السبت، 23 يناير 2010

برنامج «مخطوفون»

برنامج «مخطوفون»

في إحدى المقابر المغربية كان نفر من المشيعين يدفنون أحد أموات المسلمين، فمر بالقرب منهم أحد العابرين وسألهم من يكون الميت. فأجابه أحدهم بأنه سياسي مغربي نظيف. فابتسم مستغربا وسألهم كيف يستطيعون دفن رجلين في قبر واحد. فأجابوه مندهشين من كلامه بأنهم لا يدفنون رجلين في قبر واحد وإنما رجلا واحدا فقط. فقال لهم إن الرجل في المغرب لا يمكن أن يكون سياسيا ونظيفا في الوقت نفسه.
طبعا، صاحبنا يعمم حكمه على جميع السياسيين، وفي هذا غبن لقلة قليلة منهم يصرون على المحافظة على نظافة ذممهم وسط الوحل الذي يشتغلون فيه.
في مقبرة أخرى هذه المرة، واسمها مقبرة سيدي سليمان بالقرب من باب دكالة بمراكش، كانت عائلة المنصوري، تواري الثرى جثمان فرد من أفرادها قبل أسبوع، ويتعلق الأمر بعبد الرحمان المنصوري، باشا مراكش السابق وسفير المغرب السابق في دولة الإمارات.
وقد كانت هذه الجنازة مناسبة جمعت في مقبرة سيدي سليمان أغلب سياسيي مراكش وحزبييها ومسؤوليها ورسمييها. وهكذا اختلطت عبارات عزاء ومواساة بعضهم بآخر أخبار التحالفات الحزبية في المدينة، خصوصا بعدما أفصح حزب الأصالة والمعاصرة عن نيته ترشيح المحامية فاطمة الزهراء المنصوري لمنصب العمدة مكان الجزولي. وهي، بالمناسبة، ابنة الراحل عبد الرحمن المنصوري الذي غادر دار الباطل إلى دار الحق.
وإذا كان باشا مراكش السابق قد غادر إلى دار الحق، فإن كثيرا من المرشحين الناجحين في الانتخابات الجماعية قد غادروا دورهم إلى دور أخرى سرية لا يعلم مكانها حتى الجن الأزرق. وفجأة اختفى عشرات الأعضاء الجماعيين المنتخبين حديثا عن الأنظار في أغلب المدن، وأصبحوا محط بحث من طرف عائلاتهم، إلى الحد الذي أصبح معه بعضها يفكر في التوجه إلى برنامج «مختفون» لكي يبحث لها عن هؤلاء «المخطوفين». والواقع أن هؤلاء الأعضاء ليسوا مختطفين كما تنشر الصحافة هذه الأيام. وإنما هم مختفون عن الأنظار في فيلات وفيرمات فلاحية نائية، يأكلون «البصطيلة» ويشربون الأنخاب وينامون في انتظار تشكيل المجالس البلدية. وهكذا يجمع الباحثون عن رئاسة المجالس الأعضاء الذين يعطونهم «الكلمة» للتصويت عليهم للرئاسة في ضيعة أو فيلا بعيدة، و«يعتقلونهم» هناك إلى حين وصول يوم انتخاب الرئيس، فيسوقونهم سوقا إلى مقر البلدية مباشرة نحو قاعة الاقتراع.
وكم يبدو سعر الصوت الذي باعه المواطنون خلال الانتخابات مضحكا وسخيفا بالمقارنة مع أسعار أصوات «المخطوفين». فثمن صوت «المخطوف» يتراوح بين 50 مليونا و120 مليون سنتيم. وطبعا، هذه الأسعار مرشحة للمزيد من الارتفاع، خصوصا في المدن الكبرى التي تتصرف مجالسها البلدية في ميزانيات تقدر بملايير الدراهم.
وهنا نفهم إصرار بعض المرشحين على دخول غمار الانتخابات والاستماتة في الفوز بمقعد مهما كلف الثمن. فهم يعرفون أن المقعد الذي سيفوزون به سيجعلهم يسترجعون كل الأموال التي صرفوها في شراء الأصوات منذ الأسبوع الأول لفوزهم.
برنامج «مخطوفون» الذي يتم تصوير حلقاته في أغلب المدن هذه الأيام يكشف بوضوح أن انتخابات المجالس البلدية لم تتغير عما كانت عليه زمن إدريس البصري، حتى إن وجوها كالحة من ذلك الزمن الغابر (من التغبار) خرجت من صناديق الاقتراع وعادت إلى مجالس المدن التي نهبتها في السابق.
ولعل الفرق الوحيد بين انتخابات السي ادريس وانتخابات السي بنموسى هي نسبة المشاركة التي يقولون اليوم إنها وصلت إلى 51 في المائة. فالنسب المائوية الخارقة للعادة والتي كانت تعلن عنها وزارة الداخلية في عهد البصري كانت كلها مزورة.
وإذا كانت لدى داخلية البصري طريقة مفضوحة في رفع نسب المشاركة، وذلك بالإعلان دائما عن تسعين في المائة فما فوق، فإن داخلية بنموسى لديها طرق أكثر دهاء، وهذا راجع إلى مهارات المهندس شكيب الحامل لدبلوم «إيمايتي» الأكثر شهرة في العالم.
ولكي ترفع وزارة بنموسى نسبة المشاركة لجأت إلى طريقة بسيطة تتكون من فكرتين. الأولى إلغاء تسجيل كل تلك الملايين من الناخبين الميؤوس من مشاركتهم في الاقتراع. وهي تلك الملايين من المواطنين الذين سجلتهم وزارة الداخلية خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة وخيبوا آمالها ولم يصوتوا. وبما أن المهندس بنموسى يطبق منطوق الحديث الشريف الذي يقول إن المؤمن لا يلدغ من الجحر مرتين، فقد استوعب درس مقاطعة ملايين المواطنين المسجلين لصناديق الاقتراع. ولذلك عندما ذهب كثير من هؤلاء الذين قاطعوا الانتخابات البرلمانية للمشاركة في الانتخابات الجماعية اكتشفوا أنهم غير مسجلين. فقد شطبت عليهم وزارة الداخلية من لوائحها حتى تتجنب الإعلان عن نسبة عالية للمسجلين في اللوائح. وطبعا، عندما تخفض الداخلية من نسبة المسجلين في اللوائح فإن نسبة المشاركة في الاقتراع ترتفع، وكلما زادت نسبة المسجلين كلما نزلت نسبة المشاركة. وهذا ما يسميه المغاربة «كمشة نحل حسن من شواري دبان».
الطريقة الثانية التي رفعت بها وزارة بنموسى نسبة المشاركة هي وقوفها على الحياد عندما وصلتها أخبار نسب المشاركة المتدنية خلال الفترة الصباحية والزوالية. وهكذا فهمت أن تشددها في مراقبة استعمال المال في الانتخابات سيؤدي إلى بقاء نسبة المشاركة في حدود العشرة في المائة. وهي النسبة التي كانت ستكلف بنموسى ورجاله مناصبهم لا محالة.
وهكذا شهدت كل مدن المملكة في الفترة الممتدة ما بين الثانية بعد الزوال إلى حدود الساعة السابعة، موعد إقفال مكاتب التصويت، استعمالا سخيا للمال من أجل شراء الأصوات بالعلالي. ورأينا كيف هدد بعض المنتخبين بإحراق أنفسهم في الدار البيضاء احتجاجا على استعمال خصومهم للمال من أجل الفوز، وكيف تعرى البعض الآخر وسط الشارع وهو يرى التزام السلطة الحياد أمام المرشحين الذين كانوا «يتفاصلون» مع المواطنين على أصواتهم بدون خوف من المتابعة.
وهكذا «حجت» الألوف المؤلفة من الناخبين نحو صناديق الاقتراع. ومنهم من جاء بهم أصحاب دعوتهم في الحافلات والسيارات الخاصة لكي يلبوا نداء الواجب الوطني مدفوع الأجر مسبقا.
وهكذا حصلنا، في النهاية، بفضل عبقرية وزارة بنموسى، على نسبة مشاركة تفوق الخمسين في المائة، في الوقت الذي رأينا فيه كيف تندب أعرق الديمقراطيات بأوربا حظها التعيس وهي تكتشف أن نسبة مشاركة مواطنيها في الانتخابات البرلمانية الأوربية لم تتجاوز أربعين في المائة.
وكم اندهشت وأنا أتابع تقريرا في إحدى القنوات الفرنسية عشية الإعلان عن نتائج الانتخابات الأوربية حول مواطنين فضلوا الذهاب في ذلك الأحد إلى شاطئ البحر عوض الذهاب إلى صناديق الاقتراع. وقلت في نفسي أنه لو غامر مدير أخبار في التلفزيون المغربي بإنجاز تقرير مماثل لعلقوه أمام باب مكتبه لكي يكون عبرة لغيره. فبسبب تخويف المواطنين من العزوف وتصويره ككارثة مدمرة تتهدد استقرار البلد، أصبح الجميع يتجنب الحديث عن العزوف مخافة اتهامه بزعزعة عقيدة ناخب. هذا في الوقت الذي تتحدث فيه قنوات الإعلام العمومي في أوربا عن العزوف بدون عقد، محاولة فهم أسبابه وقراءة رسائله السرية.
وهكذا أغفلت وزارة بنموسى الحديث عن كل التجاوزات التي عرفتها الانتخابات الجماعية، وتلك التي تعرفها الآن، وأصبحت تتحدث فقط عن المشاركة.
سيقرأ بنموسى هذا الكلام وطبعا لن «يصور» منه لا حقا ولا باطلا، وكل ما سيقوله في سره وهو يبتسم: المهم هو المشاركة ...

0 التعليقات:

إرسال تعليق