الاثنين، 9 نوفمبر 2009

الحاضي الله

الحاضي الله

اختار الفارون التسعة من سجن القنيطرة توقيتا مناسبا لتنفيذ عملية «الهروب الكبير». فقد انتظروا مغادرة وزير العدل عبد الواحد الراضي رفقة ثلاثين مسؤولا يمثلون قطاع العدل والسجون وقطاعات حكومية أخرى إلى جنيف للخضوع للامتحان الدوري العسير أمام مجلس حقوق الإنسان في قصر الأمم المتحدة، لكي يتسللوا مع خيوط الفجر الأولى عبر نفق طويل يربط بين زنزانتهم وحديقة بيت مدير السجن.
وسيكون من باب الجهل بأمور الحفر الاعتقاد بأن السجناء التسعة الذين فروا من زنزانتهم قد بدؤوا عملية ورشهم قبل يومين. لأن حفر نفق طوله ثلاثين مترا تحت الأرض وقطره لا يقل عن نصف متر،عملية تتطلب شهورا طويلة من العمل الشاق والحذر. ولعل السؤال الذي سيحير لجنة البحث والتقصي التي تحقق في عملية الفرار لتحديد المسؤوليات، هو مصير كل تلك الأتربة التي استخرجها الحفارون من باطن الأرض. مما يعني أن عملية الحفر كانت مدروسة بشكل دقيق. فهناك الحفارون وهناك من تكفل بالتخلص من الأتربة، وربما هناك من ساهم في إدخال أدوات الحفر. فمن غير المعقول أن نتصور أن المعتقلين التسعة كانوا يحفرون الأرض بالملاعق فقط. والأخطر من ذلك ربما هناك من مد السجناء برسومات هندسية للسجن. فالدقة التي نفذ بها السجناء عملية الحفر دون الاصطدام بالأساسات أو الخروج في الواد الحار أو التماس مع الأسلاك الكهربائية وأنابيب الماء، تبعث على الشك في كون السجناء كانوا يحفرون وفق مخطط مدروس للخروج في الحديقة. حيث كان ينتظرهم من سيأخذهم إلى حيث سيختبئون إلى أن تهدأ العاصفة.
وشخصيا ما أثارني في عملية الهروب هذه، والتي يعجز خيال أغلب مخرجينا السينمائيين عن تصورها، هو تلك الطريقة المهذبة في الاعتذار لإدارة السجن. لذلك قرروا أن يتركوا خلفهم رسالة دبلوماسية يعتذرون من خلالها عن الإزعاج الذي قد يكونون تسببوا فيه بذلك النفق الطويل الذي حفروه وبتلك الحفرة التي نبشوا في حديقة السيد المدير.
وهو أدب لا نراه حتى في أوراش البناء التي تقوم بها المؤسسات الرسمية والشركات العمومية. فنادرا ما نرى لافتة تتقدم أوراش البناء والحفر تعتذر للمواطنين عن الإزعاج الناتج عن الأشغال.
ومؤخرا أصبحنا نرى منفذي عمليات الهروب من السجون وعمليات السطو على البنوك يكشفون عن نوع نادر من «الصواب» في تعاملهم مع الأماكن التي يسرقونها أو يفرون منها. ولعلكم تتذكرون ذلك الشاب الذي حاول سرقة وكالة للتجاري وفابنك بالدار البيضاء، وترك ورقة مكتوب عليها بالإنجليزية والعربية جملا يعتذر فيها عما قام به ويبرر محاولته تلك بحاجته الماسة للمال، ويطلب من مدير البنك أن يتفهم ظروفه.
لكن «الصواب» الذي كتب به الجهاديون الفارون من سجن القنيطرة رسالتهم الحائطية، يوازيه تهديد مبطن غاية في الخطورة. وهو أن أية محاولة لإيذائهم سيعقبها رد فعل للإيذاء من جانبهم. وهنا يجب أخذ كلام الهاربين على محمل الجد، بالنظر إلى أن أغلبهم محكوم بعقوبات قصوى وليس لديهم ما يخسرونه.
حسب بعض أعضاء اللجنة المشتركة بين الدرك الملكي والأمن والعدل الذين عاينوا طول النفق وعمق الحفرة الذي يصل إلى ثلاثة أمتار، فإن الرمال والأتربة المستخرجة من باطن الأرض توازي حمولة أكثر من شاحنة. وما تم التوصل إليه من أكياس الرمال في أحد ممرات السجن لا يتعدى حمولة شاحنة واحدة، فأين اختفت الخناشي الأخرى يا ترى. وحسب ما نشرته إحدى الجرائد أمس فإن المعتقلين السلفيين كانوا يجمعون الأتربة التي يستخرجونها من النفق في أكياس ويضعونها بشكل متفرق في ممرات داخل السجن أمام أعين حراسه. مما حول حسب مصادر الجريدة السجن المركزي بالقنيطرة إلى مقلع رملي «بلا خبار» كريم غلاب وزارة التجهيز.
عملية الفرار السينمائية هذه، التي تأتي بعد عملية فرار تاجر المخدرات الدولي المدعو «النيني»، وعمليات فرار مشابهة، تؤكد شيئا واحدا لا ثاني له، وهو أن مجموعة من المؤسسات السجنية تعرف حالة غير مسبوقة من التسيب والفوضى. خصوصا وأن منصب المدير العام للسجون ظل شاغرا منذ أن تم تعيين عبد النبوي على رأس مديرية الشؤون الجنائية والعفو. فيما اكتفى عبد الواحد الراضي بإسناد الإشراف المباشر لحوالي 70 ألف سجين مغربي للكاتب العام لوزارة العدل محمد لديدي.
إن ما يقع اليوم في سجون المغرب من عمليات فرار على الطريقة الهوليودية يكشف أن هناك استهتارا للمسؤولين عن هذا القطاع بالأمن العام للمغاربة. بمعنى أن الوقت قد حان ليتم رفع الغطاء عن هذه المؤسسة العقابية التي أصبحت تعطي عن المغرب صورة البلد الذي تنزل فيه درجة اليقظة الأمنية إلى ما دون الصفر.
لو وقعت عملية فرار مشابهة في دولة ديمقراطية غير المغرب، بنفس الطريقة وبكل تلك الشاحنات من الأتربة والرمال التي تحول السجن إلى مقلع حقيقي أو ورش بناء غير قانوني، لرأينا المسؤول عن إدارة السجون أول من يقدم استقالته على الفور. لأن الأمر لا يتعلق بمعتقلين عاديين، وإنما بمعتقلين مصنفين خطر، ومحكومين بعقوبات قاسية كالإعدام والمؤبد استطاعوا أن يقفزوا فوق سور السجن بعد أن يقطعوا الأسلاك الشائكة دون أن تلتقطهم كاميرا المراقبة المثبتة فوق برج المراقبة، ولا أن ينبح عليهم كلب الحراسة، الذي اختفى بقدرة قادر أياما قليلة قبل تنفيذ عملية الهروب.
ومن غريب الصدف أن اليوم الذي هرب فيه المعتقلون التسعة عبر النفق الذي حفروه، صادف نشر جريدة «الأحداث المغربية» على صدر صفحتها الأولى لصورة يظهر فيها مواطنون من قرية تغزوت بنواحي أزيلال ينوبون عن الدولة في حفر ممر جبلي لفتح الطريق وكسر عزلتهم عن العالم.
ومادام هناك سجناء في السجون المغربية لديهم كل هذه الشهية للحفر، لماذا تحتفظ بهم وزارة العدل داخل زنازينهم بدون عمل. لقد كان أجدى وأفضل للمواطنين والدولة أن تقترح وزارة العدل على السجناء العمل خارج السجن بمقابل معقول يستجيب لمعايير الشغل، كأن يحفروا الطرق والمسالك ليفكوا العزلة عن القرى المنسية. عوض الجلوس في زنازينهم والاكتفاء بالتفكير طيلة الوقت في الهروب بحفر الأنفاق تحت حديقة مدير السجن.
في الصين التي تقدس العمل، هناك حوالي تسعة ملايين سجين يشتغلون يوميا داخل سجونهم ويساهمون في رفع معدل النمو الاقتصادي. طبعا دون الحديث عن مئات الملايين الأخرى من المواطنين المعتقلين في مصانعهم ومعاملهم وشركاتهم طيلة حياتهم. وفي إسبانيا يتنافس السجناء للحصول على عمل داخل السجن، لأن ذلك يساهم في تخفيض عقوبتهم السجنية، فكل يوم عمل يعني حذف يوم من الحبس، إضافة إلى أن أيام العمل يتم احتسابها في تعويضات البطالة والتقاعد.
وعندنا في المغرب تصلح السجون فقط لتكديس المعتقلين مثل السردين في غرف ضيقة لا تحترم آدمية الإنسان. ولعل وزير العدل مدعو لقراءة ما قاله شيخ المعتقلين السياسيين محمد بوكرين مباشرة بعد خروجه من السجن بعفو ملكي، عندما قال أن المساحة المخصصة لكل سجين هي شبر وأربعة أصابع، وليس متر ونصف كما قال عبد الواحد الراضي. وعلى رأي المثل المغربي «سال المجرب لا تسال الطبيب». وشخصيا ما أثار انتباهي في المقارنة التي عقدها بوكرين بين سجون الستينات والسبعينات وسجون اليوم هو أنه في سجون الأمس كانت الأقلام والأوراق متوفرة بما يكفي للسجناء، أما اليوم فليس هناك ما هو أندر من الأوراق والأقلام في سجون المملكة. وطبعا لا نتحدث عن أوراق النيبرو، فهذه موجودة بكميات وافرة وبأسعار في المتناول. فبعض المسؤوليين حولوا المؤسسات السجنية التي يشرفون عليها إلى أسواق مفتوحة لترويج كل أصناف المخدرات والمشروبات الكحولية تدر عليهم أرباحا بالملايين.
هناك اليوم في المغرب عشرات الآلاف من السجناء عاطلون عن العمل، وعشرات الآلاف من الجنود الذين لا يغادرون ثكناتهم. ماذا لو فكرت الدولة في استغلال كل هذه السواعد والأذرع في شق الطرق وبناء المستشفيات والمدارس في العالم القروي، عوض الاكتفاء بالتفرج على المواطنين يشمرون على أذرعهم ويحفرون الطرق بوسائلهم الخاصة.
عندما نرى صورة هؤلاء المواطنين يشقون الطرق نيابة عن وزارة التجهيز، ونرى صورة ذلك النفق الذي حفره السجناء تحت الأرض وحولوا معه السجن إلى مقلع للرمال بدون علم وزارة التجهيز، نشك حقيقة في أن الدولة قدمت استقالتها وأوكلت شق الطرق للمواطنين وحراسة السجناء للعناية الإلهية. ولا يملك المرء إزاء مثل هذه الأخبار سوى أن يقول ما كان يقوله أجدادنا دائما «الحاضي الله» والسلام.

0 التعليقات:

إرسال تعليق