الاثنين، 25 يناير 2010

حين تصحو الضمائر

شـــوف تـــشـــوف


حين تصحو الضمائر

في ظرف أسبوع واحد، صحا أكثر من ضمير عبر العالم وقرر أصحاب هذه الضمائر الاعتراف بالحقيقة. إلا في المغرب، فكل الذين لطخوا تاريخ المغرب المعاصر بالدماء وسرقوا جيوبه محافظون على ضمائرهم في ثلاجات الموتى.
آخر الضمائر التي قررت البوح بالحقيقة في مقتل الشهيد ياسر عرفات هو فاروق قدومي، رئيس الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية، والذي فجر قنبلة حقيقية عندما اتهم الرئيس محمود عباس ومحمد دحلان بالتورط في تسميم واغتيال يارس عرفات.
وعوض أن تفتح السلطات الفلسطينية تحقيقا في هذا الاتهام الخطير مع عباس ودحلان، قررت إغلاق مكتب الجزيرة في الأراضي الفلسطينية بدعوى عدم توخي الحيادية في تناول القناة للشأن الفلسطيني.
أما في فرنسا، فالأمر مختلف. فعندما قرر الجنرال والمخبر السابق «فرانسوا بوشوالتير» أن يذهب برجليه عند القاضي لكي يعترف له بالحقيقة حول مقتل الرهبان بالجزائر سنة 1996، وهي الحقيقة التي سمعها خلال اشتغاله بتركيا والصحراء الكبرى والجزائر كمخبر ملحق بسفارات بلاده، لم تأمر السلطات الفرنسية بإغلاق مقرات القنوات التلفزيونية التي تناقلت الخبر القنبلة، بل فتحت تحقيقا حول القضية وأخرجت وثائقها السرية إلى العلن.
وحسب شهادة الجنرال المتقاعد، فالجهة التي صفت الرهبان الفرنسيين ليست هي الجناح المسلح لجبهة الإنقاذ وإنما سرب من المروحيات المقاتلة التابعة للجيش الجزائري كانت تحوم فوق منطقة البلدية فوقع بصرها على الرهبان وخلطتهم بمقاتلي الجبهة الإسلامية، فرمتهم بالرصاص. ولم يكتشف القناصة خطأهم إلا عندما هبطوا فوق الأرض وتأكدوا من أن الأجساد التي ثقبوها بالرصاص هي لرهبان وليست لمقاتلي «الجيا». وعندما أعلن الجيش الإسلامي لجبهة الإنقاذ مسؤوليته عن مقتل الرهبان وجدها الجيش الجزائري «من الجنة والناس» وتم طي الملف.
عندما أنهى الجنرال اعترافه، لم تأمر النيابة العامة باعتقاله بتهمة إفشاء أسرار عسكرية خطيرة يمكن أن تؤزم العلاقات بين باريس والجزائر أكثر مما هي مأزومة أصلا، بل أمرت بفتح تحقيق لتحديد المسؤوليات مهما كانت مرتبة المتورطين فيها. أما محامي الضحايا الفرنسي، الذي هو نفسه محامي عائلة بنبركة، فقد طالب برفع السر العسكري عن هذه العملية حتى يطلع الرأي العام عن ملفات الأجهزة السرية التي يتم تمويلها من ضرائبه.
عندنا في المغرب، عندما نشرت أسبوعية «الوطن» وثائق عسكرية عادية جدا، انتهى مدير الجريدة والصحافي الذي نشر الوثائق إلى السجن. وعندما أنب الضمير ضباطا شبابا بسبب كل ما كانوا يرونه من فساد داخل ثكناتهم وقرروا فضح ذلك عبر الصحافة، تم اعتقالهم جميعا ومروا أمام محكمة عسكرية حكمت عليهم بالسجن، وآخرهم هو الضابط الجالطي الذي غادر السجن قبل ثلاثة أيام فقط.
أما عندما نشر الصحافي الأمريكي «سكوت شان» في الحادي عشر من هذا الشهر على أعمدة جريدة «نيويورك تايم» أن جهاز الاستخبارات الأمريكي، وبأمر من «ديك تشيني» نائب الرئيس الأمريكي السابق، كان يخفي عن الرأي العام الأمريكي برنامجا سريا لمحاربة الإرهاب، فإن الجميع طالب بالحساب. طبعا، ليس بمحاسبة الصحافي الذي كتب الخبر ولا بتجميد حسابات الصحيفة التي نشرته، وإنما بمحاسبة الرجل الثاني في حكومة «بوش».
وبالنسبة إلى القانون الأمريكي فالأمور واضحة تماما، كل الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، وعددها خمسة عشر جهازا، مدعوة إلى إخبار الكونغريس الأمريكي بواسطة لجان الجيش والاستخبارات الموجودة في غرف ممثلي الشعب ومجلس الشيوخ، بكل العمليات التي تقوم بها هذه الأجهزة في إطار حماية الأمن الداخلي، حتى تكون هذه المؤسسات تحت رقابة ممثلي الشعب الذي من جيوبه تخرج ميزانيات هذه المؤسسات.
فالأمريكيون لديهم قاعدة ذهبية تقول «ليس هناك أي شيء يجب أن يظل سريا بالنسبة إلى دافع الضرائب، كل شيء يجب أن يكون سريا بالنسبة إلى العدو». وكل «سيناتور» أو ممثل للشعب الأمريكي يستطيع متى شاء أن يطلب استدعاء أي واحد من مدراء الأجهزة السرية والاستخباراتية من أجل الاستماع إليه مثلما يصنع الأستاذ مع تلميذه. كما أن ممثلي الأمة الأمريكيين لديهم الحق في الاطلاع على كل الوثائق السرية التي يرغبون في مراجعتها، وكل من يعترض ويمتنع عن فتح أرشيفات الدولة أمامهم يمكن أن يجد نفسه متابعا بتهمة «حجب معلومات عمومية». كما أن الكذب على ممثلي الشعب أو العدالة يعتبر من أخطر الجرائم في القانون الأمريكي.
أما عندنا فالهرم مقلوب تماما. والدليل على ذلك هو البلاغ الذي أصدرته وزارة الداخلية قبل يومين، حيث ترد بكلمات قاسية وخالية من اللباقة على مناقشة دارت داخل إحدى اللجان البرلمانية حول الظروف التي مرت فيها الانتخابات الجماعية الأخيرة. وذهبت الداخلية إلى حد اتهام الجهات التي أججت هذا النقاش داخل لجنة برلمانية بالكذب والتصريحات المغرضة والتشويش على الرأي العام بهدف تحرضيهم وإثارة احتجاجهم للمساس بالأمن العام.
ها نحن نرى إذن كيف أننا نعيش في المغرب الآية معكوسة، فعوض أن تطالب اللجان البرلمانية بحضور وزير الداخلية والأجهزة الأمنية السرية التي تعمل تحت إمرته لتقديم توضيحات أمام ممثلي الشعب حول الاتهامات التي وجهت إليها خلال الانتخابات الأخيرة، نرى كيف أن وزارة الداخلية هي التي تهاجم اللجنة البرلمانية التي أثارت النقاش واتهمتها بمحاولة زعزعة الأمن العام، وهي تهمة خطيرة موجبة للسجن.
فهل سيمتلك البرلمان المغربي، ورئيسه المنصوري الذي يعتبر الرجل الثالث في المملكة بعد الملك والوزير الأول، الجرأة لعقد اجتماع طارئ لتدارس كيفية الرد على هجوم الداخلية على لجنة برلمانية منتخبة من طرف الشعب.
عندما يشهر وزير الداخلية أمام وجوه ممثلي الأمة تهما موجبة للسجن، فإنه ينسى أن المشرع متع ممثلي الشعب بالحصانة البرلمانية تحسبا لمثل هذه التهديدات بالضبط. وذلك حتى يقوم ممثل الشعب بواجبه في محاسبة الحكومة وأجهزتها بدون خوف من تهديدات أطراف حكومية بإرساله إلى السجن. لمثل هذه المواقف تصلح الحصانة البرلمانية يا سادة، وليس للإفلات من المتابعة القضائية عندما يكون البرلماني متهما في قضية اختلاس أموال عمومية وتبديدها، كما هو الحال بالنسبة إلى البرلماني يوسف التازي الذي «جاهد» زملاؤه البرلمانيون في الفريق الاستقلالي لكي يستصدروا له قرارا يقضي بإسقاط المتابعة عنه في قضية «عبد الرزاق أفيلال ومن معه».
الهدف من تمتيع البرلمانيين بالحصانة هو حمايتهم من شطط الحكومة في استعمال سلطتها للتأثير والضغط عليهم وإضعاف قدرتهم على ممارسة الرقابة الشعبية عليها. وليس الهدف من الحصانة هو الإفلات من العقاب عندما يتورط البرلماني في قضايا الفساد والنصب والاحتيال واستغلال النفوذ، كما يفهمها كثير من الطامعين في الحصول عليها للتغطية على فضائحهم.
وبالإضافة إلى قنبلة فاروق قدومي في فلسطين، وقنبلة الجنرال والمخبر السابق «فرانسوا بوشوالتير» في فرنسا والجزائر، وقنبلة البرنامج السري لمحاربة الإرهاب التي انفجرت بين يدي «ديك تشيني» في واشنطن، فقد انفجرت هذا الأسبوع أيضا قنبلة جديدة في «كراتشي» بباكستان، ويتعلق الأمر باعتراف مخبر سابق بأن مقتل المهندسين الأحد عشر في كراتشي سنة 2002 لم يكن من تدبير منظمة القاعدة كما راج آنذاك، وإنما كان من تدبير المخابرات الباكستانية للضغط على الحكومة الفرنسية التي انقطعت في دفع رشاوى لجنرالات باكستانيين في صفقة غواصات فرنسية ابتداء من سنة 1995، تاريخ دخول جاك شيراك قصر «الإليزيه».
ولعل هذا ما يجعل الرئيس الفرنسي يأكل أصابعه حرجا بعد اندلاع هذه الفضيحة التي تضعه في قلب الزوبعة الإعلامية، خصوصا وأنه كان وزيرا للميزانية في حكومة «بالادير» التي صرفت الرشاوى خلال فترة حكمها للجنرالات الباكستانيين.
دفاع الضحايا الذين قتلوا في باكستان يطالب برفع السرية عن الوثائق المتعلقة بهذه القضية لكي يكون بمستطاع النواب البرلمانيين الاطلاع على تفاصيل ما جرى في «كراتشي». أما القضاة فيطالبون وزارة الدفاع الفرنسية بتزويدهم بكل الملفات المتعلقة بعملية «كراتشي».
من عندنا في المغرب من القضاة تجرأ ذات يوم على مطالبة وزارة الداخلية بتزويده بكل الملفات التي أعدتها الأجهزة السرية حول اعتداءات 16 ماي التي لا أحد إلى اليوم يعرف حقيقة الجهة التي خططت لها وحبكت خيوطها.
من عندنا في المغرب من القضاة تجرأ ذات يوم وطالب إدارة الشؤون العامة، أو الإدارة العامة لمراقبة التراب الوطني، أو الإدارة العامة للدراسات والمستندات، أو إدارة الاستخبارات التابعة للقوات المساعدة، أو المكتب الثاني التابع للقوات المسلحة الملكية، أو المكتب الخامس التابع للجيش، بفتح ملفاتها السرية أمامه في قضايا تتعلق بطبيعة عمل وتجاوزات هذه الأجهزة.
لا أحد طبعا. وفي اليوم الذي سيكون لنا فيه قضاة وبرلمانيون يجبرون هذه الأجهزة التي يمولها دافعو الضرائب على فتح ملفاتها ونشر أرقام ميزانياتها أمام الرأي العام، آنذاك يمكننا أن نتحدث عن قضاء مستقل ومجلس للشعب يمثل حقيقة إرادة الشعب.

0 التعليقات:

إرسال تعليق