الجمعة، 22 يناير 2010

تَّا قَصِّي وَأَنَا نْقَصِّي

تَّا قَصِّي وَأَنَا نْقَصِّي

إسقاط الحكومة وحل البرلمان شيئان يمكن أن يقعا في كل الديمقراطيات العريقة. والهمة، كزعيم حزب لديه في البرلمان حوالي المائة نائب، من حقه أن يهدد بتقديم استقالة جماعية من البرلمان وسحب الثقة من الحكومة. لكن ما ليس من حقه هو أن يكون السبب في هذا «الانقلاب» هو الاعتراض على تطبيق القانون.
فالهمة وبرلمانيوه ليسوا غاضبين على الحكومة لأنها فشلت في تحقيق الشغل للعاطلين وإنجاح الرؤى التي حلم بها وزير السياحة وزملاؤه في ميادين الصناعة والتجارة والمالية، بل هدد بتنفيذ انقلاب على الحكومة لأن وزير الداخلية قرر تطبيق المادة الخامسة من قانون الأحزاب والتي «تمنع كل شخص يتوفر على انتداب انتخابي ساري المفعول في إحدى غرفتي البرلمان تم انتخابه فيها بتزكية من حزب سياسي قائم، أن ينخرط في حزب سياسي آخر إلا بعد انتهاء مدة انتدابه».
إن المدهش في تهديد الهمة للحكومة بإسقاطها وحل البرلمان هو أنه يبني هذا التهديد على عدم الرغبة في الامتثال للقانون الذي امتثلت له جميع الأحزاب المشاركة في اللعبة السياسية، مما يوضح أن الرجل يضع نفسه فوق القانون، وهذا سلوك غير مقبول من طرف حزب يقدم نفسه كقشة الخلاص لكل الديمقراطيين.
والواقع أن الهمة كشف خلال هذه المدة القصيرة لولادة حزبه، ومن خلال تنقلاته و«محاضراته» الأقرب إلى «المهاضرات» منها إلى أي شيء آخر، ومن خلال التفاصيل المحيطة به والتصريحات التي يطلقها أنه قلما يعبأ بشيء اسمه القانون.
وبالإضافة إلى تهديده بإسقاط الحكومة احتجاجا على تطبيق الفصل الخامس من قانون الأحزاب، وقف الهمة ضد تشكيل لجنة برلمانية لتقصي الحقائق للبحث في «فضيحة» تفويت الاستقلالي حمدي ولد الرشيد لحوالي 1300 بقعة أرضية كانت في الأصل مخصصة لإيواء سكان مخيم الوحدة. وهي اللجنة التي أعلن عنها الفريق الاتحادي في البرلمان لأنه وجدها «من الجنة والناس»، خصوصا وأن تأسيس هذه اللجنة سيكون ضربة انتخابية قاضية لخصمهم الاستقلالي ولد الرشيد الذي ينافس مرشحهم الاتحادي الدرهم في الانتخابات المقبلة.
وهكذا أصبحنا أمام معادلة غريبة، الاتحاد يطالب بتشكيل لجنة التقصي، الاستقلالي ولد الرشيد يرحب بها، شرط أن تتقصى في كل شيء له علاقة بتفويت الأراضي. وهنا وقف حمار «الهمة» في العقبة. فحمدي ولد الرشيد يعرف أن الوالي محمد جلموس، الذي حط فوق رمال الصحراء بالمظلة قادما إليها من عمالة قلعة السراغنة حيث أبلى البلاء الحسن إلى جانب الهمة خلال الانتخابات التي فاز فيها هو وخاله وفتيحة العيادي بمقاعدهم البرلمانية في المنطقة، قد وزع هو أيضا أراضي على أعيان صحراويين كانوا إلى عهد قريب منضوين تحت لواء خليهن ولد الرشيد.
والحكاية وما فيها أن الهمة دافع عن وضع الوالي جلموس في الصحراء حتى يهيئ رمالها لعجلات «التراكتور» خلال الانتخابات المقبلة، ونسي أن الوسيلة الأضمن للتنقل بين كثبان الصحراء هي «لاندروفير» وليس «التراكتور». ولذلك غرقت عجلات جراره في أول سهب، خصوصا عندما غامر الوالي جلموس بوضع يديه على أراض يعتبرها خندق خليهن ولد الرشيد ضمن «رماله الإقليمية». فثارت ثائرته وهدد في الرباط بقلب الطاولة في الصحراء. وهذه هي أسباب النزول الحقيقية لقصاصة وكالة المغرب العربي للأنباء التي «تزف» للرأي العام «فتح تحقيق واتخاذ وزارة الداخلية الإجراءات الاحترازية الضرورية من أجل إيقاف العمل بجميع الوثائق التي تحوم حولها الشكوك بخصوص توزيع بقع أرضية بمدينة العيون».
ولهذه الأسباب وقف الهمة ونوابه ضد تشكيل لجنة لتقصي الحقائق للنظر في تفويت البقع الأرضية في العيون. ولهذه الأسباب أيضا رحب ولد الرشيد بفكرة إنشاء اللجنة، مع أنه أول من سيشملهم التقصي. فهو يعرف أن الجميع «مقصي» في العيون، وأن الأصل في العمل السياسي والجماعي في المغرب ليس هو القبول بلجنة التقصي، وإنما القبول بمنطق «تا قصي وأنا نقصي».
الهمة لا يعطي فقط مثالا للسياسي المتناقض مع مبادئ حزبه الذي يريده ملاذا لكل الديمقراطيين، بل إنه يعطي مثالا أيضا للسياسي الذي يعارض حتى التوجهات الحكومية التي يدافع عنها في البرلمان. مثلما صنع في ابن احمد عندما هاجم هو وخاله المخطط الأخضر الذي صوت عليه نوابه في البرلمان.
وبالإضافة إلى عدم انتباه الهمة إلى هذه التناقضات الكبرى وتأثيرها على صورته وصورة حزبه، يغفل الرجل عن الانتباه إلى بعض التفاصيل الصغيرة والتي تكشف عن جانب مستتر من شخصيته.
مثلا، عندما يسمح لحراس الأمن بإحضار كلاب «البيتبول» لحراسة المشاركين في لقائه الأخير بالمحمدية، فإنه يرسل رسالة مشفرة لشكيب بنموسى الذي أصدر مذكرة وزارية تمنع امتلاك أو استيراد كلاب «البيتبول». ومثلما يتحدى الهمة مذكرة بنموسى حول «البيتبول»، فإنه يتحدى القانون الخاص بمنع التدخين في الأماكن العمومية، والذي صوت عليه نواب فريقه في البرلمان مؤخرا. وبمجرد ما يجلس الهمة في منصة من المنصات التي يلقي منها خطبه، فأول شيء يضعه فوق الطاولة هو علبة «مارلبورو»، وبمجرد ما ينهي خطبته يشرع في التدخين. ومن يعيد مراجعة الصور التي تنشر للهمة في الصحف سيلاحظ أنه دائما عندما يخرج من سيارته يخرج حاملا في يده علبة «مارلبورو». ولو أنه وقع عقدا إشهاريا مع هذه الماركة العالمية للتبغ لحصل على المال الكافي لتمويل حملاته الانتخابية، بدون حاجة إلى دفاتر شيكات أصدقائه.
وما لا يفطن إليه الهمة هو أن ظهوره المتواتر مقرونا بعلبة سجائر «المارلبورو» فيه تعارض مع قانون إشهار التبغ الذي منعته الحكومة. فالهمة يعرف أن الصور التي يتم التقاطها له في اللقاءات العامة يتم نشرها في الصحافة. ولذلك فالأنسب سيكون هو إخفاء علبة التبغ والامتناع عن التدخين إلى حين ولوج أماكن مخصصة لذلك. فالزعيم السياسي يجب أن يعطي المثال، أكثر من غيره، على احترام القوانين، لا المثال على خرقها، خصوصا وأن وزارة الصحة وجمعية لالة سلمى لمحاربة السرطان تخوضان حملة ضد التدخين في الأماكن العمومية وضد إشهار التدخين وبيعه للقاصرين.
ظهور الهمة في نشاط حزبي محاط بكلاب «البيتبول» الممنوعة بقرار وزاري بالمحمدية، وظهوره في آسفي يدخن في منصة النشاط الحزبي العمومي، لا يقل سلبية عن ظهوره مؤخرا في مرقص «الباشا»، العلبة الليلية الشهيرة بمراكش، جالسا في «طبلة» الضيوف الخاصين جدا.
وطبعا فالهمة، كما غيره من الزعماء السياسيين، حر في ارتياد الأماكن التي تحلو له. ومن يقوم بجولة سريعة ابتداء من منتصف الليل لأحد الكباريهات الرباطية المشهورة في حي الرياض، سيصادف بعض الأمناء العامين للأحزاب يعلقون الأوراق النقدية للراقصات. ومنهم واحد لا يغادر الكباريه إلا عندما تصبح قدماه غير قادرتين على حمل جسده، أو كما يحلو لأحد أعضاء الجوق وصفه «مكاينوض حتى كايعود خنونة».
لكن صورة هؤلاء الزعماء السياسيين وهم يلجون هذه المراقص والكباريهات والعلب الليلية لدى الرأي العام تصبح مشوشة. فالسياسي يجب أن يعرف أن كلماته وحركاته وسكناته وخطواته كلها محسوبة عليه، فهو يمشي في الحقل السياسي كمن يمشي فوق حقل من الألغام. ولذلك يجب أن يعرف جيدا أين يضع خطواته وكيف ينطق كلماته.
خصوصا إذا كان يقدم مشروعه السياسي كمشروع ملكي.

0 التعليقات:

إرسال تعليق