الأربعاء، 18 نوفمبر 2009

أسئلة للفهم

أسئلة للفهم

لدي بعض الأسئلة التي أود أن أشرك فيها القارئ معي لعله يجد لها أجوبة.
تابعت كغيري من المغاربة داخل المغرب وخارجه برنامج «سيداكسيون» الذي بثته القناتان العموميتان ليلة السبت والذي كان هدف منظميه هو جمع ثلاثة ملايير سنتيم عن طريق تبرعات المغاربة. ويبدو أن هذا المبلغ بقي بعيد المنال حيث لم يستطع البرنامج جمع أكثر من 700 مليون سنتيم. أي أنه لم يصل حتى إلى نصف المبلغ الذي استطاع البرنامج جمعه قبل سنتين.
وبغض النظر عن البرودة التي طبعت السهرة، والمبالغة في الإطراء والمديح على أريحية المغاربة وكرمهم وجودهم، فإن عرض سعيد الناصري الفكاهي ساهم في تنفير المشاهدين من التبرع بأموالهم لصالح هذه القضية الإنسانية. فهل كان من اللازم أن يخرج الناصري عازلا طبيا من جيبه ويسأل زوجته (في العرض طبعا) «آش من طاي وآش من مذاق بغيتي»، قبل أن يضعه في فمه ويبدأ في نفخه إلى أن طرطقه لكي يثبت لكل من يحتاج إلى إثبات أن العازل الطبي يتحمل كل الأوزان والأحجام.
العازل الطبي ليس الموضوع الأنسب للسخرية، خصوصا عندما يأتي الحديث عنه في سياق الوقاية من مرض قاتل كالسيدا. ولذلك فقد كان على الناصري أن يضحك حول شيء آخر وأن يترك للاختصاصيين أمر الحديث بجدية عن العازل الطبي وأهميته في الوقاية.
وقد تخيلت رد فعل العائلات المغربية التي كانت تتابع البرنامج مع أبنائها، وحاولت أن أضع نفسي مكان أب يشاهد مع أبنائه وبناته هذا العرض «الساخر» الذي استعان فيه الناصري بعازل طبي وحوله إلى ما يشبه النفاخة. أكيد أنه حتى من كان يريد أن يتبرع ببعض المال «غادي يدير بناقص» بعد مشاهدته لهذا العرض «الباسل» الذي لم يكتف فيه بالحديث عن مذاق العازل الطبي وأحجامه وإنما تجاوزه إلى النفخ فيه إلى أن طرطقه في وجوه المشاهدين. وهكذا عوض أن يختبر أمام الجمهور قوة العازل الطبي ودرجة تحمله العالية، برهن أمامهم على ضعفه وعدم قدرته على التحمل. هكذا أعطى الناصري من خلال هذا العرض رسالة سلبية عن العازل الطبي الذي ينفجر بمجرد النفخ فيه.
سؤالي هو كالتالي، ألا تلاحظون أن 700 مليون الذي هو المبلغ الإجمالي الذي استطاع كل هؤلاء الدكاترة والأطباء والمنشطين الذين بينهم علي بادو قريب ياسمينة بادو وزيرة الصحة، والفنانين ومنهم كارلا بروني زوجة رئيس الجمهورية الفرنسية، ويسرا وفنانين مصريين آخرين، جمعه من شعب يبلغ تعداد سكانه ثلاثين مليون نسمة، هو نفسه المبلغ الذي على «المساء» أن تؤديه للقضاة الأربعة ونقيب المحامين. كيف يريدوننا أن ندفع لوحدنا لهؤلاء السادة مبلغا جمعه بالريق الناشف شعب بكامله من أجل دعم مبادرة إنسانية تجندت لها قناتان عموميتان وشعب من الصحافيين والتقنيين.
لدي سؤال آخر، ألا تلاحظون أن الذين تبرعوا لهذه المبادرة الإنسانية كانوا في غالبيتهم الساحقة أفرادا ومواطنين عاديين أرسلوا تبرعاتهم البسيطة، في الوقت الذي أحجمت فيه عن التبرع الشركات الكبرى والمجموعات المالية الضخمة وغابت أسماء المليارديرات المغاربة المشهورين الذين يتبرعون على المغنيات اللبنانيات بمئات الملايين من أجل سهرة عابرة.
وهذا ربما ما جعل حكيمة حميش تفقد برودة أعصابها وتقول بأن السيدا قضية جماعية وليست فقط قضية أفراد.
من خلال الأرقام التي قدمها الاختصاصيون في سهرة «سيداكسيون» عرفنا أن الرقم الرسمي للمرضى المصابين بالسيدا في المغرب لا يتعدى 2000 مصاب. أما التقديرات الرسمية لحاملي الفيروس دون علمهم فلا تتعدى ثلاثين ألفا. كل هؤلاء المصابين تتكفل بعلاجهم الثلاثي وزارة الصحة. ويكلف كل مريض خزينة الدولة حوالي 500 درهم في الشهر. وقد أعطى البنك الدولي لوزارة الصحة حوالي 26 مليون دولار مقسمة على ثلاث سنوات من أجل التكفل بعلاج جميع مرضى السيدا في المغرب.
ألا ترون معي أن هناك أمراضا أخرى أكثر فتكا بالمغاربة تستحق هي الأخرى أن تخصص لها القناتان العموميتان سهرات لجمع التبرعات لصالح الجمعيات التي تعمل بإمكانياتها الذاتية على مساعدة المرضى الذين تتكفل بهم.
وربما يجهل كثيرون منكم أن السبب الأول للوفاة في المغرب ليس هو السيدا، وإنما أمراض القلب. وبالنسبة للنساء فالوفاة بسبب القلب تأتي قبل الوفاة بسبب سرطان الثدي، عكس ما هو شائع.
كل سنة لدينا في المغرب 30 ألف حالة سل جديدة تنضاف إلى الحالات السابقة. والمغرب إحدى الدول القليلة في العالم التي تعرف عودة «مظفرة» لداء السل القاتل. ومع ذلك لم تفكر أية جهة إعلامية رسمية بتنظيم «تيليطون» لجمع التبرعات بغاية تمويل برامج للتوعية والوقاية والعلاج من هذا الداء الفتاك.
وكل سنة يسجل المغرب 40 ألف حالة سرطان جديدة. وعدا المجهود الجبار الذي تبذله جمعية لالة سلمى لمحاربة السرطان، وبعض الجمعيات العاملة في الميدان، فإن الإعلام العمومي يبقى خارج التغطية ويكتفي بإرسال كاميراته لتصوير المنشآت الطبية التي تشتريها هذه الجمعيات لصالح مرضى السرطان. ولم يحدث أن سمعنا بمبادرة لجمع التبرعات لتمويل برامج ومعدات طبية لصالح كل هؤلاء العشرات من الآلاف الذين يموتون بالتقسيط على أبواب المستشفيات العمومية.
كل سنة ينضاف إلى طابور مرضى القصور الكلوي 4000 مرض جديد، 20 بالمائة منهم فقط يخضعون للعلاج، بشهادة جريدة «العلم» لسان حزب الاستقلال الذي باسمه توجد ياسمينة بادو وزيرة الصحة في الحكومة.
في المغرب ثلاثة بالمائة من سكانه مصابون بالتهاب الكبد الفيروسي، أي حوالي 900 ألف مغربي. وزارة الصحة متفائلة كعادتها ولذلك تتحدث عن 300 ألف فقط، أي واحد بالمائة من المغاربة. وبسبب هذه النسبة المخيفة قرعت منظمة الصحة العالمية جرس الإنذار وحذرت من تنامي هذا المرض وانتشاره مستقبلا إذا لم تتم السيطرة عليه.
والجميع يعرف أن تكاليف علاج مرض التهاب الكبد الفيروسي تبقى إحدى أكثر التكاليف ارتفاعا. وهكذا يموت الآلاف من المغاربة سنويا بسبب عدم قدرتهم على تحمل مصاريف العلاج. وإذا كانت بعض المؤسسات الرسمية والخاصة «تتبرع» على موظفيها ومستخدميها بالتحاليل المجانية لاكتشاف هذا المرض، فإنهم في حالة اكتشافه يكونون مجبرين على التعامل مع المختبر الوحيد بالدار البيضاء الذي يحتكر إنتاج وبيع الأدوية لمرضى التهاب الكبد الفيروسي، والتي يمكن أن تصل تكاليف العلاج الشهرية معه إلى 7000 درهم في الشهر حتى نهاية فترة العلاج التي تمتد إلى ستة أشهر.
وبما أن شركات إنتاج الأدوية العالمية تبحث عن المرضى بالفتيلة والقنديل لكي تبيعهم دواءها، فقد قررت هذه الشركة ألا تنتظر اكتشاف المغاربة لإصابتهم بأنفسهم، فهي تعرف أنها لو عولت على ذلك لأغلقت أبوابها وأعلنت إفلاسها، فالمغاربة يتعايشون مع أمراضهم بدون علمهم ويموتون أحيانا دون أن يعرف أحد بماذا ماتوا. وكل ما يخسرونه على بعضهم البعض هو «كان ما عليه ما بيه، كان واقف حتى طاح». ولذلك قررت هذه الشركة العملاقة أن «تتبرع» على موظفي الشركات والإدارات المغربية الذين لديهم تغطية صحية بتحاليل مجانية بحثا عن «زبائن» جدد بينهم تستطيع أن تبيعهم دواءها الباهظ.
لذلك ألا تعتقدون أن التحاليل المجانية التي تكلف بعض شركات الأدوية العالمية الجمعيات التي تمولها بالقيام بها بحثا عن بعض الأمراض في دمائكم هي في الواقع ليست من أجل سواد عيونكم بل من أجل سواد جيوبكم.
أما حكاية بعض الجمعيات التي «تناضل» إلى جانب بعض المصابين بالأمراض المزمنة في المغرب، فتلك قصة أخرى. فتجارة المرض معروفة عالميا بكونها التجارة الأكثر ضخا للأموال.
وصناعة الدواء والتحكم في تجارته، وأحيانا خلق زبائنه، كلها أساليب تجارية يحكمها منطق الربح والخسارة أكثر مما يحكمها أحيانا منطق الأخلاق.
نحن محتاجون في المغرب إلى برامج مثل «سيداكسيون» لجمع التبرعات من أجل مكافحة مرض خطير وفتاك كالسيدا. لكننا محتاجون أكثر إلى برامج من أجل جمع التبرعات لضحايا أمراض القلب والسل والسرطان والسكري والقصور الكلوي والتهاب الكبد الفيروسي. لأن مصير 2000 مريض بالسيدا، و30 ألف حامل للفيروس، ليس أقل أهمية من مصير الملايين من المغاربة المصابين بأمراض تقتل بأعداد أكثر
وبسرعة أكبر مما تفعل السيدا.
والله أعلم.

0 التعليقات:

إرسال تعليق