الأحد، 15 نوفمبر 2009

من الخيمة خارج مايل

من الخيمة خارج مايل

كان ضروريا أن تغرق الدار البيضاء ومراكش وغيرها من المدن لكي تتذكر شركات التدبير المفوض شيئا اسمه تطهير القنوات. وهي عملية روتينية تقوم بها هذه الشركات في الدول التي تحترم مواطنيها مع نهاية الصيف وبداية أولى قطرات فصل الخريف. لكنهم عندنا يتذكرونها فقط عندما تهطل الأمطار وتحول الشوارع إلى برك والأنفاق إلى مسابح، كما حدث في نفق مسجد الحسن الثاني الذي كان يلزمك أمس غواصة لعبوره وليس سيارة.
عندما ترى عمال البلدية يزفتون شارعا أو ممرا، فكن على يقين أنهم سيعودون بعد أسبوع لينبشوا الزفت ويحفروا بحثا عن مكان لأسلاك الكهرباء التي نسوا وضعها في الأول. وبمجرد ما سيردم عمال الكهرباء التراب، طبعا مع تعويض الزفت بالتوفنة، ووضع ميزانية الزفت في جيب أحدهم، سيرجع بعد أسبوع عمال شبكة الهاتف لكي ينبشوا التوفنة بحثا عن مكان يضعون فيه أسلاكهم، لأن مهندسي البلدية عندما هندسوا الطريق لم يضعوا شبكة الهاتف في حسابهم. وهكذا تتعرض الطريق المزفتة حديثا إلى عمليات حفر متتالية، كل شركة تأتي لكي تحفر «جطها» وتضع أسلاكها على انفراد. ولهذا تجدون أن أغلب طرق المملكة وأرصفتها محفرة بسبب هذه النزعة «البوجعرانية»، نسبة إلى «بوجعران» وهواية الحفر التي يتمتع بها.
وليست الطرق وحدها التي تتعرض للخدمة «المعاودة» وإنما حتى المشاريع العمومية الكبرى. وقد اعترف عبد الحنين بنعلو مدير المكتب الوطني للمطارات في حوار أجريناه معه بأن سبب القطرة في المطار هو أشغال تثبيت الرادارات التي قام بها تقنيون بعد انتهاء أشغال بناء المطار التي أنجزتها شركة «إس جي تي إم» لصاحبها القباج، أخ الجنرال القباج بالمناسبة. مع أن القطرة نفسها نزلت في مطار مراكش ولم تكن هناك أشغال لتثبيت الرادارات أو غيرها. وفوق كل ذلك يرسل بنعلو إلى وزير التجهيز رسالة يطلب فيها التكفل ببناء مطارات عسكرية. (طفروه حتى في المدني بقاليهم غير العسكري).
ما وقع في الدار البيضاء وغيرها من المدن الغارقة لا يعري فقط الغش في الأوراش العمومية، ولكن أيضا يكشف عن نظرية مغربية قديمة في تدبير الشأن العمومي، وهي نظرية «وضع العربة أمام الحصان». وإذا كان هناك مسؤولون بلديون يبددون المال العام في الحفر المستمر، بسبب عدم قدرتهم على تكوين تصور شمولي للمشاريع التي يسهرون على تطبيقها، فإن هناك وزراء عباقرة يصرفون الميزانيات الضخمة لإنجاز مشاريع يهللون لها في جرائدهم الحزبية، وفي الأخير عندما يشترون المعدات والآليات بالملايير يكتشفون أنهم نسوا وضع القوانين التي ستشتغل بها هذه المعدات والآليات. أي أنهم كما يقول المغاربة «يسبقون العصا قبل الغنم». و«أحسن» من يطبق هذه النظرية في الحكومة اليوم هو كريم غلاب وزير التجهيز.
فالرجل ذهب إلى السويد وجلب مدونة للسير لازالت رغم كل الوقت الذي مر على استيرادها لم تجتز عتبة البرلمان. ورغم ذلك بدأ وزير التجهيز في تطبيق بنودها عندما عقد صفقة مع إحدى الشركات واشترى كاميرات لمراقبة السرعة وغرسها في مداخل المدن وتركها تصدأ على مهل دون أن تشتغل. ولو أنه ترك الكاميرات تصدأ وترك معها «طرانكيل» ميزانية الوزارة لقلنا «مكاين باس، مكتوب الله وكايتصرف علينا»، لكن أن ينشر سعادة الوزير إعلانا في الجرائد يطلب فيه من الشركات إمداده بطلبات عروض لاقتناء «بياسات دوبلفي» لتعويض تلك «بياسات» المعطلة في الكاميرات التي لم تشتغل قط. فهل رأى أحدكم آلة لم تشتغل من قبل يبحث لها صاحبها عن «بياسات» جديدة لتعويض «بياساتها» القديمة لأنها غير صالحة للاستعمال. شخصيا لم أسمع بهذا من قبل. سمعت بمسؤولين يصرفون الميزانيات لتغيير «البياسات» رغم أنها تشتغل، بهدف توفير مصروف «الجيب»، لكن هذه أول مرة أسمع بمسؤول يريد تغيير «بياسات» آلات رغم أن هذه الآلات لم تشتغل قط.
أما آخر عبقريات كريم غلاب فهي إصداره للبطاقات الرمادية ورخصة السياقة الممغنطة الجديدة، وتوزيعها على المواطنين، دون أن يفكر سعادة الوزير في توفير آلات «الترمينال» التي يستعملها رجال الشرطة في قراءة هذه البطائق الممغنطة. ولم يراود خيال وزير النقل للحظة واحدة أن البطاقات التي كلف شركة خاصة بإنجازها تلزمها آلات لقراءة معطياتها، إلا بعد وصول البطاقات الممغنطة إلى مستعملي الطريق. وهاهو اليوم يكتشف «خفته» ويعلن عن طلب عروض عمومي لاقتناء آلات «الترمينال». وبانتظار أن ترسو الصفقة على أحدهم، يلزم الشرقي أضريص مدير الأمن الوطني أن يطالب وزير التجهيز بتمويل حملة طبية لمراجعة النظر لدى شرطة المرور. فبسبب صغر الحروف التي كتبت بها المعلومات الشخصية للسائقين فوق البطائق الممغنطة، أصبح أغلب رجال الشرطة محتاجين إلى نظارات طبية لتهجي حروفها كلما أوقفوا سائقا من ذوي البطاقات الممغنطة.
وبالإضافة إلى خروج كريم غلاب على نظر شرطة المرور، ببطاقاته الممغنطة، خرج أيضا على رزق أولئك العمال البسطاء الذين يغلفون بالبلاستيك رخص السياقة ويسترزقون الله في بيع تلك «البزاطم» التي تحفظها من التلف. وهكذا عوض أن يوفر غلاب على الدولة مصاريف إضافية بمشروعه العبقري، هاهو يساهم في تبديد المزيد من الأموال العمومية والقضاء على فرص الشغل والتسبب في انقراض مهن يأكل منها مئات المواطنين الخبز.
وليس وزير النقل والتجهيز وحده من «يسبق العصا قبل الغنم»، ويصدر البطائق الممغنطة حتى قبل اقتناء الآلات لقراءتها، بل حتى وزير الداخلية الذي ورث مشروع البطائق الوطنية البيوميترية عن سلفه الجنرال العنيكري من شركة «طاليس»، لديه نفس المشكل. فوزارة الداخلية تصدر البطائق البيوميترية للمواطنين بالقطارة، مع أن سيارات رجال الأمن غير مزودة بآلات «تيرمينال» لقراءة معطياتها. الأمر أشبه ببنك يعطي بطاقة بنكية لزبون ويحرم أصحاب المحلات والمطاعم والمتاجر من الآلة التي يستخلصون منها فواتير الزبناء. وكأنهم يعطونك البطاقة البيوميترية لتحتفظ بها في جيبك كديكور فقط.
والمصيبة أن كثيرا من المواطنين سمحوا لشكيب بنموسى في هذه البطائق بسبب التأخير الذي تواجههم به إدارات الأمن. وأعرف سيدة سرقت منها بطاقتها الوطنية وذهبت لكي تستخرج البطاقة الجديدة، ومنذ شهر ونصف وهي طالعة نازلة طالعة نازلة إلى أن طلع لها «الزعاف» في الأخير وقررت أن تنسى الأمر. والسبب حسب ما شرحه لها أحد الموظفين هو أن بصماتها لا «تخرج» جيدا في الآلة الجديدة التي اشتروها لهذا الغرض. وحاول صديقنا الموظف أن يفهم السيدة بأن المشكلة في بصماتها وليس في الآلة، وكأنه يريد أن يفهمها أن بصماتها ملحوسة مثل عجلات السيارة، بسبب كثرة «الشقا». مع أن بصمات السيدة نفسها «خرجت» واضحة في آلة القنصلية الفرنسية عندما ذهبت إليها لكي تستخرج التأشيرة البيوميترية.
وبالإضافة إلى افتقار سيارات الشرطة ومقرات الأمن إلى آلات «تيرمينال» لقراءة معطيات البطاقات البيوميترية، يفتقر مشروع هذه البطاقات إلى قانون ينظم نوعية المعلومات الشخصية المسموح بتضمينها ذاكرة البطاقة. فالمغاربة يجهلون أن هذه البطاقات تحمل في ذاكرتها معلومات دقيقة عنهم وعن ماضيهم وحتى أرقام حساباتهم البنكية. وفي فرنسا مثلا من حق أي مواطن أن يذهب إلى مقر الأمن ويطلب الاطلاع على نوعية المعلومات التي تتضمنها بطاقته البيوميترية، كما لديه الحق في رفع دعوى قضائية ضد الأمن لإزالة المعلومات التي يرى فيها تدخلا غير مشروع في حياته الخاصة. ففي فرنسا كما في الدول الديمقراطية الأخرى هناك ما يشبه هيئة على شاكلة هيئة تقنين الاتصالات في مجال الهاتف، يعهد إليها بتحديد دقيق للمعلومات الخاصة التي ستتضمنها البطائق البيوميترية. حتى لا يأتي من يتهم الأمن بالتجسس على الحياة الخاصة للمواطنين.
وعندما يبشرنا القباج والي الدار البيضاء أو شباط عمدة فاس بقرب تنصيب كاميرات للمراقبة في الشوارع والساحات، لا أحد منهما سأل نفسه عن القانون المنظم لوضع الكاميرات في الأماكن العمومية. وهل من حق السلطة مثلا نصب كاميرا للمراقبة أمام بيت مواطن يظل مراقبا طيلة اليوم والليلة.
ولعل المثال الساطع على إصابة بعض الوزراء بقصور في النظر، مما يجعلهم يصرفون أموال الشعب في غير المكان الذي كان يجب أن تصرف فيه، التقرير الأخير الذي صدر بمناسبة انتهاء «مشروع إصلاح قطاع الصحة» الذي انطلق منذ 1999 واستمر إلى حدود 2003 بغلاف مالي قدمه البنك الدولي للمغرب بلغ 550 مليون درهم لكي تؤهل خمس مستشفيات فقط. والنتيجة التي خلص إليها التقرير هي أن وزارة الصحة على عهد الشيخ بيد الله، أحد «نجوم» حزب الأصالة والمعاصرة اليوم، صرفت كل هذه الأموال على ترميم الحيطان وبناء المرافق الطبية. وهكذا تسلمت بعض المستشفيات معداتها الطبية قبل استكمال البناء، وبعضها الآخر توصل بالمعدات الطبية دون أن يتمكن من استعمالها. والسبب هو أن الآمرين بالصرف ركزوا على الجدران والآلات ونسوا أن يستثمروا في التكوين والموارد البشرية. هكذا استثمرت الوزارة في المعدات ونسيت الاستثمار في الأدمغة والأيادي التي ستشغل هذه المعدات. فبقي أغلبها يصدأ مثلما تصدأ كاميرات غلاب في مداخل المدن ومخارجها.
وعوض أن تعترف وزيرة الصحة بهذه الحقيقة التي جاء بها هذا التقرير الصادم الذي يجب أن تحاسب به في البرلمان، فضلت أن تقول في جلسة هذا البرلمان ليوم الأربعاء الماضي جوابا عن سؤال لنائب حول حاجة منطقته الملحة في الجنوب لأطباء، أن السبب في وجود هذا الخصاص هو رفض الطبيبات المتزوجات الالتحاق بأماكن عملهن في المناطق النائية. وهذه مغالطة كبيرة، لأن الوزيرة تعرف أكثر من غيرها أن الطبيبات المتزوجات اللواتي ترفض ثمانين منهن الالتحاق بأماكن تعيينهن يضعن في لائحة الأماكن التي يودون الذهاب للعمل فيها مناطق نائية كوجدة وبركان وتازة وطنجة.
إن مشكلتنا مع كل هذه الحكومات المتعاقبة علينا هي أن بعض وزرائها يضعون العربة أمام الحصان، ويستغربون لماذا لا تسير القافلة. وإذا لم يتعلم هؤلاء أن المكان الطبيعي للحصان يوجد في مقدمة العربة، فإننا سنبقى واقفين هكذا لمزيد من الوقت، بينما عربات الدول الأخرى تمر من حولنا.
اللهم إلا إذا كان الحصان «ديال بلعاني وحنا ما فراسناش».

0 التعليقات:

إرسال تعليق