الأربعاء، 20 يناير 2010

الفتوحات الفاسية

الفتوحات الفاسية
رشيد نيني

سكت المجلس العلمي الأعلى عن فضيحة اعتلاء برلماني في فاس لمنبر أحد المساجد من أجل القيام بالدعاية لحزب الاستقلال وبرامجه الانتخابية حول إعادة إسكان قاطني أحد الأحياء، بينما قامت القيامة في المجالس الجهوية للعلماء واتصلوا برئيسهم محمد يسف يطلبون منه الرد بحزم على اقتحام حميد شباط، عمدة فاس، لمجال الأحاديث النبوية وذكره في الحوار الذي أجرته معه «المساء» لحديث منسوب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يتحدث فيه عن فاس والفاسيين الذين يدفع الله عنهم ما يكرهون إلى يوم القيامة. وهو «الحديث» الذي عثر عليه شباط خلال مطالعاته الفقهية بين دفتي كتاب «روض القرطاس».
وربما لذلك انفتحت شهيته مؤخرا لتقليب صفحات سنوات الرصاص واتهام الاتحاديين باستغلالها لابتزاز المغرب. فيبدو أن رائحة «القرطاس» القديم الذي عثر عليه شباط في زوايا مكتبة منسية قد فتحت شهيته للحديث عن سنوات القرطاس القديم الذي تبادله الاتحاديون مع النظام خلال سنوات الرصاص.
وأمام إصرار علماء المجالس الجهوية على الرد على شباط اتصل محمد يسف بوزير الأوقاف، أحمد التوفيق، فما كان من هذا الأخير سوى أن طلب الاستشارة قبل القيام بأي خطوة قد يسمع بسببها ما لا يرضيه، عملا بالقاعدة التي تقول «ما خاب من استشار». ويبدو أن التوفيق خاب هذه المرة، فقد تلقى إشارات تنصحه بعدم إدخال «شريحتو» في الشريط المقطوع بين الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال، أي أن القاعدة الفقهية التي يجب أن يعمل بها التوفيق من الآن فصاعدا في العراك الدائر بين الفقيه العالم العلامة شباط وحزب الاتحاد الاشتراكي هي «الله يقوي شيطانهم».
فالمتأمل لما يقع بين الأحزاب السياسية هذه الأيام بسبب اقتراب الانتخابات يرى أنها فقدت صوابها وأصبحت الصفة الغالبة في تصريحات زعمائها هي «غير فمك وما جاب». فلم تعد هناك حرمة لا للمساجد ولا للأموات، وأصبح كل شيء مسموحا باستعماله ما دام سيفيد صاحبه في استدرار أصوات إضافية لحزبه.
حتى العنصر الذي ظل طوال وجوده في الحكومة لا يفتح فمه إلا عند طبيب الأسنان، أصبح يقول اليوم إن عباس الفاسي لا يمارس صلاحيات الوزير الأول. أما الهمة الذي قضى أكثر من عشرين سنة في وزارة الداخلية فأصبح يهاجمها يوميا في لقاءاته الحزبية، ولم يكتف بمهاجمة وزارة الداخلية بل هاجم الحكومة بأسرها بسبب صمتها أمام إضراب النقل الأخير. أما الاتحاد الاشتراكي والاستقلال فقد أشهرا سكاكين قطاع الطرق في وجه بعضهما البعض، وشرعا يتعاركان فوق قبور شهدائهما وقتلاهما.
لكن المثير في هذه المعارك السياسية الطاحنة أن من يستعمل الدين فيها ليس هو حزب العدالة والتنمية الذي يتبنى خطابا دينيا، بل حزب الاستقلال الذي يدعي التعادلية. ومع ذلك لم نسمع أحدا يطالب بتجنب خلط منابر المساجد بمنابر الخطابة في مقرات الأحزاب، والأحاديث النبوية بفصول «النقد الذاتي» لعلال الفاسي.
وفي الوقت الذي ينشغل فيه علماء المجلس العلمي الأعلى بتتبع «اجتهادات» شباط و«فتوحاته الفاسية»، وليسمح لنا ابن عربي على هذا التحوير الذي طال عنوان كتابه «الفتوحات المكية»، ويغرق فيه سياسيونا في التنابز بالألقاب في ما بينهم، فإننا نفاجأ بخبر قادم من فرنسا يخبرنا بأن باريس ستصبح عاصمة البنوك الإسلامية. فقد قررت «الأخت» كريستين لاغارد، وزيرة الاقتصاد والمالية في «إمارة» فرنسا، أن تفتح مع نهاية الشهر المقبل أربعة بنوك تعمل بالنظام البنكي الإسلامي. ومن يسمع وزيرة الاقتصاد والمالية الفرنسية تتحدث عن تمكين حوالي خمسة ملايين من مسلمي فرنسا من بنوك إسلامية تحترم تعاليمهم الدينية يتصور أن المرأة ستدخل في الإسلام عما قريب، بينما في الواقع قرارها يخفي لعابها الذي يسيل لرؤية حوالي 4000 مليار دولار التي ستشكل أرباح الدولة الفرنسية من وراء هذا القرار المالي الإسلامي الذي تقول وزيرة الاقتصاد إنه سيخلق النظام الرأسمالي.
وستكون مفاجأتنا أكبر عندما نسمع أن جريدة «لوبسيرفاتور رومانو» التي تعتبر الناطق الرسمي باسم «الفاتيكان» تتحدث حول مزايا التمويلات الإسلامية معترفة بدورها في إعادة تشكيل أسس النظام المالي الغربي. وفي الوقت الذي تسارع فيه باريس إلى فتح أربعة بنوك إسلامية، فإن بريطانيا تفتخر بكونها تريد أن تجعل من لندن العاصمة الدولية للبنوك الإسلامية. ماذا نستنتج من كل هذا ؟
أولا، نستنتج أن ما تريدها فرنسا وبريطانيا ومعهما جل الدول الأوربية بخصوص التمويلات الإسلامية، هو أكبر جواب عن السؤال الذي طرحته مجلة «تيل كيل» قبل شهر حول مدى صلاحية القرآن في الوقت الراهن. فالتمويلات الإسلامية مستمدة من التشريع القرآني في مجملها، خصوصا تحريم الربا واستعمال الأموال المودعة في أنشطة محرمة كالقمار والميسر والخمور. وإن لجوء كل هذه الدول الغربية والعلمانية إلى البنوك الإسلامية التي تشتغل بنظام مالي مستمد من التشريع الإسلامي الذي يجعل من القرآن أصل أحكامه، لهو أكبر دليل على صلاحية القرآن لكل زمان ومكان.
الاستنتاج الثاني الذي نستخلصه من هذا الخبر هو أن السياسيين والوزراء في البلدان الأوربية يسارعون إلى استغلال الجوانب التي تناسبهم في ديننا لإنقاذ شعوبهم من الأزمة. بينما مثقفونا وبعض حملة الأقلام لا يتركون فرصة تمر دون التشكيك في راهنية القرآن والتعاليم الدينية الإسلامية. أما السياسيون عندنا فهم منشغلون باستغلال ما يناسبهم في الدين لاستعماله في الحملات الانتخابية للوصول إلى مناصبهم على ظهر الشعب.
وعوض أن يراسل علماء المجلس العلمي الأعلى وزير الاقتصاد والمالية ووالي بنك المغرب والوزير الأول ويطالبونهم جميعا بالترخيص بفتح بنوك إسلامية كتلك التي تستعد «الأخت» «كريستين لاغارد» لفتحها الشهر المقبل في باريس، أو تلك التي فتحها «الأخ» البريطاني «غولدن براون» منذ 2006 في لندن، نراهم يراسلون رئيسهم الذي يراسل بدوره وزير الأوقاف حول حديث موجود في كتاب «روض القرطاس» منسوب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول إن فاس مدينة مباركة وإن «أهلها يدفع عنهم الله ما يكرهون إلى يوم القيامة».
فقد تركوا جميعهم مطلبا اقتصاديا عاجلا يمكنه أن ينقذ مالية المغرب من الأزمة، خصوصا بعد استعداد الشركات الكبرى لإخراج أرباحها من المغرب بالعملة الصعبة، وانشغلوا جميعهم بحديث مهلهل ضعيف لا سند له. فيبدو أن الضعف والتهلهل وانعدام السند ليست صفات في حديث «روض القرطاس» بقدر ما هي صفات أصبحت ملازمة لبعض علماء المجلس العلمي الأعلى الذين تركوا ما يهم الناس وانشغلوا بسفاسف الأمور.
والاستنتاج الثالث هو أن ما تقوم به هذه الحكومات الأوربية من تغزل في النظام البنكي الإسلامي ليس سوى نفاق مفضوح، فما يهمهم في الموضوع ليس الأخلاق الإسلامية في التعاملات المالية والتي يفتقر إليها النظام المالي الرأسمالي المتوحش، وإنما ما يسيل لعابهم هو الأموال التي سيجمعونها على ظهر هذا النظام البنكي الإسلامي. فالاحتياطي المالي الذي تشكله السوق المالية الإسلامية يتراوح مابين 500 و800 مليار دولار، بزيادة متوسطة تقارب 15 في المائة سنويا.
وهذا النفاق الغربي فضحه الرئيس الإيراني أحمدي نجاد في مؤتمر الأمم المتحدة في جنيف حول العنصرية عندما قال إن «إسرائيل دولة عنصرية ووحشية حرمت شعبا بكامله من أراضيه بحجة المعاناة اليهودية». فما كان من مجموعة من الدول الأوربية والغربية إلا أن انسحبت تعبيرا عن تضامنها مع إسرائيل.
فهذه الدول التي تعودت على إعطائنا الدروس كل يوم في الديمقراطية وحقوق الإنسان تنكمش مثل القط المذعور عندما يتم الحديث عن إسرائيل وجرائمها. ورغم أن حكومات هذه الدول رأت الجرائم البشعة التي اقترفتها الحكومة العنصرية الفاشية في إسرائيل خلال عدوانها على غزة وعلى فلسطين طيلة ستين عاما من النكبة، فإنها ترفض أن تعترف بهذه الهمجية وهذه العنصرية. فقط لأن مقترفتها تسمى إسرائيل اختارت مؤخرا لقيادة دواليبها الجهنمية حكومة دينية متطرفة يوجد ضمن وزرائها واحد في الخارجية اسمه «ليبرمان» طالب الجيش خلال العدوان على غزة بإلقاء قنبلة نووية على القطاع لحذفه من الوجود.
وربما نستطيع فهم موقف هؤلاء الغربيين وسبب تعاطفهم الزائد عن اللزوم مع إسرائيل، بسبب عقدة الذنب التي تتحكم فيهم، لكننا لا نفهم سبب سكوت البعض عندنا في الداخل، خصوصا الذين يعارضون نشوء الحكومات الدينية في العالم الإسلامي بشراسة. وكأن الحكومة التي نشأت الآن في إسرائيل حكومة علمانية وليست حكومة دينية عنصرية ومتطرفة. ألا تستحق حكومة مثل هذه أن تقرع لها الأجراس في بعض المجلات والجرائد التي تعودت مهاجمة كل ما هو ديني في السياسة. أم إن سياسة إسرائيل، مثل أمنها، موضوع يدخل ضمن خانة الطابوهات التي لا تستطيع مثل هذه المجلات الاقتراب منها، فبالأحرى زعزعتها...

0 التعليقات:

إرسال تعليق