الأحد، 15 نوفمبر 2009

حاطب الليل

حاطب الليل

عشر سنوات كاملة هي المدة التي احتاجتها الشركات التي تعاقبت على بناء المقر الجديد لمجلس المستشارين، والذي تم افتتاحه بمناسبة انطلاق الدورة الخريفية للبرلمان. ووحده المبلغ الذي صرفه البرلمان على بناء غرفته الثانية يصيب بالدهشة، فقد كلف غلافا ماليا قدره 242،8 مليون درهم. كل هذا المال وهذه السنوات الطويلة من البناء والتشييد لم تمنع القطرة من التسرب من سقف المبنى الجديد بسبب الأمطار الأخيرة.
وقد كنا نؤاخذ محطة الوصول الثانية بمطار محمد الخامس على كون القطرة سالت فيها بعد سنة واحدة من تدشينها، وها نحن اليوم نرى كيف أن عكاشة رئيس مجلس المستشارين ينتزع الرقم القياسي من عبد الحنين بنعلو مدير المكتب الوطني للمطارات، فالقطرة سالت من سقف المجلس الموقر أسبوعين فقط على تدشينه. ويبدو أن «المتضرر» الأكبر من الأمطار الغزيرة التي تتساقط على المغرب هذه الأيام ليس فقط المواطنون العزل في القرى والبوادي المنسية، ولكن أيضا المؤسسات العمومية المنتهية حديثا من البناء. وإذا كانت لجان قضاة المجلس الأعلى للحسابات يزورون هذه المؤسسات للتدقيق في فواتير الصفقات والمصاريف، كتلك اللجنة التي ترابط في المكتب الوطني للمطارات منذ أكثر من سنة، فإن «الشتا ديال مولانا» تدقق في جودة البناء. وإلى حدود اليوم، ونحن لا زلنا بعد في شهر أكتوبر، كشفت الأمطار عورة العديد من المشاريع والمؤسسات العمومية، وجرفت في طريقها عدة «قناطر وطرق» بنيت في الفترة الأخيرة وقدمت للملك كمشاريع تنموية ستغير وجه المغرب من طرف عراب خريجي مدرسة «الطرق والقناطر» بباريس.
وإذا كان نزول القطرة من سقف المؤسسات العمومية المنشأة حديثا وتحمل سقوف المؤسسات العمومية التي تركها الاستعمار الفرنسي للأمطار، أمرا مخجلا ويتطلب فتح تحقيق قضائي مع الشركات التي تكلفت بأعمال البناء، والجهات المشرفة على المشروع والآمرين بالصرف، فإن نزول القطرة في مؤسستين مهمتين وذات رمزية سيادية كبرى، مثل المطار ومجلس المستشارين، يعتبر أمرا غاية في الخطورة.
لماذا. ببساطة لأن الأمر يتعلق بأهم مطار في المملكة، هو مطار محمد الخامس، الذي يعتبر البوابة الرئيسية للمغرب ووجهه المطل على العالم بأسره. وإذا رأى القادمون إلى المغرب ومغادروه برك الماء الناتجة عن تساقط الأمطار في أكبر وأهم وأقدم مطار في المملكة، فإنهم بلا شك سيكونون صورة سيئة عن باقي المؤسسات العمومية الأخرى. فإذا كان سقف المطار الدولي للمملكة يسيل مع أول قطرات المطر، فما بالك بالمؤسسات الأخرى.
أما نزول القطرة في مجلس المستشارين فهذه فضيحة سياسية كبرى، قبل أن تكون فضيحة «بنيوية». لأنها تكشف إلى أي حد وصل الاستهتار بالمال العام. فمؤسسة البرلمان التي يفترض فيها أن تراقب أوجه صرف أموال دافعي الضرائب، وممارسة الرقابة على المشاريع العمومية وميزانياتها، عاجزة حتى عن ضمان تسليم المقر الجديد لغرفته الثانية في موعده. ولذلك تجرجر موعد تسليم المقر لعشر سنوات كاملة، وفي الأخير عندما سلمت الشركة عكاشة مفاتيح المقر الجديد بللت القطرة جدرانه منذ الأسبوع الأول.
ولعل هذه الفضيحة هي التي كان على النواب مناقشتها خلال الجلسة العاصفة ليوم الأربعاء الماضي في البرلمان، حيث اختلط الأمر على شباط عمدة فاس واعتقد للحظة أنه في حديقة للحيوانات فخاطب أحد نواب العدالة والتنمية قائلا «لا تنبح يا أخي لا تنبح».
والذين تابعوا تلك الجلسة البرلمانية غسلوا أيديهم على البرلمان وما يمكن أن يأتي منه. فقد رأوا وسمعوا كيف يترك بعض النواب من درجة أميين مناقشة قضايا الشعب الحقيقية جانبا ويتفرغون لإظهار مهاراتهم اللغوية المستمدة من قواميس «السوق».
خصوصا وأن هذا السيرك جاء مباشرة بعد حفل افتتاح البرلمان حيث «حفن» بعض البرلمانيين والمستشارين الحلوى وجمعوها في أكياس لكي يحملوا «الباروك» إلى عائلاتهم.
إن تسرب القطرة إلى الغرفة الثانية وتسرب أمثال هؤلاء النواب إلى الغرفة الأولى، ليس سوى تجسيد لوصول الغرفتين معا إلى مرحلة الإفلاس السياسي.
فالبرلمان كمؤسسة لمراقبة الشأن العام، لا يستطيع حتى مراقبة طريقة بناء غرفته الثانية، والبرلمان الذي يعتبر مؤسسة يفترض فيها أن تعطي دروسا للمواطنين في تدبير الاختلاف السياسي، أصبح مدرسة لأنصاف الأميين يأتون إليه لكي يقلوا فيه حياءهم على بعضهم البعض، ويفرجوا الشعب في مهاتراتهم الفارغة، عوض مناقشة قضاياه المصيرية.
والبرلمان الذي اخترعته الديمقراطية ونصت على ضرورة وجود معارضة وأغلبية به، أصبح عندنا شبيها بصحراء شاسعة تتسكع فيه قوافل النواب الباحثة عن الكلأ السياسي. ووحده حزب الأصالة والمعاصرة الذي لم يمض على تأسيسه سوى شهرين أصبح يضم أكبر فريق برلماني باستطاعته زعزعة كرسي الوزير الأول من مكانه.
ولهذا نفهم غضب الخياري أمين عام جبهة القوى الديمقراطية عندما رفع دعوى قضائية ضد نائبيه اللذين هجرا حزبه وارتميا في أحضان الأصالة والمعاصرة. فهذا القرار قد يعتبره البعض إجراء ديمقراطيا للقضاء على ظاهرة النواب الرحل، لكن الواقع أن هذا القرار ليس سوى مناورة سياسية لا تقل سريالية عما قام به النائبان المحترمان. فالخياري عندما استقبل النائب محمد بنعطية وأعطاه التزكية في انتخابات 2007، كان يعلم أن هذا المرشح لم يحصل على التزكية لأنه ناضل في صفوف شبيبة جبهة القوى الديمقراطية وترقى المراكز إلى أن وصل إلى مستوى تمثيل الحزب في الانتخابات، وإنما يعلم الخياري أكثر من غيره أن محمد بنعطية مر قبل الوصول إلى باب «الجبهة» بأبواب ستة أحزاب قبله. فقد بدأ في التقدم والاشتراكية وهاجر إلى حزب القوات المواطنة، ثم انتقل إلى الحركة الشعبية سنة 2003، ولم يعمر بها طويلا وانتقل إلى الحزب الوطني الديمقراطي سنة 2004، ولم يصل إلى حزب الخياري سوى بمناسبة انتخابات 2007 وحصل على تزكيته بعد أن فشل في إقناع أربعة أحزاب بتزكيته في هذه الانتخابات.
لكن الخياري «مول الجبهة» لم ير كل هذه الرحلات المكوكية لعضو حزبه في البرلمان، إلا عندما قرر هذا العضو ركوب «التراكتور» والالتحاق بالهمة مثل غيره من الراغبين في الالتحاق بالثلث الناجي. فقام بتسجيل دعوى ضده في المحكمة.
ولذلك فالخياري عندما يقاضي برلمانييه بتهمة «قلب الكبوط»، لا يصنع ذلك حرصا على الديمقراطية المغتصبة، وإنما انتقاما للثقة التي خانها هؤلاء النواب، خصوصا بالنسبة إلى محمد بنعطية الذي زكاه الخياري في وقت رفض فيه الجميع تزكيته.
ولا بد أن أكبر من سينشرح صدره لهذه الدعوى القضائية التي رفعها زعيم الجبهة ضد محمد بنعطية هو إسماعيل العلوي أمين عام التقدم والاشتراكية. ومولاي إسماعيل وقع له مع بنعطية ما وقع لذلك البدوي الذي زينوا له بيع عجله الوحيد لكي يحج بثمنه، وفي الأخير خرج من السوق بلا عجل وبلا حج. فقد كان بنعطية أكبر من شجع مولاي إسماعيل العلوي على ترشيح نفسه في سلا الجديدة في انتخابات 2002، بعد أن كان الرفيق إسماعيل يترشح دائما في سيدي قاسم ويفوز بمقعده. فقد كان بنعطية مستشارا جماعيا في سلا الجديدة وزين للرفيق فكرة ترشيحه إلى جانبه. وكما كان منتظرا سقط إسماعيل العلوي في سلا الجديدة، وفهم بعد فوات الأوان أن بنعطية «فرش له التبن فوق الما»، خصوصا عندا رآه يضربها «بسلتة» من حزب الرفاق التقدميين أياما قليلة قبل الانتخابات التي كان يعول فيها عليه سعادة الأمين العام، ملتحقا بحزب القوات المواطنة الذي زكاه في سلا الجديدة، فسقط هو الآخر في الانتخابات. ولم ينجح في الوصول إلى «بر لامان» إلا في انتخابات 2002 بتزكية من الحزب الوطني الديمقراطي.
وهاهو اليوم ينتهي أمام القضاء مع الخياري بتهمة «قلب الكبوط» الحزبي عليه.
هذه عينة صغيرة من البرلمانيين الذين يتهافتون على الالتحاق بفريق التراكتور البرلماني. وإذا كان المغاربة قد انشغلوا بتتبع مسلسل «عازف الليل» سنوات الثمانينات، فإنهم اليوم بفضل البرلمان وتحالفاته العجيبة سيتابعون مسلسلا مشوقا اسمه «حاطب الليل». فيبدو أن فريق الهمة البرلماني يحطب النواب تحت جنح الظلام، ولذلك ليس مستغربا أن يعثر في الصباح ضمن أكوام الحطب التي جمعها بالليل على بعض الأفاعي والعقارب. فالحطب في الليل مثله مثل «خدمة الليل»، يصبح «ضحكة للنهار».
فهل بهاتين الغرفتين في مجلس النواب ومجلس المستشارين سنبني مغرب الغد، مغرب الديمقراطية والحداثة يا ترى.

0 التعليقات:

إرسال تعليق