السبت، 23 يناير 2010

التكوغيطة

التكوغيطة

السؤال الذي يطرحه الجميع بعد انتهاء الحملة، هو أين ستذهب هذه الملايين من أوراق الدعاية الانتخابية. بالأمس، أثار انتباهي ركام من هذه الأوراق في مصعد العمارة، وعندما فتحت صندوق الرسائل وجدت كومة أخرى من الأوراق. وعندما فتحت الباب عثرت على كومة أخرى دسها أحدهم من تحته. ومن كثرة الأوراق التي صرت أعثر عليها في كل مكان أذهب إليه خفت أن أفتح صنبور الحمام فتخرج لي منه أوراق المرشحين وصورهم الملونة ووعودهم المعسولة. ولعل واحدة من مفارقات هذه الانتخابات أن الذين يعدون السكان بتخليص دوائرهم من القمامة في الشوارع في حال التصويت عليهم هم أول من يساهم في تلويث هذه الشوارع بقمامتهم الانتخابية.
فأين ستذهب، إذن، كل هذه الأطنان من الأوراق ؟
في مدينة صغيرة وهادئة من مدن الأطلس الصغير، يعرف الجميع أين تنتهي هذه الأوراق، خصوصا «فاضمة» التي تسارع إلى إمداد زوجها بكمشة منها كلما نادى عليها من داخل المرحاض :
- أفاضمة، أويد شان المرشح...
ما معناه بالأمازيغية الأطلسية «أفاضمة، جيبي شي مرشح». فالعديد من الأسر التي ليست لديها القدرة على تخصيص مصروف يومي لاقتناء ورق المراحيض، تلجأ إلى استغلال الأوراق المجانية التي تجمعها «مولات الدار» من هنا وهناك لاستعمالها كأوراق «طواليط». وبما أن الحملة الانتخابية الأخيرة وفرت الآلاف من الأوراق المجانية التي يحملها المرشحون إلى غاية البيوت، فإن العائلات وجدت صعوبة في الاختيار بسبب وفرة العرض.
انتخابات هذه السنة حركت مطابع بعض المدن الراكدة، وخلقت مناصب شغل مؤقتة. لكن هذا لم يمنع أرباب المطابع من مطالبة وكلاء اللوائح بالدفع المسبق قبل تسليمهم أوراقهم. فالتجربة علمت هؤلاء أن المرشحين الذين يستطيعون الاحتيال على دائرة كاملة لن يجدوا صعوبة في الاحتيال على مدير مطبعة.
وليس أرباب المطابع وحدهم من اشترطوا الدفع المسبق لوكلاء اللوائح قبل تسليمهم أوراقهم المطبوعة، بل حتى الجرائد التي نشرت لبعض هؤلاء إعلانات إشهارية، فلا أحد يضمن للمسؤول التجاري لهذه الجرائد أن المرشح سيدفع تكاليف إعلانه المنشور في حالة سقوطه في الانتخابات، يعني أنه إذا نجح يمكن أن يدفع للإدارة، وإذا سقط ما على الإدارة سوى أن «تشد في البولة الحمرا».
مصير «الكاغيط» مصير مجهول لدى الأغلبية الساحقة من المغاربة. ومع أن الجميع يعرف أين كان ينتهي «كاغيط» قوالب السكر و«كواغط» العطرية التي كانت تشتريها أمهاتنا من الأسواق، فإن الغالبية العظمى تجهل أي مصير ينتظر «كاغيط» الجرائد مثلا.
وقبل أن نشرح لكم أين يمضي «كاغيط الجونان»، دعونا نستحضر قليلا تلك السنوات البعيدة التي كان فيها استعمال أوراق «الطواليط» البيضاء أو الوردية في مراحيضنا ضربا من الترف. طبعا، بالنسبة إلى الذين كانت لديهم مراحيض، فالمعروف أن أكثر من نصف المغاربة كانوا يلجؤون إلى الخلاء للتوسع. وفي آخر إحصاء قدمته منظمة الصحة العالمية خلال «قمة المراحيض» (حاشاكم) المنظمة في الهند، والذي حضرته وزيرة الصحة ياسمينة بادو، أشارت هذه الأخيرة إلى أن نسبة كبيرة من المغاربة يفتقرون في بيوتهم إلى مراحيض.
ولذلك فقلة قليلة من البيوت المغربية كانت تغامر باقتناء هذه «الرولوات» الباهظة التي كان ثمنها يساوي ثمن دفتر من فئة 24 ورقة. وهكذا كان الحل الوحيد، بالإضافة إلى الاستنجاء بالماء، هو اللجوء إلى «كاغيط» قوالب السكر و«راس الحانوت». ومن هنا، أرى ابتسامة بعضكم الساخرة وهو يتذكر كل المرات التي قاده فيها حظه العاثر إلى استعمال «كاغيط» كان يحتوي على «البزار» أو «الفلفلة» السودانية. فمثل هذه الأخطاء «القاتلة» في اختيار «الكاغيط» المناسب تحول الإنسان الوديع إلى ثور جامح بسبب بقايا «البزار» الحار.
وهناك، طبعا، استعمالات أخرى يمكن أن ينفع فيها «الكاغيط» قالب السكر. وأشهرها على الإطلاق هو استعماله في «فتخ» الزعتر وتدخينه لمقاومة أعراض أنفلونزا فصل الشتاء. ومن منا لم «تبرم» له جدته «جوان» من الزعتر المجفف وسط قطعة من «الكاغيط لزرق» لكي يستنشق دخانه ويعافى دون اللجوء إلى المضادات الحيوية التي يصفها الأطباء اليوم للأطفال ويخربون بها مناعتهم منذ الصغر.
وإذا كان الجميع تقريبا يعرف النهاية الطبيعية لأوراق الدعاية الانتخابية، فإن قلة من المغاربة تعرف المصير الذي ينتهي إليه «كاغيط» مرجوعات الجرائد التي لا تجد من يشتريها.
وعلى عكس ما يعتقده البعض، فبعض مسؤولي الجرائد لديهم نسبة مائوية من عائدات بيع مرجوعات جرائدهم، خصوصا الحزبية، ولذلك فليس من مصلحتهم أن تباع الجريدة أصلا، لأنه كلما بيعت الجريدة فإن هامش عائداتهم من ثمن المرجوعات يضيق. ومنهم من يفعل المستحيل لكي يغتال جريدته حتى لا يشتريها أحد، وبذلك يستطيع بيع مرجوعاتها وتحصيل نصيبه من الكعكة. ومادامت مثل هذه الجرائد تحصل على المنحة السنوية من أموال دافعي الضرائب عن طريق خزينة المملكة، فإنها لا تولي مستقبلها أي اهتمام، مادام «الصيروم» مضمونا.
وأستطيع أن أجزم بأن قلة قليلة تعرف أن المربعات الكارتونية التي تشتري فيها البيض من السوق، مصنوعة من عجينة أوراق الجرائد. وهناك شركة في الدار البيضاء تشتري مرجوعات الجرائد بالكيلو وتطحنها لتحولها إلى عجينة، ومن تلك العجينة تصنع «باليطات» البيض التي ترونها في الأسواق.
وهذه الشركة تطحن فقط «كاغيط» الجرائد المكتوبة باللغة العربية، أما الجرائد المكتوبة باللغة الفرنسية فثمنها أغلى في السوق، وهي مخصصة لشيء آخر غير ضمان سلامة البيض. ومن منا لم يلاحظ أن «الطولوريات» الذين يعيدون صباغة السيارات يستعملون فقط الجرائد المكتوبة بالفرنسية. وحجتهم في ذلك أن اللغة العربية التي تكتب بها الجرائد هي لغة القرآن ولا يصح امتهانها بإلصاقها فوق زجاج السيارات وطلائها بالصباغة.
وإذا كان أصحاب بعض الجرائد يجنون أرباحا من وراء عدم إقبال القراء على اقتناء جرائدهم، فإن هناك جرائد أخرى تستهلك «الكاغيط» وتصدر بشكل يكاد يكون سريا. وهي جرائد أسبوعية في الغالب يلجأ إليها بعض المحامين لنشر إعلانات «السيزي» التي تشهدها المحاكم.
وعندما تقلب أوراق تلك الجرائد تعثر على مقالتين غير موقعتين والباقي كله عبارة عن إعلانات قضائية لبعض المحامين في الدار البيضاء. وبما أن القانون يفرض إطلاع الرأي العام عن طريق النشر على أمكنة وتواريخ إجراء هذه «السيزيات»، فإن الهدف من نشر هذه الإعلانات في هذه الجرائد التي لا يعرف أحد بوجودها هو ضمان عدم إطلاع المعنيين بأحكام «السيزي» عليها. وهكذا يغيبون عن الجلسة ويكون هناك من يقتنص الفرصة مكانهم.
وهناك سماسرة يتربصون يوميا في المحاكم بملفات «السيزي»، وحتى إذا قرأ المعني بالأمر الإعلان في تلك الجرائد وجاء للمشاركة في استرجاع ممتلكاته المعروضة في «السيزي» ونجح في ذلك، فإنه يفاجأ بأحد أولئك السماسرة يطالبه بعشرة ملايين سنتيم لكي لا يزايد عليه ويقترح في خلال عشرة أيام التي يمنحها القانون مبلغا أكثر من المبلغ الذي دفعه هذا الأخير للمحكمة.
وهكذا يستثمر هؤلاء السماسرة في تجارة «الكاغيط» ويجنون الملايين دون أن يغادروا مقاعد مقاهيهم بجانب المحاكم.
وكما ترون فلكل نوع من أنواع «الكاغيط» في المغرب استعمال مختلف، لكن في الأخير يلقى «الكاغيط» بعد الانتهاء من استعماله المصير ذاته.

0 التعليقات:

إرسال تعليق