الثلاثاء، 10 نوفمبر 2009

أعراض ستوكولم

أعراض ستوكولم

لكي أفهم الهجمة الأخيرة لكل من وزير الاتصال خالد الناصري ورئيس مجلس حقوق الإنسان أحمد حرزني، على الصحافة المستقلة واتهامها بخرق ميثاق أخلاقيات المهنة ونشرها للإحباط بين المغاربة، كان علي أن أخصص ظهيرة يوم السبت السينمائية لإعادة مشاهدة فيلم «لوست كوشن» لمخرجه «أنج لي». تدور أحداث الفيلم خلال الحرب العالمية الثانية، عندما كانت أجزاء من الصين محتلة من طرف اليابان. ويحكي الفيلم قصة طالبة جميلة تنتمي إلى فرقة مسرحية جامعية، تم تكليفها من طرف رفاقها في إحدى الخلايا الشيوعية باختراق الوسط الاجتماعي الذي ينتمي إليه أحد أخطر وأهم المتعاونين مع المحتل الياباني، لتسهيل عملية تصفيته.
لكن نجاح الطالبة الجميلة في ربط علاقة سرية بالعميل الذي لا يتحرك إلا تحت حراسة مشددة، أوقعها في حب هذا الأخير، والذي كان يتلذذ في خلواته الحميمية معها بإعادة حكي تفاصيل جلسات التعذيب التي يقوم بها شخصيا ضد الرفاق الشيوعيين الذين يستنطقهم. فوجدت الطالبة نفسها موزعة بين حب جلادها وحبها لمبادئها وأفكارها السياسية.
وعندما جاءت الفرصة الذهبية لتصفية العميل من طرف رفاق الطالبة المسلحين، وكانت كل أسباب النجاح متوفرة للعملية، همست الطالبة في أذن جلادها أن ينجو بنفسه، لأن هناك من يريد تصفيته. فاستطاع الجلاد أن يهرب في الوقت المناسب، وأعطى الأمر لإغلاق المنطقة واستنطاق كل من كان متواجدا بالمكان. بعد ساعات سيتم إلقاء القبض على أعضاء الخلية ومعهم الطالبة التي «خانها» قلبها في آخر لحظة. ومباشرة سيوقع الجلاد على قرار إعدامهم خارج المدينة رميا بالرصاص.
أحد علماء النفس الأوربيين ويدعى ستوكولم، توصل عبر أبحاث علمية عديدة من خلال تحليل سلوك عدد كبير من الضحايا، إلى أن بعض الضحايا الذين يتعرضون للتعذيب على أيدي جلاديهم ينتهون بالسقوط في حب هؤلاء الجلادين عوض كراهيتهم. ولهذا سمي هذا المرض الغامض على اسم مخترعه ودخل موسوعة الطب النفسي تحت اسم «أعراض ستوكولم».
وفي المغرب لدينا بعض المعتقلين السياسيين السابقين الذين يعانون من هذه الأعراض دون أن يكون هناك من ينبهم إلى ضرورة مراجعة طبيب نفساني لكي يساعدهم على التخلص منها. ولذلك نراهم يتسابقون في ما بينهم في التعبير عن حبهم الجارف للمؤسسات والأشخاص الذين كانوا في السابق سببا في اعتقالهم وتعذيبهم، واغتيال رفاقهم.
يحكي «ميكيافيلي» في كتابه الممتع «الأمير» حول هؤلاء الأشخاص المعارضين الذين يكونون في فترة ما من حياتهم معادين للأمير وأفكاره، مستعدين لتصفيته جسديا والانقضاض على جميع سلطه. ينبه «ميكيافيلي» إلى خطورة مثل هؤلاء الأشخاص، ليس بالنظر إلى كونهم خصوما للأمير، ولكن ينبه إلى خطورتهم عندما يصبحون أصدقاء للأمير. هنا يتحولون إلى خطر على أصدقائهم القدامى وحتى على الشعب، لأنهم يصبحون مستعدين للتطرف في مواقفهم من أجل الظهور أمام الأمير بمظهر الذئاب التي تحولت إلى حملان وتخلت عن أنيابها ومخالبها.
عندما استقبل الحسن الثاني رحمه الله عبد الرحمان اليوسفي في قصره، قدمه لأفراد عائلته على طاولة العشاء، وهو يبتسم قائلا «أقدم لكم أكبر تاجر سلاح في المغرب، لقد كان يريد قتلي وأنا كافأته بتعيينه وزيرا أول». وضحك الجميع لروح الدعابة في كلام الحسن الثاني، لكن طيلة وجود اليوسفي في الحكومة فعل المستحيل لكي يمحو تفاصيل تلك الصورة التي توجد في مخيلة الحسن الثاني عنه، كرجل فكر في اللجوء إلى السلاح لتصفية الحسن الثاني وعائلته. وبدأ في تقديم تنازلات سياسية كبرى، انتهت بحزبه من أول قوة سياسية في البلاد إلى الرتبة الخامسة كما شاهد الجميع في الانتخابات الأخيرة.
لا يجب أن ننسى هنا أنه في عهد عبد الرحمان اليوسفي صدر أسوأ قانون للصحافة في تاريخ المغرب. مع أنه كان يجمع بين الوزارة الأولى ورئاسة جريدتي الحزب. ولكي يظهر إخلاصه للعرش منع ثلاث جرائد دفعة واحدة هي «لوجورنال» و«الصحيفة» و«دومان» لإقدامها على نشر رسالة الفقيه البصري رحمه الله التي يقول فيها أن أقطاب الاتحاد الاشتراكي كانوا يتآمرون مع أوفقير للإطاحة بالحسن الثاني.
كما أغمض اليوسفي عينه عن متابعة ناهبي صناديق الدولة رافعا شعار «عدم مطاردة الساحرات». كما تخلى عن مطلب حزبه الأساسي بخصوص تعديل الدستور والحد من صلاحيات وزارة الداخلية لإجبارها على رفع يدها عن تنظيم الانتخابات. ولعل أحمد حرزني يذكر جيدا كيف تعرض رفيقه بنزكري لأشرس حملة تشهير على صفحات جرائد عبد الرحمان اليوسفي، عندما طالب منتدى الحقيقة والإنصاف الذي كان يترأسه بفتح صفحة الماضي. تلك الصفحة التي كان اليوسفي ضد تقليب مواجعها.
ولم يشف عبد الرحمن اليوسفي من هذا الحب الجارف الذي أصاب قلبه الذي كان ممتلئا عن آخره في السابق بالكره لكل ما يمت للحسن الثاني ونظامه بصلة، إلا عندما ذهب إلى بروكسيل بعد أن فاجأه الملك الشاب بوضع إدريس جطو مكانه في كرسي الوزارة الأولى. فاستعاد المعارض القديم لسانه الذي طواه بعناية داخل فمه لخمس سنوات كاملة. لكن كلماته لم يكن لها الوقع نفسه الذي كان لها في السابق. لأن الشعب الذي رأى كيف ظل اليوسفي ووزراؤه يلعبون دور المشجب الذي يعلق عليه النظام أخطاءه، أدى ثمن هذا التواطؤ من جيبه. وكما يقول المثل «الذي يتلذذ بأكل البيض لا يعرف كم كلف الدجاجة لكي يخرج».
وقد يقول قائل ما علاقة حرزني رئيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان وتصريحاته النارية الأخيرة ضد الصحافة المستقلة وبعض هيئات المجتمع المدني بكل هذا الكلام. العلاقة بسيطة ومعقدة في آن واحد. فحرزني سيظل طيلة حياته مدينا «للأمير» بالمعنى الميكيافيلي للكلمة، بتعيينه بظهير ملكي على رأس مؤسسة مر على رئاستها رجل من حجم بنزكري، سقط هو الآخر في حب جلاديه، لكن كانت لديه اللياقة والأخلاق السياسية لكي يعيش هذا الحب المستحيل دون أن يدوس على أفكاره التي ناضل واعتقل من أجلها.
سيظل حرزني وبعض الذين يعانون معه في صمت من أعراض «مرض ستوكولم»، مدينين للنظام بانتشالهم من البطالة والإفلاس السياسي الذي انتهوا إليه بعدما رأوا كيف انهارت جدران الشيوعية واستبدل أغلب الزعماء مشاريع الثورة بمشاريع الثروة.
إن ذلك المسدس الصدئ الذي ذهب حرزني إلى أكادير في بداية السبعينات لإحضاره من أجل القيام بالثورة المسلحة ضد «الأمير» سيظل نقطة ضعفه الكبيرة والتي ستجعله مستعدا لمهاجمة ليس فقط خصومه وإنما أيضا حتى أصدقائه ورفاقه القدامى الذين تقاسم معهم برودة الزنازين.
وأول من انقلب حرزني عليهم رفيقه بنزكري الذي أشار في التوصية التي وضعها بين يدي الملك للمصادقة عليها إلى ضرورة المصادقة على قانون المحكمة الجنائية الدولية، وصادق الملك على التقرير وأمر بإخراج التوصيات. وعندما حل حرزني مكان رفيقه القديم تنكر لهذه التوصية التي وافق الملك على إخراجها إلى الوجود، وقال بأن المصادقة على المحكمة الجنائية الدولية تهدد السلم الاجتماعي وتتعارض مع مبادئ العدالة الانتقالية. ونسي حرزني أن ما يهدد السلم الاجتماعي اليوم ليست هذه المحكمة ولا الصحافة المستقلة، وإنما هذه الحكومة التي تسببت في خروج الكونفدرالية الديمقراطية للشغل من البرلمان وتهديدها بشن إضراب شامل.
ولذلك فأنا أفهم استئساد حرزني اليوم على الصحافة المستقلة، وأفهم استغلاله لهذه الظروف العصيبة التي تجتازها هذه الصحافة في المغرب حاليا لكي يضيف مسماره إلى مسامير أولئك «المحافظين الجدد» الذين تحدث عنهم وزير الاتصال السابق نبيل بنعبد الله في اعترافاته التي نشرتها «الأيام» مؤخرا. حيث يقر بوجود جهات خارج الحكومة تستغل بعض التجاوزات الصحافية لكي تبرر ضرورة محاصرة الصحافة وقمعها. ولذلك فلا غرابة أن يشهر حرزني والناصري سيف الأخطاء المهنية والإخلال بأخلاق المهنة للمساهمة في تشويه الصحافة المستقلة وشيطنتها أمام الرأي العام.
ولعل ما يثير الدهشة هو تغاضي رئيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان ووزير الاتصال الشيوعي السابق عن أخطاء القضاء التي تشوه سمعة المغرب على الصعيد الدولي، وعن أخطاء الأطباء وأخطاء البناء والتعمير التي تكلف المواطنين حياتهم، وأخطاء الدولة التي أوصلت المغرب إلى هذه الرتب المخجلة في الترتيب العالمي، واقتصارهما فقط على التركيز على أخطاء الصحافيين. وكأن الصحافة المستقلة اليوم هي المسؤولة عن كل مشاكل المغرب، وإذا تم قمعها وإسكاتها فإن المغرب سيتقدم ومشاكله ستعرف طريقها إلى الحل.
إن هذا الخطاب ينطوي على خطورة بالغة، خصوصا بالنسبة لمستقبل المغرب. فليس هناك انتقال ديمقراطي بدون صحافة مستقلة ترافق خطواته وتنبه السلطة إلى تجاوزاتها.
إن من يريد للصحافة المستقلة اليوم أن تغمض عينيها بذريعة أن هذا ضروري لكي يتقدم المغرب، يريد في الواقع أن يعرض البلاد لخطر السير في طريق مليء بالحفر بعصابة فوق العينين.
نحن لسنا مستعدين للعب هذا الدور. لا أخلاقنا ولا مسؤوليتنا التاريخية تسمح لنا بلعب دور الأطرش في الزفة. حتى ولو كلفنا موقفنا هذا الطرد من العرس.

0 التعليقات:

إرسال تعليق