الأربعاء، 11 نوفمبر 2009

المقصرون والمقصرات

المقصرون والمقصرات

بمجرد ما خمدت النيران في محرقة ليساسفة بالدار البيضاء حتى اشتعلت في مقر البرلمان بالرباط. والسبب ليس سيجارة ماركيز كما جاء في تقرير الشرطة حول حريق معمل «روزامور»، وإنما بسبب تماس كهربائي نتج عن سؤال تقدمت به النائبة بسيمة الحقاوي عن فريق العدالة والتنمية لوزير الاتصال اتهمت فيه القناتين التابعتين لوزارته بالرقص على جثث الضحايا ليلة المحرقة، وطالبت فيه بإلغاء الضريبة التي يدفعها المغاربة للقناتين ما دامتا لا تحترمان مشاعرهم.
وزير الاتصال انتفخت أوداجه واحمرت عيناه ورد على النائبة بضرورة تقديمها للاعتذار على إهانتها للحكومة، وهدد باللجوء إلى المتابعة القضائية. وهنا أخذ نائب عن الحركة، الحركة الشعبية وليس حركة الهمة، نقطة نظام وطالب وزير الاتصال بالاعتذار عن تهديده كل من يعارض السياسة الحكومية في البرلمان بجرجرته أمام القضاء.
ما نفهمه من خلال هذه الزوبعة البرلمانية أن قنوات القطب الإعلامي العمومي، المتجمد الإحساس والمتبلد الأفكار، أصبحت هي الأخرى غير قابلة للنقد من طرف المعارضة البرلمانية. وكل من انتقد تفضيل قناتي هذا القطب الإعلامي للرقص والغناء والعيوط ليلة احتراق ما يفوق ستين مواطنا، عليه أن يستعد للوقوف أمام القضاء بتهمة القذف.
والواقع أن الذي يجب أن يلجأ إلى القضاء ليس خالد الناصري وزير الاتصال ضد برلمانيي المعارضة، وإنما جميع جمعيات حماية المستهلك ومنظمات المجتمع المدني الحقوقية ضد فيصل العرايشي رئيس القطب الإعلامي العمومي المتجمد، بتهمة إهانة مشاعر ثلاثين مليون مغربي بتقديم سهرتين راقصتين بينما جثث عشرات المحترقين لم تبرد بعد.
هذا في الوقت الذي خصصت فيه الجزيرة نشرتها المسائية للكارثة، وقامت العربية بنقل التفاصيل مباشرة في نشراتها، وافتتح بها موقع البي بي سي صفحته الرئيسية. إلا قناتي العرايشي، فقد أعطيتا الخبر باقتضاب وذهبت كل واحدة من القناتين إلى سهرة «صامدي صوار» لتتحزم للشطيح والرديح حتى وقت متأخر من الليل.
إن إعلاما عموميا مثل هذا الذي ابتلانا به الله في المغرب لا يستحق فقط أن يمتنع المواطنون عن تمويله وإنما يجب عليهم أيضا أن يتابعوا مديره قضائيا بتهمة التقصير في أداء الواجب، وليس التقصير فقط وإنما أيضا بتهمة التقصار، في وقت يشعر فيه جميع المغاربة بالحزن والأسى بسبب كل خيام العزاء التي انتصبت في الدار البيضاء.
وربما يكون فيصل العرايشي قد اقتنع بكلام أحمد حرزني رئيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، والذي طلب من الإعلام أن يقوم بمهمة رفع معنويات الشعب وتجنب كل ما من شأنه أن ينزلها إلى الأرض. لذلك قرر مدير القطب العمومي أن يترك برامج قناتيه الساهرتين كما هي، لكي «يهز المورال» للمغاربة بالعيوط و«زيد دردك عاود دردك» بعد كل ما شاهدوه من كوارث ذلك السبت.
والواقع أن السهرتين لم يكن ينقصهما سوى حضور أحمد حرزني شخصيا لكي يؤدي أغنية فاطنة بنت الحسين التي تنادي فيها «خوتنا في الإسلام»، مع تعديل بسيط تتطلبه المرحلة تصبح معه الأغنية هكذا «خوتنا في الإعلام هزو لينا المورال زيدو بينا لقدام، إلى خيابت دابا تزيان».
ولعل أحسن مثال على سياسة «هزان المورال» التي تنفذها قنوات القطب الإعلامي المتجمد هو ذلك الروبورتاج الذي قدمته القناة الثانية في إحدى نشرات أخبارها حول إنقاذ ركاب باخرة تعرضت لحادثة في عرض مياه طرفاية يوم الأربعاء الماضي. ومن خلاله نفهم أن عملية إنقاذ المسافرين بالمروحيات تمت بسلام وأن المسافرين استطاعوا أخيرا أن يصلوا إلى موطنهم بجزر الكناري.
هذا ما ظهر في الروبورتاج للرأي العام لكي يشعر بتحسن في المورال بعد كل الأخبار التي ظل يسمعها طيلة نهاية الأسبوع حول تأخر رجال الوقاية المدينة في تقديم المساعدة للضحايا.
لكن الوجه الآخر لهذه الكارثة التي كادت أن تتسبب في احتراق وغرق حوالي مائة وخمسين مسافرا مغربيا وأجنبيا في عرض طرفاية، والذي لم يظهره تلفزيون العرايشي، هو أن المروحيتين اللتين حلقتا فوق الباخرة المشقوقة اقتصرتا على نقل السياح الإسبان نحو العيون، فيما بقي أكثر من مائة مسافر مغربي ومسافرين من جنسيات أخرى ينتظرون إلى أن جاء صيادو طرفاية وأنقذوهم من الغرق عبر قوارب صيدهم التقليدية التي تفتقر إلى أبسط وسائل النجاة.
والغريب في الأمر هو أن المروحيتين نقلتا الرجال أولا وتركتا وراءهما النساء وأطفالهن. وهذا مبدأ جديد من مبادئ الإنقاذ اكتشفه الذين سهروا على هذه العملية. الرجال أولا والنساء والأطفال ثانيا. لا بد أن منسق عملية الإنقاذ هذه، أو بالأحرى ملصقها، لم يشاهد فيلم «تيتانيك».
وهذه ليست أول مرة «تتخير» مروحيات الدرك الملكي بين الضحايا من أجل إنقاذهم، فقد حدث ذلك في أكثر من حادثة سير مميتة، بحيث يتركون الضحايا المغاربة و«يسبقون» الضحايا الأجانب، لأنهم يخشون على صورة أجمل بلد في العالم في الخارج، أما ضحايانا فلا حرج عليهم لأنهم يعرفون خروب بلادهم أكثر من غيرهم.
المهم أن التلفزيون جمع كاميراته وميكروفوناته وذهب، بينما بقي المسافرون حبيسي أحد الفنادق بالعيون منذ ثلاثة أيام إلى الآن. ثلاثة أيام لم يسأل عنهم فيها أي مسؤول مغربي. الأطفال لازالوا يلبسون ثيابهم المبللة التي غادروا بها الباخرة، ولا أثر لأي طبيب أطفال يقدم المساعدة للمرضى بينهم.
والواقع أننا نعاتب قناتينا العموميتين كثيرا ونطالبهما بما لا طاقة لهما به كلما وقعت كارثة في مكان ما من أرجاء الوطن. فكيف لكارثة أن تغطي كارثة.
ولعل الحل الأمثل لمعالجة هذه الكارثة الإعلامية العمومية هي تشكيل لجنة وزارية كما وقع بالنسبة لمحرقة ليساسفة، تكون مهمتها الأساسية هي تحديد المسؤوليات في هذا التقصير والتقصار الإعلامي المستفز الذي أبانت عنه قنوات القطب الإعلامي العمومي المتجمد في القيام بواجب إخبار المواطنين الذين يمولون هذا القطب ويدفعون من جيوبهم الراتب السمين للعرايشي، مدير القطب، الذي يصل إلى عشرة ملايين شهريا، وراتب مصطفى بنعلي مدير القناة الثانية الذي يتجاوز اثني عشر مليون سنتيم في الشهر.
فإذا كان الجميع يطالب بمعاقبة المقصرين في تطبيق القانون بعد «محرقة ليساسفة»، فإن هذا المطلب يجب أن يمتد لتطال أيضا معاقبة المقصرين، والمقصرات، في إخبار الرأي العام بما يقع حولهم.
هكذا سيفهم الذين سيأتون بعدهم الدرس جيدا. لأن ترك المقصرين والمقصرات الذين يفضلون برمجة السهرات على برمجة النشرات الإخبارية عند حدوث الكوارث، بدون عقاب، من شأنه أن يشجعهم في الكوارث المقبلة على مزيد من التقصير والتقصار.

0 التعليقات:

إرسال تعليق