السبت، 14 نوفمبر 2009

حليب السباع

حليب السباع

خلال هذا الشهر المعظم سيفقد أكثر من مسؤول في المغرب منصبه. ومنهم من ستذهب وزارة الداخلية إلى حد تتريكه، كما وقع مع عامل خنيفرة السابق، الذي صدرت تعليمات بإحصاء ممتلكاته من أجل البحث فيها عن رائحة أموال المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي كانت مرصودة لمشاريع تنموية في خنيفرة. فطارت الأموال وطارت معها المشاريع.
وخلال نهاية الأسبوع الماضي ستنجح زيارة ملكية مفاجئة للمستشفى العسكري بالرباط في الإطاحة برأسين كبيرين لم تفلح في الإطاحة بهما كل المواقع الإلكترونية التي أسسها أطباء وممرضون عسكريون غاضبون ظلوا يفضحون فيها سوء التسيير والفساد في المستشفى العسكري.
وهكذا اكتشف الملك بنفسه أن جهاز السكانير معطل، وأن قسم المستعجلات لا يوجد به أحد. فصدر أمر بإعفاء الجنرال عرشان، المفتش العام للصحة، ومعه الجنرال توبان، الطبيب الرئيسي بالمستشفى من مهامهما. وتم تعويضهما بالجنرال عبروق كمفتش عام للصحة بينما تم تنصيب الكولونيل ماجور هشيم طبيبا رئيسيا للمستشفى العسكري.
وإذا كان هذا هو حال المستشفى العسكري الذي تعد ميزانيته إحدى أهم الميزانيات المرصودة لقطاع الصحة في المغرب، فإن حال المستشفيات الحكومية قد يدفع بالملك إذا ما قرر زيارة أحدها بشكل مفاجئ إلى إقالة وزيرة الصحة من منصبها.
وإذا كان جهاز السكانير لا يعمل في المستشفى العسكري فإن مستشفى ابن سينا يفتقر هذه الأيام حتى إلى «البطادين». وأصبح الممرضون في قسم المستعجلات يستقبلون الجرحى بأيدهم الفارغة. ويبدو أن الأمور إذا استمرت على هذا النحو فإن المستشفى قد يلجأ إلى العودة إلى استعمال التحميرة لإغلاق جروح عباد الله ووقف نزيفهم.
وبما أن شهر رمضان هو شهر الصيام عند البعض وشهر «التغلاق» عند البعض الآخر، فإن احتمالات زيارة المستعجلات تصبح مضاعفة. خصوصا بسبب حالات التسمم الناجمة عن استهلاك مواد فاقدة للصلاحية. وما وقع في طنجة مع بداية رمضان عندما تسمم حوالي خمسة عشر مواطنا بسبب استهلاكهم للحليب، خير دليل على ما نقول. وشخصيا اكتشفت بفضل هذا الخبر أنني كنت مخطئا عندما اتهمت وكالة المغرب العربي للأنباء بانعدام المهنية في تعاطيها مع الأخبار. خصوصا وأنني لاحظت أن قصاصة الوكالة كانت مكتوبة بتقشف كبير، بحيث لم تذكر لا نوع الحليب ولا الشركة التي تنتجه ولا أسماء مؤسسيها أو مالكي أسهمها. فاستغربت كل هذا «الصواب» الذي نزل فجأة على الخباشي مدير الوكالة، والذي لم يدخر جهدا في الجمع بين شبكة لتبييض وتهريب العملة وبين «المساء» في قصاصته المشهورة التي رددتها معه كببغاوات نشرة القناة الثانية وبعض الصحف الصفراء.
والواقع أن المهنية الصحافية ومسؤولية إخبار المواطنين تقتضي إطلاعهم على اسم الحليب الفاسد الذي تسبب في التسمم الجماعي لكل أولئك المواطنين، واسم الشركة التي تنتجه. وبعد ذلك يجب على المصالح المختصة أن تسحب كل الكميات المتوفرة في الأسواق بطنجة حرصا على سلامة المستهلكين، خصوصا وأن الضحايا اشتروا الحليب الفاسد من أسواق ممتازة مختلفة. تماما مثلما حدث مع زيت عباد الشمس التي جمعتها شركة «لويسور كريسطال» من الأسواق المغربية بعدما جمعتها المصالح المختصة في فرنسا وإسبانيا بسبب اكتشاف مواد سامة بها.
وقد كان على الخباشي ووكالته أن يشربا حليب السباع كما شرباه مع «المساء»، وأن يسميا الحليب الذي تسبب في تسميم كل هؤلاء المواطنين باسمه الصحيح. أولا حتى لا يختلط الأمر على المستهلك فيعتقد أن الحليب الذي يستهلكه هو المقصود، وثانيا حتى تبقى شروط المنافسة بين شركات إنتاج الحليب متساوية، لا أن يتسبب نوع من الحليب في تسميم المواطنين وتدفع جميع الشركات ثمن هذا الخطأ. وفي فرنسا مثلا عندما تتسبب مادة غذائية في تسمم المواطنين يتحرك الإعلام العمومي لإخبار المواطنين باسم المادة المقصودة، وتتخذ الشركة المنتجة قرارا مستعجلا بجمع كل الكميات الموزعة على الأسواق من أجل تدميرها، حفاظا على الصحة العامة للمواطنين.
ولذلك فقد كان على الخباشي أن يحرر قصاصته ويحرص على الإشارة إلى أن الحليب المقصود هو حليب «سنترال» الذي تنتجه شركة «سانتراليتيير» التابعة لمجموعة أونا. ولن نطالبه بمزيد من الشرح حول أسماء المساهمين في هذه المجموعة وصفاتهم، حتى لا يجد نفسه واقفا في الصف الطويل الذي يقف فيه خلال هذا الشهر المسؤولون المطرودون والموقوفون عن مزاولة عملهم.
ويبدو أن التوقيفات والتنقيلات لا تقتصر في هذا الشهر فقط على كبار المسؤولين، فحتى صغارهم وصلهم حقهم من «العواشر». وهكذا تمت إحالة رجلي أمن على المعهد الملكي للشرطة بالقنيطرة مع بداية رمضان لقضاء ستة أشهر في إعادة التكوين، بعد أن «ترمضنا» خلال قيام الملك بجولة في شوارع الرباط، ونسي أحدهما إعطاء التحية بينما نسي الآخر تطبيق الأوامر التي جاءته عبر جهاز «التيلي والكي» وتسبب في خلق فوضى وازدحام في الشارع.
وإذا كان الملك قد دخل المستشفى العسكري بالرباط ولم يعثر على أحد، فأعفى الطبيب الرئيسي والمفتش العام للصحة، فإن الملك عندما أنهى الدرس الحسني في اليوم الأول من رمضان في الرباط وخرج لم يعثر على فكري حارسه الشخصي في مكانه، فصدر أمر بتوقيفه عن العمل. وقبل أن يصبح الصباح كان مدير عام أمن القصور والإقامات الملكية قد طار من مكانه وعوضه والي أمن فاس السابق.
ويبدو أن رمضان هو الشهر المفضل عند الملك للقيام بترتيب مديرية أمن قصوره. فخلال رمضان الماضي تعرض الحارس الشخصي للملك لعقوبة توقيفه شهرا عن العمل، بعدما ضبطه يتحدث في هاتفه النقال. ولم تقف العقوبة عند الحارس الشخصي بل وصلت شظاياها إلى مهراد، مدير عام أمن القصور بالنيابة، الذي وجد نفسه خارج أسوار القصر ليحل محله عبد الرحيم معاذ، والذي طار قبل أن يسخن مكانه بسبب خطأ في البروتوكول.
ويبدو أن خطوات الملك التي تجلب لبعض المؤسسات خلال هذا الشهر الخلاص من مسؤوليها العاجزين عن تدبير شؤون المواطنين، تحتاجها الكثير من المؤسسات والإدارات العمومية.
ولو أننا كنا نحن من كتب عن تردي الخدمات الصحية في المستشفى العسكري بالرباط، لخرج لنا من يصلبنا في جرائد الرصيف ويتهمنا بتقليل الحياء على المؤسسة العسكرية ومحاولة النيل من سمعتها. أما وقد ذهب الملك برجليه في جوف الليل ليتفقد المستشفى العسكري من الداخل، فإن حماة المؤسسة العسكرية سيغلقون أفواههم وكأن لاشيء وقع. وها قد مر أسبوع عن وقوع هذا التغيير الكبير في هرم مؤسسة مهمة كالمستشفى العسكري ولم نقرأ قصاصة واحدة في وكالة الخباشي حول الموضوع.
ربما لأن مثل هذه «الخطوات» الملكية المفاجئة لا تدخل ضمن النشاط الملكي المبرمج الذي تعودت الوكالة على تغطيته.
وهذا طبيعي مادام أن وكالة الخباشي تجيد التغطية الإعلامية وليس التعرية.

0 التعليقات:

إرسال تعليق