الأربعاء، 20 يناير 2010

صديق الأمس الذي ظهر أخيرا على حقيقته

صديق الأمس الذي ظهر أخيرا على حقيقته
رشيد نيني

صديقي الذي لم يكن يوما يحب السياسة أصبح هذه الأيام لا يتكلم إلا عنها. وبعد أن كان لا يستطيع التمييز بين ملف مطلبي وملف طبي أصبح اليوم يملك قدرة خطيرة على الحديث عن مطالب الطبقات الشعبية، وأصبحت له براهين وحجج يستطيع أن يزلزل بها أشد المحاورين صلابة.
صديقي لم يكن في يوم من الأيام معتقلا سياسيا، فهو كان يحب الحرية أكثر من أي شيء آخر، ولذلك ظل طوال عمره طليقا، ومع ذلك كتب عن السجن أحسن من الذين دخلوا إليه، بسبب حبهم للحرية بطريقة مختلفة.
صديقي أصبحت له مكانة مرموقة في المجتمع، ولشدة ما تعود على حفر اسمه بشتى أنواع الطرق كبرت له أظافر ومخالب حادة، وأصبح من المستحيل تنظيم لقاء تلفزيوني حول واحدة من قضايا الساعة دون استدعائه. وبسبب حضوره الدائم في كل الأمكنة التي توجد بها كاميرات أصبح يطلع على شاشة التلفزيون أكثر مما يطلع عليها إشهار الفوطة الصحية.
آخر مرة صادفته فيها كان خارجا لتوه من مقر إحدى الإدارات العمومية، وبيد قوية كأيدي الواثقين من أنفسهم صافحني وسألني عن أحوالي السياسية وعن آخر مقال سياسي قرأته وعن برنامجي السياسي لذلك اليوم. وبما أن أحوالي السياسية لم تكن يوما على ما يرام، وبما أن مطالعاتي السياسية لا تتعدى افتتاحيات الجرائد الحزبية التي تكيل لي الشتائم «من يوم لآخر»، وبما أنني لا أملك حتى برنامج التلفزيون لذلك المساء فبالأحرى أن أملك برنامجا سياسيا واضحا وخاصا بي، فقد اعتذرت إليه وتذرعت بأنني كائن غير مسيس إطلاقا.
لكن صديقي لازال يتذكر جيدا مواقفي السياسية في الجامعة، وكيف كنا نمشي لأسابيع طويلة في مسيرات غاضبة احتجاجا على ثمن خبزة بائسة، ولذلك ضغط على يدي برفق كما لو أنه يذكرني بهذا الماضي السياسي البعيد. فقلت له إنني شفيت بعون من الله، وإن ملفي السياسي عند الدوائر الأمنية أنظف من وسادة رضيع، وإنني لم أعد أثق في المشي خلف الأحياء وصرت أفضل بالمقابل المشي خلف الأموات في مواكب الجنازات، حتى إذا لم أكسب عطف الناس كسبت على الأقل الثواب من الله.
وبما أن وقت صديقي أصبح ثمينا ولا يسمح بإطالة الحديث، فقد ودعني وتمنى لي يوما سياسيا طيبا، وتمنيت له بدوري مستقبلا سياسيا سعيدا، ومضى كل منا في طريقه.
وفي المساء، عندما وضعت رأسي فوق الوسادة، تذكرت صديقي وفكرت قليلا في مستقبله السياسي السعيد الذي ينتظره. سيصبح وزيرا في الحكومة، سيصبح رجلا مهما. كلمة منه ستكون كافية لكي يرتعد منه موظفو السلالم الإدارية الشاهقة، ونصف كلمة منه ستكون كافية لكي يغمى على موظفي السلالم الواطئة. سيصبح لديه نفوذ في كل مكان، وهكذا سيشبه أخيرا حيوان الأخطبوط الذي كان مغرما بصيده بالغانجو في شبابه تحت الصخور البحرية التي كانت تقابل منزل والده القروي الذي كان يبيعه للأجانب الذين يأتون لقضاء عطلة نهاية الأسبوع على الشاطئ.
صديقي سيركب أفخم السيارات، هو الذي كان يركب حافلة الخط الوحيد الذي كان يصل قريته بالعاصمة. سيقطن أرقى الأحياء، هو الذي لم يسكن أبعد من حذائه. وستصبح له أيضا بطن سمينة، هكذا لن يسخر منه زملاؤه بعد اليوم بسبب سراويله الساقطة دائما عن محزمه النحيل.
لفرط حرص صديقي على احترام «النظام»، ابتعد طوال حياته عن الفوضى، لذلك صار تنفسه منتظما ودقات قلبه منتظمة ومشيته نظامية إلى أبعد حد. وبسبب نظامه الزائد عن اللزوم صار على أطفاله إذا أرادوا مشاغبته في البيت أن يطلبوا أولا ترخيصا قانونيا من طرفه.
صديقي لفرط مجاملاته تحول إلى منافق فوق العادة، وبسبب الإفراط في النفاق أصبح صديقي يحسب كل صيحة عليه، فانتهى مصابا بالقشعريرة المزمنة، وهكذا تشققت أسنانه في أكثر من ارتعاشة.
ولكثرة ولع صديقي بالخوض في الوحل اشترى محلا كاملا من الأحذية ذات العنق الطويل. وصار يصطاد في الماء العكر، ويتنقل مثل بطة متسخة من بركة موحلة إلى أخرى.
صديقي رجل وطني، ولذلك لم يفقد أي عضو من أعضائه في الحرب دفاعا عن الوطن، واحتفظ بأطرافه كاملة، بما في ذلك لسانه الطويل الذي لا يتوقف عن رواية البطولات. وبسبب ثقل النياشين والأوسمة التي على صدره صارت خطواته بطيئة وكلامه رزينا، حتى خوفه القديم صار رزينا، ولم يعد ينبطح على بطنه كلما سمع صوتا غريبا، وإنما صار ينط من كرسي إلى آخر متأبطا حقيبة وزارية ثقيلة عوض البندقية القديمة التي غيرها من كتف إلى كتف.
ومن شدة استغراقي في التفكير حملني النوم، وحلمت أنني التقيت صديقي ذات يوم صدفة خارجا من مقر إحدى الوزارات. فمددت إليه يدي مصافحا فلم يستطع مد يده لمصافحتي. فقد تحول المسكين كله إلى بطن كبيرة واختفت يداه ورجلاه ورأسه وراح يتدحرج ككرة أسمال بين الطرقات. وعندما استيقظت مفزوعا من النوم، خفت على مستقبل صديقي السياسي ورحت أسأل عنه لأخبره بالكابوس. فأخبروني بأنني لن أعثر عليه لأنه منشغل هذه الأيام كثيرا بالبحث عن جهة حزبية تمنحه تزكية تحتضن مشروعه السياسي الطموح، وأنه بسبب ذلك يتدحرج بين مقرات الأحزاب، وأن بطنه ينتفخ أكثر فأكثر.
لشدة حب صديقي للسياسة أسس حزبا خاصا به يعفيه من مذلة تسول تزكية الأحزاب الأخرى، ولفرط تشبثه بمبادئ حزبه انخرط فيه بمفرده، ولكي يفسح المجال لنصف المجتمع للمشاركة في برامج الحزب أدخل معه زوجته وحماته. وعندما انتهت الانتخابات وتعب من الصراخ والشعارات حان الوقت لكي يجني ثمار نضاله السياسي المستميت، وذهب إلى مقر الحكومة ليتسلم حقيبته الوزارية. عندما سلموه الحقيبة علق عضويته من الحزب على مشجب دورة المياه وارتدى بيجامته ودخل إلى غرفة نومه وسكن إلى نفسه.
صديقي تغير كثيرا، إلى درجة أنني لم أعد أتعرف عليه بسهولة وسط مستنقع السياسة. في الواقع إنه لم يتغير، أنا الذي تغيرت نظرتي إليه، أما هو فقد كان دائما هكذا، الذي تغير اليوم أنه ظهر على حقيقته، هذا كل ما في الأمر.

0 التعليقات:

إرسال تعليق