السبت، 23 يناير 2010

مغرب المتناقضات

مغرب المتناقضات

قد لا يتسع المجال لعقد مقارنات بين زحام ملعب «النهضة» بالرباط الذي زهقت فيه إحدى عشرة روحا ليلة السبت الماضي، وبين زحام باب سبتة الذي زهقت فيه روحا امرأتين مغربيتين صباح الاثنين، لكن رغم الفرق بين المكانين والزمنين فإن ملاحظة كبيرة تفرض نفسها، فالحادثتان تكشفان عن مغربين يسيران بسرعتين متناقضتين تماما. ففي الوقت الذي يتزاحم فيه مغاربة في الرباط على باب الخروج من حفل موسيقي صاخب ليلة السبت، ويسقطون في حفرة «نصبتها» لهم الجهة التي تتحمل مسؤولية الإشراف على الملعب لكي تدوسهم أقدام الجمهور الجافل، نلاحظ كيف أن مغاربة آخرين يصارعون بعضهم البعض على بوابات مدينة مغربية محتلة لكي يهربوا من أسواقها سلعا فوق ظهورهم، فيتزاحمون ويدوسون بعضهم البعض ويموتون تحت الأقدام لإنقاذ اقتصاد المدينة المحتلة من الاختناق. في الرباط يتزاحم المغاربة على الفرجة والرقص والترفيه، وفي باب سبتة يتزاحمون على كسرة الخبز المغموسة في الذل. تعدد الزحام والموت واحد.
هذا جزء بسيط من هذا المغرب المتناقض الذي يسير بسرعتين، واحدة مكوكية وأخرى سلحفاتية. مغرب يدفع للفنانين العالميين الدولار بسخاء ومغرب يتوسل أبناؤه الخبز على عتبات الجيران.
مغرب متناقض حتى في أسماء أحيائه وساحاته. الساحة التي زهقت فيها إحدى عشرة روحا يسمونها «النهضة»، فيما الاسم الذي يليق بها بعد سقوط كل هؤلاء الضحايا في إحدى حفرها هو ساحة «السقطة» وليس «النهضة». أما الحي الذي استقبل أربع جنازات في يوم واحد بالرباط فاسمه «حي الفرح»، مع أن الاسم الذي يليق به منذ الآن هو «حي القرح».
من يأتي إلى المغرب ويشاهد كل مهرجاناته الباذخة، التي تحج إليها الآلاف المؤلفة من البشر، يعتقد أن البلاد بخير والناس تعيش في مأمن من الضيق. وعندما يذهب إلى باب سبتة ويرى كل تلك الآلاف المؤلفة من البشر تسير يوميا في صفوف طويلة مثل النمل محملة بأطنان من السلع المهربة، تتحمل سياط الأمن الإسباني والمغربي، وتسقط تحت الأقدام لتداس حتى الموت، يكتشف مغربا آخر دفع مسؤولوه أبناءه إلى احتراف تسول لقمة العيش بمهانة على أبواب الجيران الموصدة.
كثيرون استغربوا كيف أن السلطات العمومية تهاونت في ضمان الأمن للمتفرجين خلال سهرة «الستاتي» التي تابعها «الشعب»، من أجل توفير الأمن الكافي لسهرة «ستيفي ووندر» التي حضرها «الألبة» وعلية القوم. وكأن هؤلاء المستغربين لم يزوروا يوما أحياء السويسي والرياض وبير قاسم لكي يروا كيف هي محروسة مداخل الأحياء والفيلات الراقية التي يقطنها هؤلاء «الألبة» بالبوليس ورجال الأمن الخاص. أما أحياء «عكراش» ودوار «الحاجة» ودوار «الدوم» و«الواد الخانز» ودوار «لاحونا» ودوار «الكرعة» (شوف غير السميات يخلعوك) فإن الدخول إليها بعد نزول الظلام يحتاج إلى حماية دولية حتى لا يلعب أحدهم في وجهك بشفرته الحادة.
إن الأمن الذي يهم الداخلية في مغرب اليوم هو أمن البنوك حيث تودع أموال «الخانزين فلوس». أما الأحياء والشوارع والأزقة المظلمة حيث تودع أرواح المواطنين البسطاء، فتتكفل بها سكاكين اللصوص وسيوف قطاع الطرق الذين يتكاثرون بشكل مرعب. لذلك أصبح الجميع يتسلح بسكين في هذه البلاد، حتى أصبحنا شعبا من حملة السكاكين. ولذلك ليس مستغربا أن الكثير من الجرحى الذين وصلوا إلى المستعجلات بسبب اختناق ملعب «النهضة»، كانت جراحهم ناتجة عن دخول سكاكينهم في لحوم بعضهم البعض بفعل الزحام.
في المهرجانات العالمية التي تقام في الساحات العامة، يتم تفتيش المشكوك في هوياتهم بدقة قبل ولوج الساحات، لأن متهورا واحدا وسط سبعين ألف متفرج يمكن أن يتسبب في كارثة يموت فيها المئات بمجرد قيامه بحماقة غير محسوبة.
والداخلية عندما تغلق البنوك التي لا تتوفر فيها معايير السلامة، فليس فقط خوفا على فلوس «الخانزين فلوس» المودعة بتلك البنوك، وإنما كذلك خوفا من وصول تلك الفلوس إلى أيد غير أمينة يمكن أن تستعملها في تمويل عمليات إرهابية. ولهذا كانت الداخلية صارمة في تطبيق قرار الإقفال. فقد فهمت أن البنوك لا تهتم كثيرا بمعايير السلامة لأنها مؤمنة على السرقة من طرف شركات تأمين. وشركات التأمين لا تشترط على البنوك الالتزام بدفتر تحملات صارم في ما يخص الاحتياطات الأمنية. والبنوك بدورها توصي مستخدميها بعدم مقاومة اللصوص ومنحهم المال الذي يطلبونه بدون تردد. فأصحاب البنوك يضربون حسابا للتعويضات التي عليهم أن يدفعوها لعائلات مستخدميهم إذا ما قتلهم اللصوص ولا يضربون الحساب للأموال التي سينهبها اللصوص والتي تعوضها شركات التأمين. «هاد الشي علاش كانخلصو لاصورانص بزبالة ديال الفلوس كل شهر» يقول أصحاب البنوك.
إذن، فالحكاية وراء إغلاق البنوك التي لا تحترم المقاييس الأمنية ليست حكاية حرص على أمن المستخدمين وأموال الزبائن، بقدر ما هي حكاية خوف من استعمال الأموال المسروقة في تمويل عمليات إرهابية ضد الدولة ومصالحها.
وما نحتاج إليه اليوم في المغرب ليس فقط الحرص على أمن الدولة والمؤسسات وأحياء «الألبة»، وهذا مطلوب وضروري، بل أيضا الحرص على الأمن لجميع المغاربة. بما فيه الأمن الغذائي الذي يضطر الآلاف من المغاربة كل يوم إلى تسول لقمة العيش بمهانة أمام أبواب الجيران.
يجب ألا ننسى أيضا أن رجال الأمن هؤلاء، الذين نطالبهم بضمان الأمن للمتفرجين والمواطنين، يشتغلون طيلة أيام المهرجانات «بالضوبل»، لكن هذا «الضوبل» يوجد «فالسوايع» فقط ولا ينعكس على «الصولد» الشهري الذي يتقاضونه. ولكم أن تتصوروا منظر رجل أمن يقضي الأسبوع كاملا بنفس الثياب يسمم نفسه بالعيش على ساندويتشات رديئة ويقضي النهار كاملا تحت الشمس وفي الليل يحرس مداخل الساحات التي يأتي إليها متفرجون أنيقون رفقة زوجاتهم وأطفالهم، وآخرون أقل أناقة رفقة عائلاتهم، وصنف آخر من المتفرجين لا هم ينتمون إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، لا يبحثون عن الفرجة بقدر ما يبحثون عن «خلا دار بوهم». كيف يمكن أن نطلب من رجل أمن بهذه المواصفات أن يقوم بواجبه في حماية أمن المواطنين، فيما هو غير قادر حتى على حماية نفسه من النظر إلى كل هؤلاء المحيطين به كسبب مباشر في محنته.
ولعل أكبر تناقض يسقط فيه منظمو مثل هذه المهرجانات هو عندما يقولون إن الحفلات الموسيقية التي يقدمونها تدخل في إطار خدمة الثقافة. واضح جدا أنهم يخلطون الثقافة بالكمنجة. أية ثقافة يمكن أن يقدمها «الستاتي» أو «الداودية» أو «الداودي» مثلا للمواطنين. والحال أن هؤلاء «الكوامانجية» صنعوا «مجدهم» في الكباريهات والعلب الليلية وسط السكارى والمخمورين، وأغلبهم كان يتقاضى، بالإضافة إلى تعويضه، درهما عن كل قنينة بيرة تفتح في «الكونطوار»، حتى إنهم وظفوا مساعدا متخصصا فقط في إحصاء «الفيتشات» في نهاية السهرة. إذا كان هؤلاء هم الذين سيساهمون في رفع المستوى الثقافي للمغاربة فلن يبقى لنا سوى قراءة الفاتحة على روح الثقافة المغربية المسكينة.
نشرت بعض الصحف خبرا حول تعزية «الستاتي» لعائلات الضحايا الأحد عشر الذين سقطوا في سهرته. كنت سأنظر إلى هذه التعزية بشكل آخر لو أن «الستاتي» قرر التبرع بالمبلغ المالي الذي خصصته له إدارة المهرجان لصالح عائلات الضحايا. وبهذه الالتفاتة كان سيؤسس لتقليد جديد في عالم «الفنانين» المغاربة الذين احترف معظمهم «التمرضين» في وسائل الإعلام طلبا للمساعدة والرخص والإكراميات. وهكذا كنا سنسمع أخيرا عن «فنان» مغربي يتبرع من ماله على الآخرين عوض أن «يتبرع» لوحده من أموال الآخرين.

0 التعليقات:

إرسال تعليق