الجمعة، 22 يناير 2010

أصدقاؤنا الفيروسات

أصدقاؤنا الفيروسات
رشيد نيني

كل من أراد أن يتابع مستجدات انتشار وباء «أنفلونزا الخنازير» ما عليه سوى أن يتابع أخبار وبرامج القناة الثانية، الفرنسية طبعا. وبالأمس تابعت حلقة معادة خاصة من برنامج صحي حول الميكروبات والفيروسات التي تعيش معنا وتتنقل في ما بيننا باللمس والعطس. ومن بين الأسئلة المثيرة التي طرحتها إحدى المشاركات في البرنامج عبر الهاتف، سؤال: لماذا تهتم منظمة الصحة العالمية بفيروس كأنفلونزا الخنازير لم يقتل في كل الكرة الأرضية سوى ضحايا معدودين على رؤوس الأصابع، فيما لا تبدي هذه المنظمة العالمية نفس الحماس عندما يتعلق الأمر بفيروس الملاريا الذي يقتل في إفريقيا وحدها المئات من الآلاف سنويا. سؤال وجيه.
أول شيء أثار انتباهي في الحلقة هو أن منشطة البرنامج ظلت تكرر الرقم الأخضر الذي وضعته كل من وزارتي الصحة والداخلية الفرنسية للإجابة عن أسئلة المواطنين بخصوص فيروس «أنفلونزا الخنازير». وتذكرت أن وزارتي الصحة والداخلية المغربيتين لم تكلفا نفسيهما وضع أي رقم أخضر أو أصفر خاص بتلقي استفسارات المواطنين وأسئلتهم بخصوص هذا المرض الذي وصل إنذاره إلى مدينة مغربية محتلة اسمها سبتة، يمر عبرها يوميا حوالي 25 ألف مغربي. والمضحك أن وزيرة الصحة ياسمينة بادو قالت في أحد تصريحاتها إن جميع المنافذ البحرية والجوية والأرضية للمغرب خاضعة للمراقبة الصحية. ولو أن المغرب لديه الإمكانيات التقنية لحراسة جميع منافذه، فكيف تغفل عين كل هذه الكاميرات والممرات الحرارية عن رؤية أطنان المخدرات وعشرات قوارب الهجرة السرية التي تغادر منافذنا البحرية بين وقت وآخر. «زعما مشافوش الحشيش وغادي يشوفو سخانة الحلوف».
ومن بين التصريحات التي تدل على أن بعض المسؤولين لم يفهموا جيدا التدابير الوقائية التي يجب عليهم القيام بها لتجنب الإصابة بالعدوى، ما قاله لإحدى اليوميات مصدر من شركة الخطوط الجوية الملكية حول الأقنعة الواقية التي يتوفرون عليها في طائرات الشركة. فقد قال إنهم لن يوزعوا الأقنعة إلا في حالة تسجيل إصابة أحد ركاب الطائرة بالمرض المذكور.
أولا، الراكب المصاب إذا ثبتت إصابته فيجب أن يكون في المستشفى وليس على متن الطائرة. ثانيا، إذا ثبت أن هناك في الطائرة مسافرا مصابا فيجب أن يتم وضع جميع المسافرين رهن المراقبة الطبية. ثالثا، كيف سيعرفون والطائرة في الجو أن أحد ركابها مصاب بفيروس «أنفلونزا الخنازير» وليس بالتهاب عادي، مثلا. رابعا، الأقنعة ليست أدوات لمكافحة المرض وإنما للوقاية منه. ولذلك فتوزيعها على الركاب ووضعها فوق الفم والأنف ليس ترفا وإنما ضرورة تفرضها شروط الحيطة والحذر التي تعمل بها جميع شركات الطيران في الوقت الراهن.
برنامج القناة الثانية الفرنسية لم يقف فقط عند حدود التعريف بالداء وأساليب انتقاله وطرق الوقاية منه، بل استعرض أيضا حكايات لمواطنين مرضى بالنظافة، يعيشون خوفا مرضيا من الميكروبات والجراثيم التي تعيش حولنا. فمن بين الإشكاليات الكبرى التي أثارها فيروس «أنفلونزا الخنازير» إشكالية النظافة والإفراط في الخوف من المرض.
ومن بين الأمثلة الصادمة التي قدمها البرنامج، حالة سيدة تغسل يديها بالصابون والماء أكثر من 150 مرة في اليوم. فالمسكينة تتخيل أن كل شيء تلمسه سينقل إليها فيروسا معديا أو جرثومة قاتلة.
وطبعا، فالشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده. فكثرة النظافة يمكن أن تتسبب في الأمراض كذلك. وفي سويسرا حيث يستحيل العثور في الشارع على «ميكة كحلة» واحدة، (إلى بغيتي تشوفها خصك تمشي للمتحف)، اكتشف الأطباء أن الأطفال يعانون من ضعف كبير في المناعة. والسبب أن آباء هؤلاء الأطفال عودوهم منذ الولادة على نظام نظافة صارم، في محيط شبه معقم عطل جهاز مناعتهم عن العمل. هكذا عندما كبروا أصبحوا عرضة للميكروبات والفيروسات التي بدأت تهاجم جهاز مناعتهم غير المدرب على المقاومة. ولذلك أصبح الأطباء ينصحون الآباء بإخراج أبنائهم إلى الحدائق والساحات لكي يعفروا ملابسهم بالأتربة والأوحال، وأن يسمحوا لهم بتلطيخ أيديهم بالأوساخ وحملها إلى أفواههم. فالأطفال محتاجون إلى الميكروبات والجراثيم لكي يدربوا جهاز مناعتهم على المقاومة. فالقاعدة العلمية تقول إن كل جهاز أو عضو لا يشتغل يضعف ويضمحل ويختفي.
هناك مثل مغربي شعبي يقول «الزلط جبيرة»، أي أن الفقر لديه جوانبه الإيجابية، ومنها أنه يمنح «المزاليط» مناعة قوية ضد الجراثيم والفيروسات. وقد عبرت عن هذه الفكرة قارئة قالت إننا نحن المغاربة لا يمكن أن «تصور» منا «أنفلونزا الخنازير» شيئا، لأننا متعودون على العيش مع الفيروسات القاتلة منذ الصغر. ولأن المغاربة جابهوا كل أنواع الجراثيم والفيروسات بسلاح قديم اسمه «دوا لعرب»، تحتل فيه «المخينزة» مكانة متميزة، نظرا لقدرتها وفعاليتها في مواجهة «السخانة» بكل أنواعها، سواء «السخانة الباردة» أو «السخانة الحامية»، فإنهم أصبحوا يعتقدون أن لديهم قدرة خارقة على مواجهة الأمراض، معتقدين بأنهم إذا استطاعوا الصمود في وجه الميكروبات والفيروسات والبقاء إلى حدود اليوم على قيد الحياة، فبفضل تعايشهم مع كل أنواع الأمراض في غياب رعاية صحية حكومية حقيقية.
والواقع أن آباءنا لو اكتفوا بمنافع «دوا لعرب» وحده لكنا اليوم في عداد الموتى. ولعل أطفال السبعينيات يتذكرون أنه لولا حقن «البيسيجي» و«بوماضا» العينين التي كانت ترسلها إلينا المنظمات الصحية العالمية، لكنا انقرضنا من زمان. ولهذا السبب تجد كل المغاربة يحملون دوائر صغيرة على أذرعهم تميزهم عن سائر الشعوب الأخرى. حتى إن الشرطة الإسبانية أصبحت تميز المهاجرين السريين المغاربة عن غيرهم بآثار «الجلبة» التي يحملونها على أذرعهم.
المغاربة لديهم وهم بأن هذه الأمراض والأوبئة التي يسمعون عنها في وسائل الإعلام لن «تصور منهم لا حق لا باطل». فهي أمراض تصيب الآخرين فقط.
والشيء نفسه نلمسه في الخطاب الرسمي، فالمغرب دائما «في منأى عن». حتى ولو كانت أخبار الفيروس قد وصل إلى مدينة مغربية محتلة يدخل ويخرج منها 25 ألف مغربي كل يوم. مع أن القرار الأنسب بعد شكوك حول تسجيل حالات إصابة بأنفلونزا الخنازير في سبتة المحتلة هو إغلاق الممر إلى حين التحكم في عدد الحالات المصابة. فاللهم التضحية بعائدات بضعة أيام من التهريب واللا التضحية بالصحة العامة للمغاربة جميعهم.
ولعل أبسط شيء يجب على وزارتي الصحة والداخلية القيام به، هو فتح خطوط خضراء يمكن للمواطنين الاتصال عبرها من أجل الحصول على معلومات بخصوص المرض. كما أن القناة الثانية، المغربية هذه المرة، ملزمة بالتحلي بالحد الأدنى من حس المواطنة، وذلك بتأجيل عرض المسلسلات المكسيكية المملة وتعويضها ببرامج صحية لتوعية المواطنين بخطورة الأنفلونزا المكسيكية وسبل الوقاية منها.

0 التعليقات:

إرسال تعليق