الاثنين، 9 نوفمبر 2009

العدالة الانتقامية

العدالة الانتقامية

بعد أسبوع من صدور حكم القاضي العلوي على «المساء» بتعويض نواب وكلاء الملك الأربعة (بلال بورباب، عبد الهادي فتحي، محمد الحافيظي، سعيد فكري) بمبلغ 600 مليون لجبر ضررهم المفترض، أصدرت محكمة بالحسيمة حكما بتعويض مواطن تضرر بيته جراء أشغال قامت إحدى الشركات التي فازت بصفقة المكتب الوطني للماء الصالح للشرب لبناء قنوات صرف مياه الأمطار، مبلغا قدره عشرة ملايين سنتيم لا غير.
هذا المواطن الذي اضطر رفقة أسرته إلى مغادرة مسكنه لأيام طويلة والسكن في الشارع مخافة أن ينهار سقفه فوق رأس أطفاله بسبب ما يسميه «عدم احترام الشركة لمعايير البناء» تقرر المحكمة تعويضه بعشرة ملايين سنتيم، أما سعادة نواب وكلاء الملك، الذين لم نشر إلى أي واحد منهم لا بالاسم ولا بالصفة، وسبق أن قدمنا اعتذارا لكل من شعر أن كرامته تضررت مما نشرنا، فقد حكم لهم القاضي العلوي بمائة وخمسين مليونا للرأس.
وهكذا فعوض أن تحكم المحكمة لهذا المواطن بتعويض يتناسب والضرر الذي أحدثته هذه الشركة في بيته حتى يتسنى له إصلاح الأضرار ومغادرة الشارع والعودة إلى منزله، حكمت محكمة العلوي في الرباط على «المساء» بتعويض يعرض 150 صحافيا وموظفا ومستخدما يشتغلون في الشركة المصدرة للجريدة للانتهاء في الشارع.
هنا يبدو واضحا أن القاضي العلوي لم يتصرف في هذه القضية التي انتقلت من القصر الكبير إلى الرباط لترسو عليه «صفقتها»، بحياد وموضوعية. وإنما تصرف كقاضي يهب لنصرة قضاة زملاء له في المهنة. ولذلك جاء حكمه القضائي الشاذ ليعزز توجها جديدا للعدالة في المغرب يمكن أن نسميه «العدالة الانتقامية». ويبدو والله أعلم أن مسار المصالحة بين الدولة وماضيها الجسيم عبر ما يسمى بالعدالة الانتقالية قد فشل، ولذلك تريد الدولة تعويضه بالعدالة الانتقامية.
وكم شعرت بالخجل من نفسي كمغربي عندما سمعت إحدى المحاميات المتدربات في مكتب النقيب زيان الذي ترافع ضدنا في هذه المحاكمة المسخرة، وهي تعطي تصريحا لقناة الجزيرة بعد النطق بالحكم الشاذ. فقد قالت المتدربة أن الحكم بستمائة مليون حكم مناسب وإيجابي لأنه على الأقل لم يتضمن العقوبة الحبسية. والمتدربة معذورة فيما قالت، فهي لازالت في بداية الطريق وتجهل أن الحكم بالسجن أهون من الحكم بالإعدام. وأنا على استعداد لكي أذهب إلى السجن منذ اليوم لكنني لست على استعداد لكي أرى 150 شابا وشابة يفقدون مناصب عملهم. تلك التي لم يراعها سعادة القاضي العلوي، وأراد أن يقدمها قربانا لكبرياء أربعة من زملائه واستجابة لقاعدة «العزة بالإثم» التي تأخذ بعض القضاة وتجعلهم يشعرون بأنهم فوق الجميع وأن سلطتهم يجب أن يسجد لها الجميع.
وإذا كان من فضيلة يمكن أن تحسب لهذه المحاكمة الشاذة فإنها قد نجحت في توحيد الصحافيين المغاربة على مختلف صحفهم وخطوطهم التحريرية. وبينت بما لا يدع مجالا للشك أن الخصم الوحيد والحقيقي لحرية التعبير في المغرب هو هذه العدالة الانتقامية التي تضحي في كل محاكمة بصحيفة عندما يحين أوان قطف رأسها. ومنذ أصدرنا أول عدد شعرنا بأن سيوف هذه العدالة الانتقامية تترصدنا وتحصي علينا أنفاسنا. وقد حاولوا أكثر من مرة التحرش بنا ببياناتهم التي ينشرونها عبر وكالة الأنباء الرسمية وينفون فيها ما ننشره حول فضائحهم، لكن يبدو أن صبرهم بدأ ينفذ وقرروا الإجهاز على هذا الصوت المزعج الذي يفسد عليهم أغنية «العام زين».
نحن أيضا لن نبقى مكتوفي الأيدي في هذه المعركة. أولا نحن سعداء بهذا التضامن الشعبي المنقطع النظير الذي طوقنا به القراء والمتعاطفون والهيئات الحقوقية والنقابية لمختلف المهن. الجميع يريد أن يساهم ماديا ومعنويا معنا لتجاوز هذه المحنة. هناك قراء بالآلاف في الداخل والخارج يطلبون منا أن نفتح حسابا بنكيا باسم «المساء» لكي يبعثوا فيه مساهماتهم المادية. وهناك قراء آخرون يقترحون أن نرفع من سعر الجريدة درهما أو درهمين حتى نجمع المبلغ الذي يطلبه السادة نواب وكلاء الملك والذي يريد أحدهم أن يتركه كإرث لأبنائه. وحتى الذين لا يملكون الإمكانيات لمساعدتنا في هذه المحنة أخبرونا بأنهم أصبحوا يشترون نسختين من «المساء»، واحدة يقرؤونها والأخرى يتبرعون بها.
وهذه مناسبة لنشكر كل هؤلاء المغاربة الأحرار الذين وجدناهم في جنبنا عندما احتجنا إليهم. معركتنا اليوم ليست هي جمع مبلغ التعويض الذي يطالب به السادة نواب وكلاء الملك. فالمال لم يكن أبدا انشغالنا الأول عندما دخلنا هذه المهنة. ولو كنا نريد فقط جمع المال لكنا استثمرنا أموالنا في البناء والتشييد كما يفعل الجميع وليس في مجال كله أخطار ومتاعب ومضايقات. معركتنا أكبر من ذلك. إنها معركة استخراج قانون للصحافة يليق بالتطور الكبير الذي عرفه المشهد الإعلامي بالمغرب. قانون يحمينا من هؤلاء القضاة الذين توظفهم هيئة العدالة الانتقامية لقص أجنحة كل مقاولة صحافية ناجحة.
وهذه ليست معركتنا وحدنا في «المساء»، وإنما معركة كل الصحافيين المغاربة. لأننا أصبحنا نعيش في المغرب اليوم نزيفا خطيرا في حرية التعبير، وهذا النزيف إذا لم نوقفه الآن فإننا سنفقد القدرة على السير في الطريق الشاق والطويل لبناء مجتمع حر وديمقراطي.
لقد أصبح وجه خصوم الانتقال الديمقراطي في المغرب واضح الملامح الآن. لذلك يجب أن لا نخطئ وجوه الخصوم. إنهم يجلسون في الظل ويحركون الكراكيز في المحاكم للجم الألسن ودق المسامير في نعوش الصحافيين. وبهذا الحكم الذي حطم كل الأرقام القياسية في العالم العربي، وسجل أكبر غرامة عرفها التاريخ الصحافي في المغرب، يكون خصوم الانتقال الديمقراطي قد كشفوا ليس فقط عن وجوههم وإنما عن أنيابهم أيضا. كما أنهم بهذا الحكم يكونون قد اقترفوا الخطأ الفادح الذي سيفضحهم ويعريهم أمام العالم. لقد آمنت دائما بمقولة نابليون التي ينصح فيها المظلومين قائلا «لا توقف أبدا خصما يشرع في اقتراف الخطأ». لذلك لن نوقف خصوم الانتقال الديمقراطي عن اقتراف هذا الخطأ الجسيم الذي وقعوا فيه. سنتركهم لمحاكمة الرأي العام الوطني والدولي لكي يقولوا كلمتهم في حقهم. وإذا كانوا يستهينون بما يمكن أن نفعله في هذه المعركة فما عليهم سوى أن ينظروا إلى الحملة الدولية التي تشنها منظمة «صحافيون بلا حدود» ضد النظام الصيني الذي يقمع حرية التعبير ويسجن الصحافيين والمعارضين.
لقد بدأت أولى شرارات التضامن مع «المساء» في تطوان عندما نظمت اللجنة المحلية لمؤازرة «المساء» وقفة احتجاجية بمناسبة افتتاح مهرجان تطوان السينمائي. ووجد وزير الاتصال بيانا موقعا باسم الهيئات الحقوقية في تطوان بانتظاره. ونعده أنه هو وزملاؤه في الحكومة سيجدون في الأيام القادمة مثل هذه البيانات بانتظارهم في أي مكان يذهبون إليه.
كما بدأت أولى بوادر التضامن الدولي مع «المساء» في تأسيس هيئة على الصعيد الأوربي لتحسيس حكومات الاتحاد الأوربي بالخطورة التي وصل إليها الوضع الإعلامي في المغرب بسبب الإرهاب القضائي المسلط على أقلام الصحافيين. ونحن الآن بصدد الإعداد لاستقبال رئيس الوزراء الإسباني زاباطيرو على طريقتنا الخاصة، لكي نضعه في الصورة الحقيقية للمستوى الذي وصلته الحريات العامة عند جاره، ونحمله مسؤوليته كرئيس دولة منتخب ديمقراطيا ومساند لحق الشعوب في الديمقراطية وحرية التعبير.
ليس في ما نستعد للقيام به على الصعيد الدولي أية رغبة في الإستقواء بالأجنبي ضد الدولة. بل نريد أن يعرف العالم كله أننا كصحافيين مغاربة لدينا مشكل حقيقي وخطير مع عدالة تنتقم منا بطريقة وحشية وسادية. نريد أن يعرف الجميع أن المغاربة يستحقون عدالة أحسن من هذه التي يرزحون تحت حذائها الثقيل. باختصار نريد ضمانات قانونية حقيقية تحمينا من الشطط في استعمال القضاء، ومن العدالة الانتقامية التي أسسها مجموعة من المرتشين والفاسدين لحماية مملكتهم الفاسدة.
لقد حان الوقت لكي يعلم الجميع أن هناك شيئا ما فاسدا في المملكة المغربية.

0 التعليقات:

إرسال تعليق