الاثنين، 25 يناير 2010

وبه وجب «الإعلام» والسلام

وبه وجب «الإعلام» والسلام

شاهد المغاربة، عبر تقارير نشرات الأخبار، زيارة الملك محمد السادس للمحطة السياحية بالسعيدية، وشاهدوا توشيحه لصدر أنس الصفريوي، رئيس شركة الضحى التي يتكلف فرع شركته «فاديسا» المغرب بإنجاز مشروع السعيدية، لكن لا أحد سمع أو شاهد الاجتماع الأمني المهم الذي تم عقده مباشرة بعد مرور تحقيق خاص على شاشة القناة الخامسة الفرنسية تحت عنوان «هل أصبح المغرب «إلدورادوها جديدا».
كل من شاهد التحقيق، الذي أنجزه فريق صحافي تنقل إلى السعيدية خصيصا لإنجاز «تعرية» صحافية للمشروع السياحي الضخم الذي تعرف الأوساط السياسية والاقتصادية المغاربية والفرنسية والإسبانية أن الملك يضعه على رأس أولوياته في أجندة برامجه بعد عودته من عطلته الخاصة بباريس، كل من شاهد التحقيق فهم أن البرنامج محبوك بطريقة متقنة لتمرير رسالة واضحة، بالصورة والصوت، مفادها أن المشروع متعثر وقد لا يرى النور في القريب.
في الاجتماع الأمني الذي حضره كبار الجنرالات والمسؤولين الأمنيين والمخابراتيين، ذهبت أصابع الاتهام نحو الجزائر. فهي المستفيد الأكبر، حسب بعضهم، من «تخريب» سمعة مشروع سياحي ضخم يقع على مبعدة كيلومترات قليلة من حدودها مع المغرب، خصوصا وأن الجزائر تسعى هي أيضا إلى منافسة المغرب سياحيا عبر إطلاق مشاريع ضخمة لتجهيز الواجهة الساحلية للعاصمة الجزائر.
لكن القادة الجزائريين صدموا عندما أعلنت الشركة الاستثمارية الإماراتية العملاقة «إعمار»، قبل أمس، تخليها عن الاستثمار في الجزائر وتوقيفها لكل مشاريعها ومغادرتها البلاد. هكذا تكون الجزائر فقدت 20 مليار دولار من الاستثمارات التي رصدتها هذه الشركة لمشاريعها السياحية والعقارية.
ورغم أن القادة الجزائريين الفخورين بما يسمونه «النيف»، أي الاعتزاز بالنفس، سيعتبرون خروج الشركة الإماراتية مجرد لسعة بسيطة فوق ذراع مالية قوية ومنفوخة بفضل 15 مليار دولار التي دخلت خزينة الجزائر في الأشهر الخمسة الأخيرة من سنة 2009 من عائدات الغاز، إلا أن هؤلاء القادة سيشمون بهذا «النيف» المرفوع إلى عنان السماء رائحة طبخة مغربية وراء هذا الانسحاب.
لذلك حمل بوتفليقة بنفسه الهاتف واتصل بحاكم الإمارة وطلب منه العمل على إعادة «إعمار» بأية طريقة إلى الجزائر. وبعد ذلك سنرى كيف أخذ أمس نائب رئيس مجلس الوزراء الإماراتي طائرته الخاصة لكي يحط فوق التراب الجزائري ويلتقي بوتفليقة للتباحث حول شروط العودة، ومنها سماح الجنرالات للشركة الإماراتية ببيع شققها وفيلاتها فوق «الكاغيط» كما تصنع في المغرب.
الحرب بين الرباط والجزائر ليست كلامية فقط، وإنما هناك حرب اقتصادية شرسة بين البلدين لاستقطاب الاستثمارات العربية من أجل إنجاز مدن سياحية واستغلال مئات الكيلومترات من السواحل الممتدة والتي لا تزال خلاء. وإذا كان هناك سباق نحو التسلح بالدبابات والطائرات والبوارج بين البلدين، فهناك أيضا سباق آخر مواز نحو التسلح بالشركات الاستثمارية الكبرى لتغيير الواجهة البحرية للبلدين.
وبالنسبة إلى المغرب، فكل الأسلحة مباحة في هذه الحرب، وعلى رأسها سلاح القرابة الدموية، إذ لا يجب أن ننسى أن وزير الخارجية الإماراتي، الشيخ عبد الله ابن زيد، يحمل دماء مغربية في عروقه من والدته المغربية زوجة الراحل الشيخ زيد.
والجنرال العنيكري، الذي حضر الاجتماع الأمني الذي انعقد بعد مرور برنامج القناة الفرنسية الخامسة حول السعيدية، هو «رجل» المغرب في الإمارات، فقد قضى بها سنوات طويلة إلى جانب الشيخ زايد عندما كان مسؤولا عن أمنه الخاص، ويعرف الإمارات العربية المتحدة أكثر مما يعرف جيبه.
وبعد انتهاء دوره الأمني في الإمارات أصبح يلعب دورا دبلوماسيا خفيا بين الرباط ودبي التي انتقلت زوجته للعيش بها منذ سنوات.
وقد عاد العنيكري ليلقي بظله على هذا الملف، خصوصا بعد التخلي عن الباكوري، المدير السابق لصندوق الإيداع والتدبير، والذي كان ملف الإماراتيين يدخل ضمن اختصاصاته، وقبله كان يمسك بتلابيب الملف رشيد السليمي، مدير فرع التنمية السابق بصندوق الإيداع والتدبير، قبل أن يترك المغرب ويذهب إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
وحسب رأيي الشخصي، ومن خلال استقراء مستجدات الحرب المشتعلة بين المغرب والجزائر حول كعكة الاستثمار الإماراتي، فإن جواب المغرب عن التحرش الإعلامي الفرنسي بمشروع السعيدية كان محاصرة الجزائر في مجال يمتلك المغرب أدوات التحكم فيه عن بعد.
وهنا يمكن أن نستحضر الدور الكبير الذي يلعبه الأمير مولاي إسماعيل في الملف الإماراتي. ورحلاته المكوكية بين دبي والرباط، خلال انتشار إشاعات في الصحافة قبل أشهر بخصوص انسحاب الإماراتيين من المغرب، كان لها أثر ظاهر في إقناع عائلة آل مكتوم عبر وساطة عائلة آل نهيان بتثبيت أقدامهما فوق التراب المغربي.
لكن الأثر السلبي البالغ الذي تركه تحقيق «فرانس5» حول محطة السعيدية يوم 14 جوان، لم يمح بهذه السهولة، خصوصا بعد أن قامت بعض الماركات العالمية بسحب مشاركتها بمحلات تجارية في المحطة بعد مشاهدتها للتعرية الصحافية التي أنجزها فريق القناة. ولعل ما صدم الرسميين المغاربة هو أن القناة التي بهدلت مشروعا ضخما يعول عليه المغرب لتغيير وجه المنطقة الشرقية، ليست سوى قناة عمومية يوجد على رأسها مقرب من الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، صديق المغرب يا حسرة.
وهو ما دفع بالبعض إلى البحث عن العلاقة بين اللوبي الجزائري في القناة واللوبي الفرنسي المعادي لمصالح المغرب. فكما لا يخفى عليكم، في كل وسائل الإعلام الدولية تسعى بعض الأنظمة إلى تكوين لوبيات تابعة لها داخل دواليب هذه القنوات الإعلامية. وفي الجزيرة القطرية، مثلا، هناك لوبي جزائري قوي ينافس اللوبيين الفلسطيني والمصري. ومع أن المغرب لديه أكثر من ثلاثين صحافيا يعملون بقناة الجزيرة إلا أنه فشل في تكوين لوبي يدافع عن مصالحه الاستراتيجية داخل القناة كما يصنع الجزائريون مثلا. وأحيانا يتحول بعض هؤلاء الصحافيين المغاربة إلى أدوات طيعة لمساعدة اللوبي الجزائري في ضرب مصالح المغرب.
وشخصيا، أعتقد أن المسؤولية السياسية في ما بثته القناة الخامسة الفرنسية يجب إلقاؤها على عاتق المستشار الملكي أندري أزولاي الذي يأخذ راتبه من أموال دافعي الضرائب، فهو المكلف من طرف القصر، بالنظر إلى عمله الأصلي كصحافي في فرنسا وعلاقاته المتشعبة والتاريخية بالإعلام، بمراقبة صورة المغرب في الإعلام الفرنسي.
وربما أصبح أزولاي منشغلا بالدفاع عن صورته الشخصية أكثر من انشغاله بالدفاع عن صورة المغرب، خصوصا بعد الاتصالات المتكررة التي أجراها مع زملائه السابقين في الصحافة الفرنسية من أجل مراسلة صاحب كتاب «سوء الفهم الكبير» وتكذيب ما جاء فيه على لسانهم بخصوص لقاء أندري أزولاي مع الجامعي وعلي عمار وفاضل العراقي بباريس للتوسط في ملف هشام المنظري.
أما بالنسبة إلى الصحافة المكتوبة فقد كانت ردود الفعل متنوعة، فيومية «لومتان» الناطقة باسم القصر رأت في التحقيق الفرنسي محاكمة أكثر مما رأت فيه عملا صحافيا. أما يومية «ليكونوميست» الاقتصادية الناطقة باسم «الباطرونا» فقد رأت في التحقيق محتوى غير بريء يفتقر إلى المهنية. أما قنوات القطب الإعلامي العمومي فقد ابتلعت ألسنتها السبعة وسكتت كعادتها.
هنا يظهر بجلاء افتقار المغرب إلى سياسة إعلامية عمومية تضع ضمن أولوياتها الدفاع عن المصالح الاستراتيجية الكبرى للمملكة، عوض التخصص في الهجاء والمديح والبكاء على الاطلال بتلك الطريقة السخيفة التي يتقنها مصطفى العلوي وورثته الجدد في القناة الثانية.
كما يظهر بوضوح فشل المغرب في اختراق الإعلام الفرنسي وترك المجال فسيحا أمام لوبيات إقليمية لاستعمال هذه الذراع الضاربة للتشويش وعرقلة السير المتعثر أصلا.
لذلك لم يكن أمام المغرب الرسمي من طريقة للرد على برنامج القناة الفرنسية الخامسة سوى إرسال استفسار بسيط للقناة لمعرفة أسباب هذا الهجوم المباغت على مشروع يريد الملك أن يجعل منه رافعة للتنمية السياحية بالمنطقة الشرقية.
وطبعا، ليس هناك ما يدعو القناة إلى الجواب عن هذا الاستفسار، فالقناة قامت بعملها في ظروف قانونية ولم تصور تحقيقها خلسة وأخذت كل التصاريح المطلوبة لإنجاز عملها. المشكلة إذن ليست في الجانب الفرنسي، بل في الجانب المغربي الذي يعتقد أن كل كاميرا أجنبية تشتعل أمامه تصنع ذلك من أجل سواد عيونه. وهذا درس لهم جميعا لكي يفهموا أن كل من يأتي لكي يصور برنامجا في المغرب لديه رسالة واضحة يريد أن يوصلها، ليست في صالحنا غالبا، ومن أجل ذلك سيلجأ إلى كل الوسائل، بما فيها الاحتيال.
الوحيد الذي يبدو بلا رسالة ولا خارطة ولا هدف، هو إعلامنا العمومي الذي يقف عاجزا أمام هذا الغزو الإعلامي العربي والفرنسي الذي يقتحم علينا مدننا وبيوتنا. وفي اليوم الذي سيقتنعون فيه بأنه من الأحسن لنا وللمغرب مناقشة مشاكلنا الداخلية في إعلامنا العمومي على أن يأتي من يناقشها مكاننا بطريقته وحسب مصالحه، سيكونون قد فهموا الدور الأساسي والخطير للإعلام في حماية وصيانة المشاريع التي «تلعب» بالملايير.
وبه وجب «الإعلام» والسلام.

0 التعليقات:

إرسال تعليق