الأربعاء، 11 نوفمبر 2009

الأزمنة الرديئة

الأزمنة الرديئة

أتذكر الآن عندما قلت لأحد الزملاء الأجانب مفتخرا بأن المغرب يعيش انفتاحا إعلاميا غير مسبوق، فنصحني الزميل بألا أكون متفائلا أكثر من اللازم وقال «لا تستعجل، ستأتي الأزمنة الرديئة».
وأعتقد أن الأزمنة الرديئة قد بدأت بالفعل. وأنا متأكد من أن الحرس القديم الذي وجد نفسه خلال السنوات الأخيرة مضطرا للتراجع داخل خنادقه بعد أن اشتد الخناق على رجالات إدريس البصري وحوصروا في الوزارات والإدارات العمومية التي كانوا يعيثون فيها فسادا، يحتفلون اليوم بعودتهم المظفرة إلى الواجهة.
فقد أقنعوا الماسكين بزمام الأمور بأن حكاية «الانفتاح الإعلامي» و«حرية التعبير» ليست سوى «ضصارة» على المخزن. وإذا استمر المغرب في التساهل مع هؤلاء «الضاصرين» سيأتي يوم يجد فيه المخزن أن هيبته ذهبت أدراج الرياح.
يجب أن نقرأ الأحداث الأخيرة التي شهدها المغرب ضد الصحافيين والحقوقيين ودعاة حرية التعبير عموما قراءة واضحة حتى نفهم الرسالة التي يود أقطاب الحرس القديم إيصالها إلى من يعنيهم الأمر.
وأعتقد أنه لم يكن اعتباطيا تعيين رجل اسمه حفيظ بنهاشم على رأس إدارة السجون في هذه الظروف التي يجتازها المغرب بالضبط. فالرجل اشتغل لسنوات طويلة في ديوان وزير الداخلية الأسبق إدريس البصري، وعاش إلى جانبه أبشع سنوات القمع ضد المغاربة. ولعل بنهاشم، الشرطي السابق الذي كان ينظم المرور بصفارته في شارع محمد الخامس بالرباط سنوات السبعينات، قبل أن ينتبه إليه البصري بعد إشرافه على الفرقة التي كانت مكلفة بالتحقيق في أطنان الكوكايين التي وصلت بداية التسعينات إلى شواطئ الدار البيضاء والجديدة بعد أن تخلص منها مهربون دوليون في عرض المحيط، يعرف بفضل تدرجه في مناصب الإدارة العامة للأمن الوطني أن الفترة التي قضاها إلى جانب البصري هي الفترة السوداء ذاتها التي يحاول المغاربة منذ سنوات طي صفحتها إلى الأبد. لكن يبدو أن هناك من يصر على تقليب صفحات هذا الكتاب الأسود للاستفادة من تجارب وقصص بعض «أبطاله» في تسيير دواليب الحكم.
وبغض النظر عن تكليف الساعد الأيمن لإدريس البصري بتدبير شؤون حوالي ستين ألف مغربي موزعين على سجون المملكة، فإن ما يقلق فعلا الأجيال الجديدة من الأطر ورجالات الدولة المهيئين هو هذا اللجوء الغريب لخدمات رجل بلغ من العمر أربعا وسبعين سنة، كان الأجدر به أن يذهب ليستريح. وكأن بطون الأمهات المغربيات طيلة كل هذه السنوات لم تلد رجالا درسوا ونالوا درجات عالية من الجامعات المغربية والدولية يستحقون أن يسيروا شؤون بلدهم، مكان هؤلاء الموظفين الذين ينتمون إلى زمن آخر وعهد آخر، والأكثر من ذلك أنهم وصلوا سن التقاعد.
ولعل الذين اقترحوا اسم بنهاشم لرئاسة مديرية السجون، أغفلوا إحدى أهم النقط التي أشارت إليها توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة التي وضعها الراحل بنزكري، وهي أن الذين شاركوا أو تورطوا في ملفات لها علاقة بسنوات الرصاص يجب ألا يتحملوا مسؤولية عمومية أو رسمية في المستقبل. يعني أن المصالحة إذا كانت تقتضي عدم متابعة الجلادين أمام القضاء من طرف الضحايا، فعلى الأقل يجب على هؤلاء الجلادين ومساعديهم أن يتحلوا بشيء من الكبرياء وأن «يغبرو وجوههم» حتى لا ينغصوا على المغاربة حياتهم الجديدة.
وربما لهذا السبب بالضبط استغربت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان تعيين بنهاشم رغم اتهامها له بتورطه في ملف الانتهاكات الجسيمة ضد حقوق الإنسان. وليس بنهاشم وحده من عاد من سنوات الرصاص لكي يذكرنا بحقبة نحاول جميعا نسيانها، بل هناك حرس قديم بكامله يحرك فيالقه لكي يدك قلاع حرية التعبير والانفتاح الإعلامي الذي انخرط فيه المغرب منذ جلوس الملك محمد السادس على العرش.
إننا نفهم أن مصالح هذا الحرس القديم أصبحت مهددة بسبب كل هذه الخطوط التحريرية الجديدة التي أصبحت تتميز بالجرأة على اقتحام المواضيع والمؤسسات الأكثر انغلاقا. ونفهم حجم التأثير الذي يمارسه هذا الحرس على دوائر صناع القرار السياسي والاقتصادي. ونفهم أن مصلحة هذا الحرس القديم هي أن تعود حرية التعبير في المغرب إلى الوراء، وذلك بعرقلة صدور قانون للصحافة يعطي الصحافيين المغاربة حريات أوسع وصلاحيات أكبر في مراقبة طرق صرف المال العام وممارسة سلطتهم الرابعة بعيدا عن المضايقات القضائية والتحرشات المالية والاعتداءات الجسدية.
ولعل الوالي محيي الدين أمزازي الجاثم بكل ثقله على ملف الصحافة في وزارة الداخلية يعرف أكثر من غيره عمن نتحدث. وإذا كان لا يعرف فما عليه سوى أن يسأل صديقه الحميم لديدي الكاتب العام لوزارة العدل الذي يلعب معه يوميا لعبة ورق «التوتي» بنادي الأعمال الاجتماعية لموظفي وقضاة العدل بحي السويسي بالرباط، رغم مرور أكثر من شهر على فرار سجناء السلفية الجهادية من سجن القنيطرة الذي كان تابعا له.
كان الجميع ينتظر بعد فرار تاجر المخدرات الشهير وبعده تسعة من معتقلي السلفية الجهادية أن تتم محاسبة الكاتب العام لوزارة العدل، ولم لا عزله من مهامه بسبب مسؤوليته المباشرة فيما وقع. فإذا بنا نكتشف أن المحاسبة لم تطل حتى مدير السجن، الذي يقول دائما أنه لا ينفذ سوى تعليمات لديدي.
فالمحاسبة عندنا في المغرب تشمل صغار الموظفين فقط دون كبارهم. ولعل ما يحدث اليوم لموظفين في السلالم الدنيا يشتغلون في مقاطعات وعمالات بالدار البيضاء من استنطاق يومي بحثا عن مسؤوليتهم المباشرة في محرقة معمل ليساسفة، خير دليل على أن الحرس القديم لازال يعيد إنتاج نفس السياسة القديمة القائمة على إخفاء الحقائق عن الرأي العام، بالتستر على المسؤولين الحقيقيين وتقديم أكباش فداء على مذبح العدالة.
إن الوالي أمزازي الذي ظهر اسمه في تقرير المجلس الجهوي للحسابات الذي سهر على إنجازه ثلاثة قضاة، كأحد المستفيدين، إلى جانب موظفين آخرين في الاستعلامات العامة، من رصيد تسع ساعات شهرية مجانية من الهاتف، يعطينا فعلا صورة مصغرة عن نوع المصالح التي يحرص على حمايتها بعض الموظفين الكبار.
فبأي حق يستفيد والي تابع لوزارة الداخلية من تعبئة هاتف مجاني على حساب ميزانية مجلس المدينة التي تخرج من جيوب دافعي الضرائب. ولعل المثير للسخرية في هذا التقرير هو أن أول من يتوصل به بعد إنجازه هو أمزازي نفسه في وزارة الداخلية. ولكم أن تتصوروا كيف سيسهر موظف يتوصل بتقرير يشير إلى اسمه كأحد المتورطين في استغلال المال العام على تطبيق ما جاء في هذا التقرير.
على الحرس القديم في الداخلية والعدل أن يعلموا أن مستقبل المغرب ومصيره أهم من مستقبل ومصير مصالحهم ومصير عائلاتهم الصغيرة. ولذلك فمصلحة المغرب ليست في الرجوع بنا إلى الخلف ومحاولة تكميم أفوه الصحافيين والحقوقيين، وإنما في توسيع هامش الحرية وتوفير الكرامة للجميع.
وكما يطلب الناطق الرسمي باسم الحكومة من الصحافيين ألا يكونوا فوق القضاء، فكذلك على سعادة الوزير الشيوعي السابق أن يقول لهذا الحرس القديم ألا يضع نفسه فوق القضاء. فلا يعقل أن تظهر بين يوم وآخر مقابر جماعية تؤوي جثث مغاربة قتلوا غدرا بالرصاص في الشوارع ولا نرى أي مسؤول شارك في إعطاء الأوامر بقتل المواطنين وطمرهم في الحفر الجماعية يساق إلى التحقيق. وكأن كل هؤلاء الضحايا ماتوا بالصدفة بمحض إرادتهم.
إن فلسفة المصالحة تقتضي أن يقلب الجميع الصفحة وأن يتجه الجميع نحو المستقبل، أما إذا كان هناك حرس قديم يريد الرجوع إلى الخلف، فإن هذه العودة لن تتم دون أن تقلب معها صفحة الماضي الذي تسببوا في مواجعه. آنذاك سنعود إلى نقطة الصفر، وسنبدأ الحكاية من جديد. فهل نحن مستعدون لسماع كل شيء...

0 التعليقات:

إرسال تعليق