الأربعاء، 20 يناير 2010

دم المغدور

دم المغدور
رشيد نيني

لدى المركز الوطني لتحاقن الدم هذه الأيام عمل كثير. فهذه أول مرة يستقبل فيها المركز حوالي ألف مواطن مستعد للتبرع بدمائه لصالح مستشفيات ياسمينة بادو. وهؤلاء المتبرعون ليسوا سوى معطلي مجموعتي «التجمع المغربي للأطر العليا المعطلة» و«الاتحاد الوطني للأطر العليا المعطلة» اتفقوا جميعهم على تنظيم حملة للتبرع بدمائهم تحت شعار «دم المعطل في خدمة المواطنين».
ويبدو أن أعضاء تنظيمات الأطر العليا المعطلة قد قاموا بإحصاء لمئات اللترات من الدماء التي نزفت من أجسادهم على أيدي قوات الأمن والقوات المساعدة في شوارع الرباط طيلة كل هذه السنوات، ووجدوا أنه من الأفضل التبرع بهذه الدماء على المستشفيات العمومية على تبذيرها فوق أرصفة العاصمة.
على الأقل الآن بعد أن صارت لمناضلي هذه الإطارات المعطلة بطاقة «متبرع»، فيمكن أن يطالبوا مستشفيات ياسمينة بادو بتعامل خاص في المستعجلات عندما سيصلون إليها برؤوس مفتوحة وأطراف مكسورة. وعوض أن يطالبوهم كما كانوا يصنعون دائما بدفع تعويضات الاستشفاء في الباب قبل الولوج، أو كما وقع لزملائهم السابقين عندما ظلوا يتلقون الإسعافات بالمجان إلى أن حمل إليهم ساعي البريد ذات يوم إشعارا من مستشفى ابن سينا تطالبهم فيه الإدارة بدفع مستحقات «البيطادين» والخيط الذي رقعوا لهم به جروحهم وأثمان الصور الإشعاعية التي استخرجوها لهم على هياكلهم العظمية المحطمة بأحذية رجال الأمن والقوات المساعدة. وهكذا عوض أن يتوصل الدكاترة المعطلون بتعييناتهم التي انتظروها لسنوات، وصلتهم تهديدات بالمتابعة القضائية في حالة الامتناع عن تسديد مستحقات المستعجلات.
ورغم كل الوعود المهدورة التي أخلفها عباس الفاسي مع مجموعات الدكاترة المعطلين والتي لم يجد من حل لتجنب سماعها كل مرة سوى تعليته لسور مقر حزب الاستقلال لبضعة أمتار إضافية لاتقاء اقتحامات المعطلين المتتالية، رغم كل الدماء التي سالت من أجسادهم أمام قبة البرلمان وأمام مقرات الوزارات في الرباط، فإن هؤلاء المعطلين يتبرعون اليوم بما تبقى من دمائهم لوزارة الصحة التي لا تتورع عن بيع أكياس هذه الدماء في مستشفياتها للمحتاجين إليها. والثمن معروف، أربع مائة درهم لكل «بوشيطة» من الدم، ومن لا يتوفر عليها يجب أن ينتظر وصول «الهيموغلوبين» في دمه إلى أقل من ثمانية غرامات لكي يغيب عن الوعي ويضعوه في العناية المركزة ويحقنوه بالدماء التي جمعوها مجانا من المتبرعين.
ويبدو أن الحل الأخير لضمان مورد مالي قار لهذه الآلاف من المعطلين هو توقيع إطاراتهم لشراكة مع وزارة الصحة يتم بموجبها تزويد مستشفياتها العمومية بدمائهم بشكل أسبوعي، مقابل تعويض مالي يضمن لهؤلاء المعطلين الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية، عوض لجوء بعضهم إلى تسول المارة أمام بنك المغرب، حيث تسمن الحسابات البنكية للوزراء والمسؤولين السابقين الذين أوصلوا البلاد إلى ما هي عليه اليوم.
فدماء المعطلين تضيع كل يوم تقريبا فوق أرصفة شوارع العاصمة، وهذا تبذير غير مقبول لمادة حيوية تفتقر إليها مستشفيات المملكة. ولو أخرج عباس الفاسي للمعطلين هذه الشراكة إلى الوجود فإنه سيكون قد صنع أحسن شيء في حياته السياسية عوض «السهر» مع وزيرته في الصحة على إخراج قانون 10/94 إلى الوجود، والذي سيصبح ممكنا بموجبه تفويت قطاع الصحة من الدولة إلى الشركات الأجنبية وفتح رؤوس أموالها للبنوك والسماح للأطباء الأجانب باجتياح مستشفياتنا ومصحاتنا.
وإذا كان كل هؤلاء الدكاترة المعطلين يتبرعون بدمائهم عن طيب خاطر لوزارة الصحة، فإن حوالي ثلاثين ألف شاب مغربي لازالوا يتساءلون عن مصير دمائهم المغدورة التي أخذوها منهم في أحد مختبرات الدار البيضاء للتحليل، من أجل إعطاء تأشيرة القبول للعمل في سفن سياحية في أعالي البحار في إطار «وعد النجاة» الذي تبخر فجأة وتبخرت معه آمال كل تلك الآلاف من الشباب العاطل عن العمل.
ورغم وصول عباس الفاسي إلى الوزارة الأولى فإنه لم يأمر بفتح أي تحقيق حول هذه «الفضيحة» لتحديد المسؤوليات ومعاقبة الجناة. ولماذا سنذهب بعيدا إلى قضية تعود إلى سبع سنوات خلت، فهاهو عباس الفاسي يسمع ويرى بعينيه فضيحة اغتصاب طفل في مقر حزبه بالعرائش، حيث ترشح وفاز بتمثيل المدينة في البرلمان لثلاث ولايات متتابعة. ومع ذلك لم يحرك ساكنا ولم يصدر حزبه بيانا ينفي فيه أو يؤكد الفضيحة.
إن لزوم عباس الفاسي الصمت أمام الاتهام الخطير الذي تتضمنه شكاية والد الضحية المعروضة على أنظار وكيل الملك، يكشف عن جبن سياسي كبير. فالطفل، الذي يتهم والده «عضوا» في منظمة الكشفية التابعة لحزب الاستقلال باغتصابه، يؤكد أن الفضيحة حدثت داخل «فرع» الحزب. وهذا يستدعي موقفا واضحا للمقر المركزي لحزب الاستقلال بالرباط. لأن تعلية سور هذا المقر ووضع الحديد «المشنقر» فوقه لن تمنع مثل هذه الأخبار من الوصول إلى آذان أعضاء لجنته المركزية الذين يجتمعون داخله لقرع كؤوس الشاي والتهام قرون «كعب غزال».
ولعل أبسط شيء كان على اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال أن تقوم به بعد انفجار هذه الفضيحة هو إصدار بيان للرأي العام تقدم فيه الضمانات السياسية لفتح تحقيق قضائي نزيه لتحديد المسؤوليات في هذه النازلة. فإذا كان هناك عضو في الحزب بالعرائش اقترف جريمة فهذا لا يعني أن الحزب كله متهم، والمنطق السليم في مثل هذه المواقف هو أن يعلن الحزب عن استعداده للتعاون مع القضاء من أجل الوصول إلى الحقيقة، لا السكوت المطبق ومحاولة نفي الوقائع أو التقليل من خطورتها كما صنع بيان فرع الحزب بالعرائش.
في إسبانيا، اعترف الحزب الشعبي المعارض قبل شهر بوجود مسؤولين مرتشين داخل دواليبه، وأعلن بدون مركب نقص عن تواريخ الجلسات التي سيحاكمون فيها بسبب ما قاموا به. وهاهو الحزب اليوم يستعد للانتخابات البرلمانية الأوربية بدون أن تشكل بالنسبة إليه هذه الفضيحة السياسية عقدة نفسية.
فالقضاء فوق الجميع، وهو وحده الذي يملك سلطة إدانة هذا أو تبرئة الآخر. وليس لأن «مناضلا» استغل فرع حزب معين لكي يمارس شذوذه على طفل سيكون على الحزب بأكمله إخفاء وجهه عن الرأي العام خجلا من الفضيحة.
المسألة كلها في نهاية المطاف مسألة دم. هناك من يحرص أشد ما يكون الحرص على الدماء التي في وجهه، وهناك من تستوي عنده الدماء بالمياه. لذلك فهو لا يكترث لإراقة دماء وجهه حتى آخر قطرة في سبيل أن يبقى جالسا فوق كرسيه إلى آخر أيامه.

0 التعليقات:

إرسال تعليق