئا آخر غير الحسيفة)، لكانوا وقعوا خلال مطالعاتهم على كتاب «الديمقراطية في أمريكا» لطوكفيل. ولعثروا على جملة تلخص «حيرتهم» الكبيرة أمام هذه الصحافة التي تتحرش بهم يوميا، يقول طوكفيل «أنا مع حرية الصحافة ليس للخير الذي تصنع، ولكن للشر الذي تمنع حدوثه». عندما تنطلق صفارة إنذار في مصنع للخشب فالحكمة تقتضي فتح أبواب الإغاثة، لا تكسير صفارة الإنذار.
وهكذا فإذا كان هناك فاكتور بالفعل فهو الصحافي نفسه. لأنه ينقل يوميا الرسائل المتبادلة بين السياسيين والرأي العام. حتى عندما لا يدعوهم الوزير الأول عباس الفاسي إلى لقاءاته المغلقة، كما صنع نهاية هذا الأسبوع عندما التقى بعض أعضاء المعارضة في بيته، فإن الصحافيين يتسقطون أخباره ويتلقطون رسائله السرية المكتوبة بالحبر الصيني.
كان لقاء عباس بمعارضيه مناسبة لكي يؤكد لهم أنه يشتغل. فهو أيضا يبعث الرسائل. خصوصا إلى الدول الشقيقة والصديقة بمناسبة أعيادها الوطنية. وأحيانا يذهب ليعزي مكان الملك. مع أنه إلى حدود الآن لم يذهب إلى سيدي إفني ليعزي أهلها في كرامتهم التي داستها أحذية رجال الثلاثي العنيكري وبنسليمان والشرقي أضريس. وأضاف عباس أنه يمارس سلطاته كلها كوزير أول، وليس هناك شيء يحدث دون إذنه. هل يعني هذا أن عباس هو من أعطى الأمر بتعذيب سكان سيدي إفني وإهانة كرامتهم ومحاصرتهم بأربعة آلاف رجل أمن. نشك في ذلك، خصوصا عندما سمعناه «يغطي» من العيون أحداث سيدي إفني في نشرة أخبار التلفزيون، نافيا وقوع أية أحداث.
حدس عباس ليس مخطئا عندما يذهب إلى أن هناك جهات تحاول أن تورطه وتظهره أمام الرأي العام كوزير أول عاجز عن اتخاذ القرارات في الوقت المناسب. وليس مستبعدا أن هذه الجهات خططت بعناية للمشهد الرهيب في سيدي إفني مسبقا ثم «مسحت الموس» في ثياب عباس، لكي تدق مسمارا جديدا في نعش حكومته، التي يبدو أن هناك من يسخن لها الماء لكي يغسلها ويكفنها. فالحديث النبوي الشريف يقول «إكرام الميت دفنه».

0 التعليقات:

إرسال تعليق